الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآتَيْنا مُوسى الكِتابَ وجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ ألّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي ‎وكِيلًا﴾ ﴿ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّ الكَلامَ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ، وفِيها انْتَقَلَ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، ومِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى﴾ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ عَلى سَبِيلِ الغَيْبَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ ألْفاظٍ دالَّةٍ عَلى الحُضُورِ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّه هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ يَدُلُّ عَلى الغَيْبَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿وآتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ إلَخْ يَدُلُّ عَلى الحُضُورِ؛ وانْتِقالُ الكَلامِ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الحُضُورِ وبِالعَكْسِ يُسَمّى صَنْعَةَ الِالتِفاتِ. المسألة الثّانِيَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى في الآيَةِ الأُولى إكْرامَهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِأنْ أسْرى بِهِ، وذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ أكْرَمَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَبْلَهُ بِالكِتابِ الَّذِي آتاهُ، فَقالَ: ﴿وآتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾؛ يَعْنِي التَّوْراةَ، ﴿وجَعَلْناهُ﴾ (p-١٢٣)﴿هُدًى﴾ أيْ: يُخْرِجُهم بِواسِطَةِ ذَلِكَ الكِتابِ مِن ظُلُماتِ الجَهْلِ والكُفْرِ إلى نُورِ العِلْمِ والدِّينِ الحَقِّ، وقَوْلُهُ: ﴿ألّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي ‎وكِيلًا﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: البحث الأوَّلُ: قَرَأ أبُو عَمْرٍو: ”ألّا يَتَّخِذُوا“ بِالياءِ خَبَرًا عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ، والباقُونَ: بِالتّاءِ عَلى الخَطابِ، أيْ قُلْنا لَهم: لا تَتَّخِذُوا. البحث الثّانِي: قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: إنَّ قَوْلَهُ ﴿ألّا تَتَّخِذُوا﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنْ تَكُونَ ”أنْ“ ناصِبَةً لِلْفِعْلِ، فَيَكُونُ المَعْنى: وجَعَلْناهُ هَدًى لِئَلّا تَتَّخِذُوا. وثانِيها: أنْ تَكُونَ ”أنْ“ بِمَعْنى ”أيِ“ الَّتِي لِلتَّفْسِيرِ، وانْصَرَفَ الكَلامُ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ في قِراءَةِ العامَّةِ، كَما انْصَرَفَ مِنها إلى الخِطابِ والأمْرِ في قَوْلِهِ: ﴿وانْطَلَقَ المَلَأُ مِنهم أنِ امْشُوا﴾ [ص: ٦] . فَكَذَلِكَ انْصَرَفَ مِنَ الغَيْبَةِ إلى النَّهْيِ في قَوْلِهِ: ﴿ألّا تَتَّخِذُوا﴾ . وثالِثُها: أنْ تَكُونَ ”أنْ“ زائِدَةً ويُجْعَلَ ”تَتَّخِذُوا“ عَلى القَوْلِ المُضْمَرِ، والتَّقْدِيرُ: وجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ، فَقُلْنا: لا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وكِيلًا. البحث الثّالِثُ: قَوْلُهُ (وكِيلًا) أيْ: رَبًّا تَكِلُونَ أُمُورَكم إلَيْهِ. أقُولُ: حاصِلُ الكَلامِ فِيُ الآيَةِ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ تَشْرِيفَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِالإسْراءِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ تَشْرِيفَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِإنْزالِ التَّوْراةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وصَفَ التَّوْراةَ بِكَوْنِها هُدًى، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ التَّوْراةَ إنَّما كانَ هُدًى لِاشْتِمالِهِ عَلى النَّهْيِ عَنِ اتِّخاذِ غَيْرِ اللَّهِ وكِيلًا، وذَلِكَ هو التَّوْحِيدُ، فَرَجَعَ حاصِلُ الكَلامِ بَعْدَ رِعايَةِ هَذِهِ المَراتِبِ أنَّهُ لا مِعْراجَ أعْلى، ولا دَرَجَةَ أشْرَفُ، ولا مَنقَبَةَ أعْظَمُ - مِن أنْ يَصِيرَ المَرْءُ غَرِقًا في بَحْرِ التَّوْحِيدِ، وأنْ لا يُعَوِّلَ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ إلّا عَلى اللَّهِ، فَإنْ نَطَقَ، نَطَقَ بِذِكْرِ اللَّهِ، وإنْ تَفَكَّرَ، تَفَكَّرَ في دَلائِلِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى، وإنْ طَلَبَ، طَلَبَ مِنَ اللَّهِ، فَيَكُونُ كُلُّهُ لِلَّهِ وبِاللَّهِ، ثم قال: ﴿ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ﴾ وفي نَصْبِ ”ذُرِّيَّةَ“ وجْهانِ: الوجه الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى النِّداءِ، يَعْنِي: يا ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ؛ لِأنَّهُ قالَ: هَذا نِداءٌ. قالَ الواحِدِيُّ: وإنَّما يَصِحُّ هَذا عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِالتّاءِ كَأنَّهُ قِيلَ لَهم: لا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وكِيلًا يا ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السَّفِينَةِ. قالَ قَتادَةُ: النّاسُ كُلُّهم ذُرِّيَّةُ نُوحٍ؛ لِأنَّهُ كانَ مَعَهُ في السَّفِينَةِ ثَلاثَةُ بَنِينَ: سامٌ، وحامٌ، ويافِثُ. فالنّاسُ كُلُّهم مِن ذُرِّيَّةِ أُولَئِكَ، فَكانَ قَوْلُهُ: يا ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ - قائِمًا مَقامَ قَوْلِهِ ”يا أيُّها النّاسُ“ . الوجه الثّانِي: في نَصْبِ قَوْلِهِ ”ذُرِّيَّةَ“ - أنَّ الِاتْخاذَ فِعْلٌ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النِّساءِ: ١٢٥] . والتَّقْدِيرُ: لا تَتَّخِذُوا ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ مِن دُونِي وكِيلًا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أثْنى عَلى نُوحٍ، فَقالَ: ﴿إنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ أيْ: كانَ كَثِيرَ الشُّكْرِ، رُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ إذا أكَلَ قالَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أطْعَمَنِي ولَوْ شاءَ أجاعَنِي“، وإذا شَرِبَ قالَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أسْقانِي ولَوْ شاءَ أظْمَأنِي“، وإذا اكْتَسى قالَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسانِي ولَوْ شاءَ أعْرانِي“، وإذا احْتَذى قالَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَذانِي ولَوْ شاءَ أحْفانِي“، وإذا قَضى حاجَتَهُ قالَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أخْرَجَ عَنِّي أذاهُ في عافِيَةٍ ولَوْ شاءَ حَبَسَهُ“»، ورُوِيَ أنَّهُ كانَ إذا أرادَ الإفْطارَ عَرَضَ طَعامَهُ عَلى مَن آمَنَ بِهِ، فَإنْ وجَدَهُ مُحْتاجًا آثَرَهُ بِهِ. فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ ﴿إنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ ما وجْهُ مُلائَمَتِهِ لِما قَبْلَهُ ؟ (p-١٢٤)قُلْنا: التَّقْدِيرُ كَأنَّهُ قالَ: لا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وكِيلًا ولا تُشْرِكُوا بِي؛ لِأنَّ نُوحًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا، وإنَّما يَكُونُ العَبْدُ شَكُورًا لَوْ كانَ مُوَحِّدًا لا يَرى حُصُولَ شَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ إلّا مِن فَضْلِ اللَّهِ؛ وأنْتُمْ ذُرِّيَّةُ قَوْمِهِ فاقْتَدُوا بِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، كَما أنَّ آباءَكُمُ اقْتَدَوْا بِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب