الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فاسْألْ بَنِي إسْرائِيلَ إذْ جاءَهم فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لَأظُنُّكَ يامُوسى مَسْحُورًا﴾ ﴿قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ بَصائِرَ وإنِّي لَأظُنُّكَ يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ ﴿فَأرادَ أنْ يَسْتَفِزَّهم مِنَ الأرْضِ فَأغْرَقْناهُ ومَن مَعَهُ جَمِيعًا﴾ ﴿وقُلْنا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إسْرائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ جِئْنا بِكم لَفِيفًا﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ: (p-٥٤)المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ أيْضًا الجَوابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ حَتّى تَأْتِيَنا بِهَذِهِ المُعْجِزاتِ القاهِرَةِ فَقالَ تَعالى: (إنّا آتَيْنا مُوسى الكِتابَ) مُعْجِزاتٍ مُساوِيَةً لِهَذِهِ الأشْياءِ الَّتِي طَلَبْتُمُوها بَلْ أقْوى مِنها وأعْظَمَ فَلَوْ حَصَلَ في عِلْمِنا أنَّ جَعْلَها في زَمانِكم مَصْلَحَةٌ لَفَعَلْناها كَما فَعَلْنا في حَقِّ مُوسى فَدَلَّ هَذا عَلى أنّا إنَّما لَمْ نَفْعَلْها في زَمانِكم لِعِلْمِنا أنَّهُ لا مَصْلَحَةَ في فِعْلِها. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في القُرْآنِ أشْياءَ كَثِيرَةً مِن مُعْجِزاتِ مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى أزالَ العُقْدَةَ مِن لِسانِهِ، قِيلَ في التَّفْسِيرِ ذَهَبَتِ العُجْمَةُ وصارَ فَصِيحًا. وثانِيها: انْقِلابُ العَصا حَيَّةً. وثالِثُها: تَلْقَفُ الحَيَّةُ حِبالَهم وعِصِيَّهم مَعَ كَثْرَتِها. ورابِعُها: اليَدُ البَيْضاءُ. وخَمْسَةٌ أُخَرُ وهي: الطُّوفانُ والجَرادُ والقُمَّلُ والضَّفادِعُ والدَّمُ. والعاشِرُ: شَقُّ البَحْرِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ﴾ (البَقَرَةِ: ٥٠) . والحادِيَ عَشَرَ: الحَجَرُ وهو قَوْلُهُ: ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الحَجَرَ﴾ (الأعْرافِ: ١٦٠) . الثّانِيَ عَشَرَ: إظْلالُ الجَبَلِ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهم كَأنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ [الأعراف: ١٧١] . والثّالِثَ عَشَرَ: إنْزالُ المَنِّ والسَّلْوى عَلَيْهِ وعَلى قَوْمِهِ. والرّابِعَ عَشَرَ والخامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ونَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ﴾ (الأعْرافِ: ١٣٠) . والسّادِسَ عَشَرَ: الطَّمْسُ عَلى أمْوالِهِمْ مِنَ النَّحْلِ والدَّقِيقِ والأطْعِمَةِ والدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ، رُوِيَ أنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ سَألَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ في مَسْألَةِ التِّسْعِ: حَلَّ عُقْدَةِ اللِّسانِ والطَّمْسَ، فَقالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: هَكَذا يَجِبُ أنْ يَكُونَ الفَقِيهُ، ثُمَّ قالَ: يا غُلامُ أخْرِجْ ذَلِكَ الجِرابَ فَأخْرَجَهُ فَنَفَضَهُ فَإذا فِيهِ بَيْضٌ مَكْسُورٌ نِصْفَيْنِ وجَوْزٌ مَكْسُورٌ وفُولٌ وحِمَّصٌ وعَدَسٌ كُلُّها حِجارَةٌ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في القُرْآنِ هَذِهِ المُعْجِزاتِ السِّتَّةَ عَشَرَ لِمُوسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وقالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ وتَخْصِيصُ التِّسْعَةِ بِالذِّكْرِ لا يَقْدَحُ فِيهِ ثُبُوتُ الزّائِدِ عَلَيْهِ لِأنّا بَيَّنّا في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ تَخْصِيصَ العَدَدِ بِالذِّكْرِ لا يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الزّائِدِ بَلْ نَقُولُ إنَّما يُتَمَسَّكُ في هَذِهِ المَسْألَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ نَقُولُ: أمّا هَذِهِ التِّسْعَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى سَبْعَةٍ مِنها وهي العَصا واليَدُ والطُّوفانُ والجَرادُ والقُمَّلُ والضَّفادِعُ والدَّمُ وبَقِيَ الِاثْنانِ ولِكُلِّ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ قَوْلٌ آخَرُ فِيهِما، ولَمّا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الأحْوالُ مُسْتَنِدَةً إلى حُجَّةٍ ظَنِّيَّةٍ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ يَقِينِيَّةٍ لا جَرَمَ تُرِكَتْ تِلْكَ الرِّواياتُ، وفي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ أقْوالٌ أجْوَدُها ما رَوى صَفْوانُ بْنُ عَسّالٍ أنَّهُ قالَ: «إنَّ يَهُودِيًّا قالَ لِصاحِبِهِ اذْهَبْ بِنا إلى هَذا النَّبِيِّ نَسْألُهُ عَنْ تِسْعِ آياتٍ فَذَهَبا إلى النَّبِيِّ ﷺ وسَألاهُ عَنْها فَقالَ: هُنَّ أنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ولا تَسْرِقُوا ولا تَزْنُوا ولا تَقْتُلُوا ولا تَسْحَرُوا ولا تَأْكُلُوا الرِّبا ولا تَقْذِفُوا المُحْصَنَةَ ولا تُوَلُّوا الفِرارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وعَلَيْكم خاصَّةَ اليَهُودِ أنْ تَعْدِلُوا في السَّبْتِ فَقامَ اليَهُودِيّانِ فَقَبَّلا يَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ وقالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ نَبِيٌّ ولَوْلا نَخافُ القَتْلَ وإلّا اتَّبَعْناكَ» . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فاسْألْ بَنِي إسْرائِيلَ إذْ جاءَهُمْ﴾ فِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: فِيهِ وُجُوهٌ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ اعْتِراضٌ دَخَلَ في الكَلامِ والتَّقْدِيرُ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ - إذْ جاءَ بَنِي إسْرائِيلَ فاسْألْهم - وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلَيْسَ المَطْلُوبُ مِن سُؤالِ بَنِي إسْرائِيلَ أنْ يَسْتَفِيدَ هَذا العِلْمَ مِنهم بَلِ المَقْصُودُ أنَّ يَظْهَرَ لِعامَّةِ اليَهُودِ وعُلَمائِهِمْ صِدْقُ ما ذَكَرَهُ الرَّسُولُ، فَيَكُونُ هَذا السُّؤالُ سُؤالُ اسْتِشْهادٍ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فاسْألْ بَنِي إسْرائِيلَ أيْ سَلْهم عَنْ فِرْعَوْنَ، وقُلْ لَهُ (p-٥٥)أرْسِلْ مَعِي بَنِي إسْرائِيلَ. والوَجْهُ الثّالِثُ: سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ أيْ سَلْهم أنْ يُوافِقُوكَ والتَمِسْ مِنهُمُ الإيمانَ الصّالِحَ، وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ فالتَّقْدِيرُ: فَقُلْنا لَهُ سَلْهم أنْ يُعاضِدُوكَ وتَكُونَ قُلُوبُهم وأيْدِيهِمْ مَعَكَ. البَحْثُ الثّانِي: أمَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِأنْ يَسْألَ بَنِي إسْرائِيلَ مَعْناهُ الَّذِينَ كانُوا مَوْجُودِينَ في زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ والَّذِينَ جاءَهم مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - هُمُ الَّذِينَ كانُوا في زَمانِهِ إلّا أنَّ الَّذِينَ كانُوا في زَمانِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَمّا كانُوا أوْلادَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كانُوا في زَمانِ مُوسى حَسُنَتْ هَذِهِ الكِنايَةُ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ فِرْعَوْنَ قالَ لِمُوسى: ﴿إنِّي لَأظُنُّكَ يامُوسى مَسْحُورًا﴾ وفي لَفْظِ المَسْحُورِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ الفَرّاءُ: إنَّهُ بِمَعْنى السّاحِرِ كالمَشْئُومِ والمَيْمُونِ وذَكَرْنا هَذا في قَوْلِهِ: ﴿حِجابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء: ٤٥] . الثّانِي: أنَّهُ مَفْعُولٌ مِنَ السِّحْرِ، أيْ أنَّ النّاسَ سَحَرُوكَ وخَبَلُوكَ فَتَقُولُ هَذِهِ الكَلَمّاتِ لِهَذا السَّبَبِ. الثّالِثُ: قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ مَعْناهُ أُعْطِيتَ عِلْمَ السِّحْرِ، فَهَذِهِ العَجائِبُ الَّتِي تَأْتِي بِها مِن ذَلِكَ السِّحْرِ ثُمَّ أجابَهُ مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قَرَأ الكِسائِيُّ عَلِمْتُ بِضَمِّ التّاءِ أيْ: عَلِمْتُ أنَّها مِن عِلْمِ اللَّهِ فَإنْ عَلِمْتَ وأقْرَرْتَ وإلّا هَلَكْتَ، والباقُونَ بِالفَتْحِ، وضَمُّ التّاءَ قِراءَةُ عَلِيٍّ، وفَتْحُها قِراءَةُ ابْنُ عَبّاسٍ، وكانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: واللَّهِ ما عَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ ولَكِنْ مُوسى هو الَّذِي عَلِمَ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - فاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ﴾ (النَّمْلِ: ١٤) عَلى أنَّ فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ كانُوا قَدْ عَرَفُوا صِحَّةَ أمْرِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ الزَّجّاجُ: الأجْوَدُ في القِراءَةِ الفَتْحُ؛ لِأنَّ عِلْمَ فِرْعَوْنَ بِأنَّها آياتٌ نازِلَةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ أوْكَدُ في الحُجَّةِ، فاحْتِجاجُ مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عَلى فِرْعَوْنَ بِعِلْمِ فِرْعَوْنَ أوْكَدُ مِنَ الِاحْتِجاجِ بِعِلْمِ نَفْسِهِ، وأجابَ النّاصِرُونَ لِقِراءَةِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَنْ دَلِيلِ ابْنِ عَبّاسٍ فَقالُوا قَوْلُهُ: ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُمُ اسْتَيْقَنُوا شَيْئًا ما، فَأمّا أنَّهُمُ اسْتَيْقَنُوا كَوْنَ هَذِهِ الآياتِ نازِلَةً مِن عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ. وأجابُوا عَنِ الوَجْهِ الثّانِي بِأنَّ فِرْعَوْنَ قالَ ﴿إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ (الشُّعَراءِ: ٢٧) قالَ مُوسى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ فَكَأنَّهُ نَفى ذَلِكَ وقالَ لَقَدْ عَلِمْتَ صِحَّةَ ما أتَيْتُ بِهِ عِلْمًا صَحِيحًا عِلْمَ العُقَلاءِ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآياتِ مِن عِنْدِ اللَّهِ ولا تَشُكَّ في ذَلِكَ بِسَبَبِ سَفاهَتِكَ. البَحْثُ الثّانِي: التَّقْدِيرُ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ الآياتِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: والعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الأقْوامِ. وقَوْلُهُ ﴿بَصائِرَ﴾ أيْ حُجَجًا بَيِّنَةً كَأنَّها بَصائِرُ العُقُولِ، وتَحْقِيقُ الكَلامِ أنَّ المُعْجِزَةَ فِعْلٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ فَعَلَهُ فاعِلُهُ لِغَرَضِ تَصْدِيقِ المُدَّعى، ومُعْجِزاتُ مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - كانَتْ مَوْصُوفَةً بِهَذَيْنَ الوَصْفَيْنِ لِأنَّها كانَتْ أفْعالًا خارِقَةً لِلْعادَةِ، وصَرائِحُ العُقُولِ تَشْهَدُ بِأنَّ قَلْبَ العَصا حَيَّةً مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ لا يَقْدِرُ عَلَيْها إلّا اللَّهُ ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الحَيَّةَ تَلَقَّفَتْ حِبالَ السَّحَرَةِ وعِصِيَّهم عَلى كَثْرَتِها ثُمَّ عادَتْ عَصًا كَما كانَتْ فَأصْنافُ تِلْكَ الأفْعالِ لا يَقْدِرُ عَلَيْها أحَدٌ إلّا اللَّهُ، وكَذا القَوْلُ في فَرْقِ البَحْرِ وإظْلالِ الجَبَلِ فَثَبَتَ أنَّ تِلْكَ الأشْياءَ ما أنْزَلَها إلّا رَبُّ السَّماواتِ. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَها لِتَدُلَّ عَلى صِدْقِ مُوسى في دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ، وهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ حالَ كَوْنِها بَصائِرَ أيْ دالَّةً عَلى صِدْقِ مُوسى في دَعْواهُ، وهَذِهِ الدَّقائِقُ لا يُمْكِنُ فَهْمُها مِنَ القُرْآنِ إلّا بَعْدَ إتْقانِ عِلْمِ الأُصُولِ، وأقُولُ: يَبْعُدُ أنْ يَصِيرَ غَيْرُ عِلْمِ الأُصُولِ العَقْلِيِّ قاهِرًا في تَفْسِيرِ كَلامِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ حَكى تَعالى أنَّ مُوسى قالَ لِفِرْعَوْنَ: ﴿وإنِّي لَأظُنُّكَ يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ واعْلَمْ أنَّ فِرْعَوْنَ (p-٥٦)قالَ لِمُوسى: ﴿إنِّي لَأظُنُّكَ يامُوسى مَسْحُورًا﴾ فَعارَضَهُ مُوسى وقالَ لَهُ: ﴿وإنِّي لَأظُنُّكَ يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ قالَ الفَرّاءُ: المَثْبُورُ المَلْعُونُ المَحْبُوسُ عَنِ الخَيْرِ، والعَرَبُ تَقُولُ ما ثَبَرَكَ عَنْ هَذا أيْ: ما مَنَعَكَ مِنهُ وما صَرَفَكَ، وقالَ أبُو زَيْدٍ: يُقالُ ثَبَرْتُ فُلانًا عَنِ الشَّيْءِ أثْبُرُهُ أيْ: رَدَدْتُهُ عَنْهُ، وقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: هالِكًا، وقالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ ثُبِرَ الرَّجُلُ فَهو مَثْبُورٌ إذا هَلَكَ، والثُّبُورُ الهَلاكُ، ومِن مَعْرُوفِ الكَلامِ فُلانٌ يَدْعُو بِالوَيْلِ والثُّبُورِ عِنْدَ مُصِيبَةٍ تَنالُهُ، وقالَ تَعالى: ﴿دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾ ﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ (الفُرْقانِ: ١٤) واعْلَمْ أنَّ فِرْعَوْنَ لَمّا وصَفَ مُوسى بِكَوْنِهِ مَسْحُورًا أجابَهُ مُوسى بِأنَّكَ مَثْبُورٌ، يَعْنِي: هَذِهِ الآياتُ ظاهِرَةٌ، وهَذِهِ المُعْجِزاتُ قاهِرَةٌ ولا يَرْتابُ العاقِلُ في أنَّها مِن عِنْدِ اللَّهِ وفي أنَّهُ تَعالى إنَّما أظْهَرَها لِأجْلِ تَصْدِيقِي وأنْتَ تُنْكِرُها فَلا يَحْمِلُكَ عَلى هَذا الإنْكارِ إلّا الحَسَدُ والعِنادُ والغَيُّ والجَهْلُ وحُبُّ الدُّنْيا، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَتْ عاقِبَتُهُ الدَّمارُ والثُّبُورُ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَأرادَ أنْ يَسْتَفِزَّهم مِنَ الأرْضِ﴾ يَعْنِي أرادَ فِرْعَوْنُ أنْ يُخْرِجَهم - يَعْنِي مُوسى وقَوْمَهُ بَنِي إسْرائِيلَ -، ومَعْنى تَفْسِيرِ الِاسْتِفْزازِ تَقَدَّمَ في هَذِهِ السُّورَةِ ﴿مِنَ الأرْضِ﴾ يَعْنِي أرْضَ مِصْرَ، قالَ الزَّجّاجُ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ اسْتِفْزازِهِمْ إخْراجَهم مِنهم بِالقَتْلِ أوْ بِالتَّنْحِيَةِ، ثُمَّ قالَ: ﴿فَأغْرَقْناهُ ومَن مَعَهُ جَمِيعًا﴾ المَعْنى ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلّا بِأهْلِهِ﴾ (فاطِرٍ: ٤٣) أرادَ فِرْعَوْنُ أنْ يُخْرِجَ مُوسى مِن أرْضِ مِصْرَ لِتَخْلُصَ لَهُ تِلْكَ البِلادُ، واللَّهُ تَعالى أهْلَكَ فِرْعَوْنَ وجَعَلَ مُلْكَ مِصْرَ خالِصَةً لِمُوسى ولِقَوْمِهِ، وقالَ لِبَنِي إسْرائِيلَ: اسْكُنُوا الأرْضَ خالِصَةً لَكم خالِيَةً مِن عَدُوِّكم قالَ تَعالى: ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ﴾ يُرِيدُ القِيامَةَ ﴿جِئْنا بِكم لَفِيفًا﴾ مِن هَهُنا وهَهُنا، واللَّفِيفُ الجَمْعُ العَظِيمُ مِن أخْلاطٍ شَتّى مِنَ الشَّرِيفِ والدَّنِيءِ والمُطِيعِ والعاصِي والقَوِيِّ والضَّعِيفِ، وكُلُّ شَيْءٍ خَلَطْتَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ فَقَدْ لَفَفْتَهُ، ومِنهُ قِيلَ: لَفَفْتُ الجُيُوشَ إذا ضَرَبْتَ بَعْضَها بِبَعْضٍ، وقَوْلُهُ التَفَّتِ الزُّحُوفُ ومِنهُ التَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ، والمَعْنى جِئْنا بِكم مِن قُبُورِكم إلى المَحْشَرِ أخْلاطًا يَعْنِي جَمِيعَ الخَلْقِ المُسْلِمَ والكافِرَ والبَرَّ والفاجِرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب