الباحث القرآني

المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ كُلَّ مَن أتى بِفِعْلٍ فَإمّا أنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ الفِعْلِ تَحْصِيلَ خَيْراتِ الدُّنْيا، أوْ تَحْصِيلَ خَيْراتِ الآخِرَةِ، أوْ يَقْصِدَ بِهِ مَجْمُوعَهُما، أوْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ واحِدًا مِنهُما، هَذا هو التَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ، أمّا إنْ قَصَدَ بِهِ تَحْصِيلَ الدُّنْيا فَقَطْ أوْ تَحْصِيلَ الآخِرَةِ فَقَطْ، فاللَّهُ تَعالى ذَكَرَ حُكْمَ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ في هَذِهِ الآيَةِ. أمّا القِسْمُ الثّالِثُ: فَهو يَنْقَسِمُ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ، لِأنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ طَلَبُ الآخِرَةِ راجِحًا أوْ مَرْجُوحًا، أوْ يَكُونَ الطَّلَبانِ مُتَعادِلَيْنِ. أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: وهو أنْ يَكُونَ طَلَبُ الآخِرَةِ راجِحًا، فَهَلْ يَكُونُ هَذا العَمَلُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى ؟ فِيهِ بَحْثٌ، يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِما رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَكى عَنْ رَبِّ العِزَّةِ أنَّهُ قالَ: ”«أنا أغْنى الأغْنِياءِ عَنِ الشِّرْكِ مَن عَمِلَ عَمَلًا أشَرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وشَرِيكَهُ» “ وأيْضًا فَطَلَبُ رِضْوانِ اللَّهِ إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا بِكَوْنِهِ باعِثًا عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ أوْ داعِيًا إلَيْهِ، وإمّا أنْ يُقالَ: ما كانَ كَذَلِكَ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مَدْخَلٌ في ذَلِكَ البَعْثِ والدُّعاءِ، لِأنَّ الحُكْمَ إذا حَصَلَ مُسْنَدًا إلى سَبَبٍ تامٍّ كامِلٍ امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ (p-١٤٥)مَدْخَلٌ فِيهِ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الحامِلُ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ والدّاعِي إلَيْهِ ذَلِكَ المَجْمُوعَ، وذَلِكَ المَجْمُوعُ لَيْسَ هو طَلَبَ رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى، لِأنَّ المَجْمُوعَ الحاصِلَ مِنَ الشَّيْءِ ومِن غَيْرِهِ يَجِبُ كَوْنُهُ مُغايِرًا لِكُلِّ واحِدٍ مِن جُزْئَيْهِ فَهَذا القِسْمُ التَحَقَ بِالقِسْمِ الَّذِي كانَ الدّاعِي إلَيْهِ مُغايِرًا لِطَلَبِ رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَقْبُولًا، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ لَمّا كانَ طَلَبُ الآخِرَةِ راجِحًا عَلى طَلَبِ الدُّنْيا تَعارَضَ المِثْلُ بِالمِثْلِ فَيَبْقى القَدْرُ الزّائِدُ داعِيَةً خالِصَةً لِطَلَبِ الآخِرَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَقْبُولًا، وأمّا إذا كانَ طَلَبُ الدُّنْيا وطَلَبُ الآخِرَةِ مُتَعادِلَيْنِ، أوْ كانَ طَلَبُ الدُّنْيا راجِحًا فَهَذا قَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلّا أنَّهُ عَلى كُلِّ حالٍ خَيْرٌ مِمّا إذا كانَ طَلَبُ الدُّنْيا خالِيًا بِالكُلِّيَّةِ عَنْ طَلَبِ الآخِرَةِ. وأمّا القِسْمُ الرّابِعُ: وهو أنْ يُقالَ إنَّهُ أقْدَمَ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ مِن غَيْرِ داعٍ فَهَذا بِناءً عَلى أنَّ صُدُورَ الفِعْلِ مِنَ القادِرِ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلى حُصُولِ الدّاعِي أمْ لا ؟ فالَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ مُتَوَقِّفٌ قالُوا: هَذا القِسْمُ مُمْتَنِعُ الحُصُولِ، والَّذِينَ قالُوا: إنَّهُ لا يَتَوَقَّفُ قالُوا: هَذا الفِعْلُ لا أثَرَ لَهُ في الباطِنِ وهو مُحَرَّمٌ في الظّاهِرِ لِأنَّهُ عَبَثٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كُلًّا﴾ أيْ: كُلَّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ، والتَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ: ﴿نُمِدُّ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِن عَطاءِ رَبِّكَ﴾ أيْ: أنَّهُ تَعالى يَمُدُّ الفَرِيقَيْنِ بِالأمْوالِ ويُوَسِّعُ عَلَيْهِما في الرِّزْقِ مِثْلَ الأمْوالِ والأوْلادِ وغَيْرِهِما مِن أسْبابِ العِزِّ والزِّينَةِ في الدُّنْيا، لِأنَّ عَطاءَنا لَيْسَ يَضِيقُ عَنْ أحَدٍ مُؤْمِنًا كانَ أوْ كافِرًا لِأنَّ الكُلَّ مَخْلُوقُونَ في دارِ العَمَلِ، فَوَجَبَ إزاحَةُ العُذْرِ وإزالَةُ العِلَّةِ عَنِ الكُلِّ وإيصالُ مَتاعِ الدُّنْيا إلى الكُلِّ عَلى القَدْرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الصَّلاحُ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ عَطاءَهُ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، أيْ: غَيْرَ مَمْنُوعٍ يُقالُ حَظَرَهُ يَحْظُرُهُ، وكُلُّ مَن حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ شَيْءٍ فَقَدْ حَظَرَهُ عَلَيْكَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: المَعْنى: انْظُرْ إلى عَطائِنا المُباحِ إلى الفَرِيقَيْنِ في الدُّنْيا، كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ فَأوْصَلْناهُ إلى مُؤْمِنٍ وقَبَضْناهُ عَنْ مُؤْمِنٍ آخَرَ، وأوْصَلْناهُ إلى كافِرٍ، وقَبَضْناهُ عَنْ كافِرٍ آخَرَ، وقَدْ بَيَّنَ تَعالى وجْهَ الحِكْمَةِ في هَذا التَّفاوُتِ فَقالَ: ﴿نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهم مَعِيشَتَهم في الحَياةِ الدُّنْيا ورَفَعْنا بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: ٣٢] وقالَ في آخِرِ سُورَةِ الأنْعامِ: ﴿ورَفَعَ بَعْضَكم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكم في ما آتاكُمْ﴾ [الأنعام: ١٦٥] . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ولَلْآخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ والمَعْنى: أنَّ تَفاضُلَ الخَلْقِ في دَرَجاتِ مَنافِعِ الدُّنْيا مَحْسُوسٌ، فَتَفاضُلُهم في دَرَجاتِ مَنافِعِ الآخِرَةِ أكْبَرُ وأعْظَمُ، فَإنَّ نِسْبَةَ التَّفاضُلِ في دَرَجاتِ الآخِرَةِ إلى التَّفاضُلِ في دَرَجاتِ الدُّنْيا كَنِسْبَةِ الآخِرَةِ إلى الدُّنْيا، فَإذا كانَ الإنْسانُ تَشْتَدُّ رَغْبَتُهُ في طَلَبِ فَضِيلَةِ الدُّنْيا فَبِأنْ تَقْوى رَغْبَتُهُ في طَلَبِ فَضِيلَةِ الآخِرَةِ أوْلى. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ أنَّ الآخِرَةَ أعْظَمُ وأشْرَفُ مِنَ الدُّنْيا، والمَعْنى أنَّ المُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، والكافِرِينَ يَدْخُلُونَ النّارَ، فَيَظْهَرُ فَضْلُ المُؤْمِنِينَ عَلى الكافِرِينَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أصْحابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وأحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب