الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنشُورًا﴾ ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ .
اعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ مَسائِلَ:
المَسْألَةُ الأُولى: في كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا﴾ كانَ مَعْناهُ أنَّ كُلَّ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ مِن دَلائِلَ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ فَقَدْ صارَ مَذْكُورًا. وكُلَّ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ مِن شَرْحِ أحْوالِ الوَعْدِ والوَعِيدِ والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، فَقَدْ صارَ مَذْكُورًا. وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ أُزِيحَتِ الأعْذارُ، وأُزِيلَتِ العِلَلُ فَلا جَرَمَ كُلُّ مَن ورَدَ عَرْصَةَ القِيامَةِ فَقَدْ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونَقُولُ لَهُ: ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ . (p-١٣٤)
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ أوْصَلَ إلى الخَلْقِ أصْنافَ الأشْياءِ النّافِعَةِ لَهم في الدِّينِ والدُّنْيا، مِثْلَ آيَتَيِ اللَّيْلِ والنَّهارِ وغَيْرِهِما كانَ مُنْعِمًا عَلَيْهِمْ بِأعْظَمِ وُجُوهِ النِّعَمِ. وذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ اشْتِغالِهِمْ بِخِدْمَتِهِ وطاعَتِهِ فَلا جَرَمَ كُلُّ مَن ورَدَ عَرْصَةَ القِيامَةِ فَإنَّهُ يَكُونُ مَسْئُولًا عَنْ أعْمالِهِ وأقْوالِهِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: في تَقْرِيرِ النَّظْمِ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ ما خَلَقَ الخَلْقَ إلّا لِيَشْتَغِلُوا بِعِبادَتِهِ كَما قالَ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فَلَمّا شَرَحَ أحْوالَ الشَّمْسِ والقَمَرِ واللَّيْلِ والنَّهارِ، كانَ المَعْنى: إنِّي إنَّما خَلَقْتُ هَذِهِ الأشْياءَ لِتَنْتَفِعُوا بِها فَتَصِيرُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِاشْتِغالِ بِطاعَتِي وخِدْمَتِي، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَن ورَدَ عَرْصَةَ القِيامَةِ سَألْتُهُ أنَّهُ هَلْ أتى بِتِلْكَ الخِدْمَةِ والطّاعَةِ، أوْ تَمَرَّدَ وعَصى وبَغى، فَهَذا هو الوَجْهُ في تَقْرِيرِ النَّظْمِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في تَفْسِيرِ لَفْظِ الطّائِرِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ العَرَبَ إذا أرادُوا الإقْدامَ عَلى عَمَلٍ مِنَ الأعْمالِ وأرادُوا أنْ يَعْرِفُوا أنَّ ذَلِكَ العَمَلَ يَسُوقُهم إلى خَيْرٍ أوْ إلى شَرٍّ اعْتَبَرُوا أحْوالَ الطَّيْرِ وهو أنَّهُ يَطِيرُ بِنَفْسِهِ، أوْ يَحْتاجُ إلى إزْعاجِهِ، وإذا طارَ فَهَلْ يَطِيرُ مُتَيامِنًا أوْ مُتَياسِرًا أوْ صاعِدًا إلى الجَوِّ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأحْوالِ الَّتِي كانُوا يَعْتَبِرُونَها ويَسْتَدِلُّونَ بِكُلِّ واحِدٍ مِنها عَلى أحْوالِ الخَيْرِ والشَّرِّ والسَّعادَةِ والنُّحُوسَةِ، فَلَمّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنهم سُمِّي الخَيْرُ والشَّرُّ بِالطّائِرِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ لازِمِهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ يس: ﴿قالُوا إنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ﴾ [يس: ١٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿قالُوا طائِرُكم مَعَكُمْ﴾ [يس: ١٩] فَقَوْلُهُ: ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ﴾ أيْ: كُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ عَمَلَهُ في عُنُقِهِ. وتَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا الوَجْهِ قِراءَةُ الحَسَنِ ومُجاهِدٍ: ”ألْزَمْناهُ طَيْرَهُ في عُنُقِهِ“ .
القَوْلُ الثّانِي: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الطّائِرُ عِنْدَ العَرَبِ الحَظُّ وهو الَّذِي تُسَمِّيهِ الفُرْسُ البَخْتَ، وعَلى هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى الطّائِرِ ما طارَ لَهُ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، والتَّحْقِيقُ في هَذا البابِ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ الخَلْقَ وخَصَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهم بِمِقْدارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ العَقْلِ والعِلْمِ، والعُمْرِ والرِّزْقِ، والسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ. والإنْسانُ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَتَجاوَزَ ذَلِكَ القَدْرَ وأنْ يَنْحَرِفَ عَنْهُ، بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَصِلَ إلى ذَلِكَ القَدْرِ بِحَسَبِ الكَمِّيَّةِ والكَيْفِيَّةِ، فَتِلْكَ الأشْياءُ المَقْدُورَةُ كَأنَّها تَطِيرُ إلَيْهِ وتَصِيرُ إلَيْهِ، فَبِهَذا المَعْنى لا يَبْعُدُ أنْ يُعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الأحْوالِ المُقَدَّرَةِ بِلَفْظِ الطّائِرِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ﴾ كِنايَةٌ عَنْ أنَّ كُلَّ ما قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى ومَضى في عِلْمِهِ حُصُولُهُ فَهو لازِمٌ لَهُ واصِلٌ إلَيْهِ غَيْرُ مُنْحَرِفٍ عَنْهُ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى أنَّ كُلَّ ما قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى لِلْإنْسانِ وحَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ في سابِقِ عِلْمِهِ فَهو واجِبُ الوُقُوعِ مُمْتَنِعُ العَدَمِ، وتَقْرِيرُهُ مِن وجْهَيْنِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ تَقْدِيرَ الآيَةِ: وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ عَمَلَهُ في عُنُقِهِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ ذَلِكَ العَمَلَ لازِمٌ لَهُ، وما كانَ لازِمًا لِلشَّيْءِ كانَ مُمْتَنِعَ الزَّوالِ عَنْهُ واجِبَ الحُصُولِ لَهُ وهو المَقْصُودُ.
والوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى أضافَ ذَلِكَ الإلْزامَ إلى نَفْسِهِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ألْزَمْناهُ﴾ تَصْرِيحٌ بِأنَّ ذَلِكَ الإلْزامَ إنَّما صَدَرَ مِنهُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وألْزَمَهم كَلِمَةَ التَّقْوى﴾ [الفتح: ٢٦] وهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ لا يَظْهَرُ في الأبَدِ إلّا ما حَكَمَ اللَّهُ بِهِ في الأزَلِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«جَفَّ القَلَمُ بِما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» “ واللَّهُ أعْلَمُ. (p-١٣٥)
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فِي عُنُقِهِ﴾ كِنايَةٌ عَنِ اللُّزُومِ كَما يُقالُ: جَعَلْتُ هَذا في عُنُقِكِ أيْ: قَلَّدْتُكَ هَذا العَمَلَ وألْزَمْتُكَ الِاحْتِفاظَ بِهِ، ويُقالُ: قَلَّدْتُكَ كَذا وطَوَّقْتُكَ كَذا، أيْ: صَرَفْتُهُ إلَيْكَ وألْزَمْتُهُ إيّاكَ، ومِنهُ قَلَّدَهُ السُّلْطانُ كَذا. أيْ: صارَتِ الوِلايَةُ في لُزُومِها لَهُ في مَوْضِعِ القِلادَةِ ومَكانِ الطَّوْقِ، ومِنهُ يُقالُ: فُلانٌ يُقَلِّدُ فُلانًا أيْ: جَعَلَ ذَلِكَ الِاعْتِقادَ كالقِلادَةِ المَرْبُوطَةِ عَلى عُنُقِهِ. قالَ أهْلُ المَعانِي: وإنَّما خَصَّ العُنُقَ مِن بَيْنِ سائِرِ الأعْضاءِ بِهَذا المَعْنى لِأنَّ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ إمّا أنْ يَكُونَ خَيْرًا يَزِينُهُ أوْ شَرًّا يَشِينُهُ، وما يَزِينُ يَكُونُ كالطَّوْقِ والحُلِيِّ، والَّذِي يَشِينُ فَهو كالغُلِّ، فَهَهُنا عَمَلُهُ إنْ كانَ مِنَ الخَيْراتِ كانَ زِينَةً لَهُ، وإنْ كانَ مِنَ المَعاصِي كانَ كالغُلِّ عَلى رَقَبَتِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنشُورًا﴾ قالَ الحَسَنُ: يا ابْنَ آدَمَ بَسَطْنا لَكَ صَحِيفَةً ووُكِّلَ بِكَ مَلَكانِ فَهُما عَنْ يَمِينِكَ وشِمالِكَ. فَأمّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَناتِكَ، وأمّا الَّذِي عَنْ شِمالِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئاتِكَ، حَتّى إذا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ وجُعِلَتْ مَعَكَ في قَبْرِكَ حَتّى تَخْرُجَ لَكَ يَوْمَ القِيامَةِ. قَوْلُهُ: ﴿ونُخْرِجُ لَهُ﴾ أيْ: مِن قَبْرِهِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: نُخْرِجُ لَهُ ذَلِكَ لِأنَّهُ لَمْ يَرَ كِتابَهُ في الدُّنْيا فَإذا بُعِثَ أُظْهِرَ لَهُ ذَلِكَ وأُخْرِجَ مِنَ السَّتْرِ، وقَرَأ يَعْقُوبُ: ”ويَخْرُجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا“ أيْ: يَخْرُجُ لَهُ الطّائِرُ أيْ: عَمَلُهُ كِتابًا مَنشُورًا، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ [التكوير: ١٠] وقَرَأ ابْنُ عُمَرَ: ”يُلَقّاهُ“ مِن قَوْلِهِمْ: لَقَّيْتُ فُلانًا الشَّيْءَ أيِ اسْتَقْبَلْتُهُ بِهِ. قالَ تَعالى: ﴿ولَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ [الإنسان: ١١] وهو مَنقُولٌ بِالتَّشْدِيدِ مِن لَقَّيْتُ الشَّيْءَ ولَقّانِيهِ زَيْدٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ﴾ والتَّقْدِيرُ يُقالُ لَهُ: وهَذا القائِلُ هو اللَّهُ تَعالى عَلى ألْسِنَةِ المَلائِكَةِ ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ﴾ قالَ الحَسَنُ: يَقْرَؤُهُ أُمِّيًّا كانَ أوْ غَيْرَ أُمِّيٍّ، وقالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يُؤْتى بِالمُؤْمِنِ يَوْمَ القِيامَةِ بِصَحِيفَتِهِ وهو يَقْرَؤُها وحَسَناتُهُ في ظَهْرِها يَغْبِطُهُ النّاسُ عَلَيْها، وسَيِّئاتُهُ في جَوْفِ صَحِيفَتِهِ وهو يَقْرَؤُها، حَتّى إذا ظَنَّ أنَّها أوْبَقَتْهُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ”اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُها لَكَ فِيما بَيْنِي وبَيْنَكَ“ فَيَعْظُمُ سُرُورُهُ، ويَصِيرُ مِنَ الَّذِينَ قالَ في حَقِّهِمْ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨ - ٣٩] ثُمَّ يَقُولُ: ﴿هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] .
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ أيْ: مُحاسِبًا. قالَ الحَسَنُ: عَدَلَ واللَّهِ في حَقِّكَ مَن جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ. قالَ السُّدِّيُّ: يَقُولُ الكافِرُ يَوْمَئِذٍ إنَّكَ قَضَيْتَ أنَّكَ لَسْتَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ، فاجْعَلْنِي أُحاسِبُ نَفْسِي فَيُقالُ لَهُ: ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ حُكَماءُ الإسْلامِ: هَذِهِ الآيَةُ في غايَةِ الشَّرَفِ، وفِيها أسْرارٌ عَجِيبَةٌ في أبْحاثٍ:
البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى جَعَلَ فِعْلَ العَبْدِ كالطَّيْرِ الَّذِي يَطِيرُ إلَيْهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى قَدَّرَ لِكُلِّ أحَدٍ في الأزَلِ مِقْدارًا مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، فَذَلِكَ الحُكْمُ الَّذِي سَبَقَ في عِلْمِهِ الأزَلِيِّ وحُكْمِهِ الأزَلِيِّ لا بُدَّ وأنْ يَصِلَ إلَيْهِ، فَذَلِكَ الحُكْمُ كَأنَّهُ طائِرٌ يَطِيرُ إلَيْهِ مِنَ الأزَلِ إلى ذَلِكَ الوَقْتِ، فَإذا حَضَرَ ذَلِكَ الوَقْتُ وصَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الطّائِرُ وصُولًا لا خَلاصَ لَهُ البَتَّةَ ولا انْحِرافَ عَنْهُ البَتَّةَ. وإذا عَلِمَ الإنْسانُ في كُلِّ قَوْلٍ وفِعْلٍ ولَمْحَةٍ وفِكْرَةٍ أنَّهُ كانَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ طائِرٍ طَيَّرَهُ اللَّهُ إلَيْهِ عَلى مَنهَجٍ مُعَيَّنٍ وطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، وأنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَصِلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الطّائِرُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ أنَّ الكِفايَةَ الأبَدِيَّةَ لا تَتِمُّ إلّا بِالعِنايَةِ الأزَلِيَّةِ. (p-١٣٦)
والبَحْثُ الثّانِي: أنَّ هَذِهِ التَّقْدِيراتِ إنَّما تَقَدَّرَتْ بِإلْزامِ اللَّهِ تَعالى. وذَلِكَ بِاعْتِبارِ أنَّهُ تَعالى جَعَلَ لِكُلِّ حادِثٍ حادِثًا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ لِحُصُولِ الحادِثِ المُتَأخِّرِ، فَلَمّا كانَ وضْعُ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ مِنَ اللَّهِ لا جَرَمَ كانَ الكُلُّ مِنَ اللَّهِ، وعِنْدَ هَذا يَتَخَيَّلُ الإنْسانُ طُيُورًا لا نِهايَةَ لَها ولا غايَةَ لِأعْدادِها، فَإنَّهُ تَعالى طَيَّرَها مِن وكْرِ الأزَلِ وظُلُماتِ عالَمِ الغَيْبِ، وأنَّها صارَتْ وطارَتْ طَيَرانًا لا بِدايَةَ لَهُ ولا غايَةَ لَهُ، وكانَ كُلُّ واحِدٍ مِنها مُتَوَجِّهًا إلى ذَلِكَ الإنْسانِ المُعَيَّنِ في الوَقْتِ المُعَيَّنِ بِالصِّفَةِ المُعَيَّنَةِ، وهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ﴾ .
البَحْثُ الثّالِثُ: أنَّ التَّجْرِبَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ تَكْرارَ الأعْمالِ الِاخْتِيارِيَّةِ تُفِيدُ حُدُوثَ المَلَكَةِ النَّفْسانِيَّةِ الرّاسِخَةِ في جَوْهَرِ النَّفْسِ، ألا تَرى أنَّ مَن واظَبَ عَلى تَكْرارِ قِراءَةِ دَرْسٍ واحِدٍ صارَ ذَلِكَ الدَّرْسُ مَحْفُوظًا، ومَن واظَبَ عَلى عَمَلٍ واحِدٍ مُدَّةً مَدِيدَةً صارَ ذَلِكَ العَمَلُ مَلَكَةً لَهُ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: لَمّا كانَ التَّكْرارُ الكَثِيرُ يُوجِبُ حُصُولَ المَلَكَةِ الرّاسِخَةِ وجَبَ أنْ يَحْصُلَ لِكُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأعْمالِ أثَرٌ ما في جَوْهَرِ النَّفْسِ، فَإنّا لَمّا رَأيْنا أنَّ عِنْدَ تَوالِي القَطَراتِ الكَثِيرَةِ مِنَ الماءِ عَلى الحَجَرِ حَصَلَتِ الثُّقْبَةُ في الحَجَرِ، عَلِمْنا أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ القَطَراتِ أثَرًا ما في حُصُولِ ذَلِكَ الثُّقْبِ وإنْ كانَ ضَعِيفًا قَلِيلًا، وإنْ كانَتِ الكِتابَةُ أيْضًا في عُرْفِ النّاسِ عِبارَةً عَنْ نُقُوشٍ مَخْصُوصَةٍ اصْطَلَحَ النّاسُ عَلى جَعْلِها مُعَرِّفاتٍ لِألْفاظٍ مَخْصُوصَةٍ، فَعَلى هَذا، دَلالَةُ تِلْكَ النُّقُوشِ عَلى تِلْكَ المَعانِي المَخْصُوصَةِ دَلالَةٌ كائِنَةٌ جَوْهَرِيَّةٌ واجِبَةُ الثُّبُوتِ، مُمْتَنِعَةُ الزَّوالِ، كانَ الكِتابُ المُشْتَمِلُ عَلى تِلْكَ النُّقُوشِ أوْلى بِاسْمِ الكِتابِ مِنَ الصَّحِيفَةِ المُشْتَمِلَةِ عَلى النُّقُوشِ الدّالَّةِ بِالوَضْعِ والِاصْطِلاحِ.
وإذا عَرَفْتَ هاتَيْنِ المُقَدِّمَتَيْنِ فَنَقُولُ: إنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَصْدُرُ مِنَ الإنْسانِ كَثِيرًا كانَ أوْ قَلِيلًا، قَوِيًّا كانَ أوْ ضَعِيفًا، فَإنَّهُ يَحْصُلُ مِنهُ لا مَحالَةَ في جَوْهَرِ النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ أثَرٌ مَخْصُوصٌ، فَإنْ كانَ ذَلِكَ الأثَرُ أثَرًا لِجَذْبِ جَوْهَرِ الرُّوحِ مِنَ الخَلْقِ إلى حَضْرَةِ الحَقِّ كانَ ذَلِكَ مِن مُوجِباتِ السَّعاداتِ والكَراماتِ. وإنْ كانَ ذَلِكَ الأثَرُ أثَرًا لِجَذْبِ الرُّوحِ مِن حَضْرَةِ الحَقِّ إلى الِاشْتِغالِ بِالخَلْقِ كانَ ذَلِكَ مِن مُوجِباتِ الشَّقاوَةِ والخِذْلانِ. إلّا أنَّ تِلْكَ الآثارَ تَخْفى ما دامَ الرُّوحُ مُتَعَلِّقًا بِالبَدَنِ، لِأنَّ اشْتِغالَ الرُّوحِ بِتَدْبِيرِ البَدَنِ يَمْنَعُ مِنَ انْكِشافِ هَذِهِ الأحْوالِ وتَجَلِّيها وظُهُورِها، فَإذا انْقَطَعَ تَعَلُّقُ الرُّوحِ عَنْ تَدْبِيرِ البَدَنِ فَهُناكَ تَحْصُلُ القِيامَةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن ماتَ فَقَدْ قامَتْ قِيامَتُهُ» “ ومَعْنى كَوْنِ هَذِهِ الحالَةِ قِيامَةً أنَّ النَّفْسَ النّاطِقَةَ كَأنَّها كانَتْ ساكِنَةً مُسْتَقِرَّةً في هَذا الجَسَدِ السُّفْلِيِّ، فَإذا انْقَطَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ، قامَتِ النَّفْسُ وتَوَجَّهَتْ نَحْوَ الصُّعُودِ إلى العالَمِ العُلْوِيِّ، فَهَذا هو المُرادُ مِن كَوْنِ هَذِهِ الحالَةِ قِيامَةً، ثُمَّ عِنْدَ حُصُولِ القِيامَةِ بِهَذا المَعْنى زالَ الغِطاءُ وانْكَشَفَ الوِطاءُ، وقِيلَ لَهُ ﴿فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: ٢٢] وقَوْلُهُ: ﴿ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنشُورًا﴾ مَعْناهُ: ونُخْرِجُ لَهُ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ القِيامَةِ مِن عُمْقِ البَدَنِ المُظْلِمِ كِتابًا مُشْتَمِلًا عَلى جَمِيعِ تِلْكَ الآثارِ الحاصِلَةِ بِسَبَبِ الأحْوالِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ويَكُونُ هَذا الكِتابُ في هَذا الوَقْتِ مَنشُورًا، لِأنَّ الرُّوحَ حِينَ كانَتْ في البَدَنِ كانَتْ هَذِهِ الأحْوالُ فِيهِ مَخْفِيَّةً فَكانَتْ كالمَطْوِيَّةِ. أمّا بَعْدَ انْقِطاعِ التَّعَلُّقِ الجَسَدانِيِّ ظَهَرَتْ هَذِهِ الأحْوالُ وجَلَتْ وانْكَشَفَتْ فَصارَتْ كَأنَّها مَكْشُوفَةٌ مَنشُورَةٌ بَعْدَ أنْ كانَتْ مَطْوِيَّةً، وظاهِرَةٌ بَعْدَ أنْ كانَتْ مَخْفِيَّةً، وعِنْدَ ذَلِكَ تُشاهِدُ القُوَّةُ العَقْلِيَّةُ جَمِيعَ تِلْكَ الآثارِ مَكْتُوبَةً بِالكِتابَةِ الذّاتِيَّةِ في جَوْهَرِ الرُّوحِ فَيُقالُ لَهُ في تِلْكَ الحالَةِ: ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ﴾ ثُمَّ يُقالُ لَهُ: ﴿كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ فَإنَّ تِلْكَ الآثارَ إنْ كانَتْ مِن مُوجِباتِ السَّعادَةِ (p-١٣٧)حَصَلَتِ السَّعادَةُ لا مَحالَةَ، وإنْ كانَتْ مِن مُوجِباتِ الشَّقاوَةِ حَصَلَتِ الشَّقاوَةُ لا مَحالَةَ، فَهَذا تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِحَسَبِ الأحْوالِ الرُّوحانِيَّةِ.
واعْلَمْ أنَّ الحَقَّ أنَّ الأحْوالَ الظّاهِرَةَ الَّتِي ورَدَتْ فِيها الرِّواياتُ حَقٌّ وصِدْقٌ لا مِرْيَةَ فِيها، واحْتِمالُ الآيَةِ لِهَذِهِ المَعانِي الرُّوحانِيَّةِ ظاهِرٌ أيْضًا، والمَنهَجُ القَوِيمُ والصِّراطُ المُسْتَقِيمُ هو الإقْرارُ بِالكُلِّ. واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقائِقِ الأُمُورِ.
{"ayahs_start":13,"ayahs":["وَكُلَّ إِنسَـٰنٍ أَلۡزَمۡنَـٰهُ طَـٰۤىِٕرَهُۥ فِی عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ كِتَـٰبࣰا یَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا","ٱقۡرَأۡ كِتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡیَوۡمَ عَلَیۡكَ حَسِیبࣰا"],"ayah":"وَكُلَّ إِنسَـٰنٍ أَلۡزَمۡنَـٰهُ طَـٰۤىِٕرَهُۥ فِی عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ كِتَـٰبࣰا یَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق