الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَنِ اهْتَدى فَإنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ في الآيَةِ الأُولى: ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ﴾ ومَعْناهُ: أنَّ كُلَّ أحَدٍ مُخْتَصٌّ بِعَمَلِ نَفْسِهِ، عَبَّرَ عَنْ هَذا المَعْنى بِعِبارَةٍ أُخْرى أقْرَبَ إلى الأفْهامِ وأبْعَدَ عَنِ الغَلَطِ فَقالَ: ﴿مَنِ اهْتَدى فَإنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها﴾ يَعْنِي أنَّ ثَوابَ العَمَلِ الصّالِحِ مُخْتَصٌّ بِفاعِلِهِ ولا يَتَعَدّى مِنهُ إلى غَيْرِهِ ويَتَأكَّدُ هَذا بِقَوْلِهِ ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ ﴿وأنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى﴾ [النجم: ٣٩ - ٤٠] قالَ الكَعْبِيُّ: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ العَبْدَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ وأنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلى عَمَلٍ بِعَيْنِهِ أصْلًا لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿مَنِ اهْتَدى فَإنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها﴾ إنَّما يَلِيقُ بِالقادِرِ عَلى الفِعْلِ المُتَمَكِّنِ مِنهُ كَيْفَ شاءَ وأرادَ، أمّا المَجْبُورُ عَلى أحَدِ الطَّرَفَيْنِ المَمْنُوعُ مِنَ الطَّرَفِ الثّانِي فَهَذا لا يَلِيقُ بِهِ * * * المُسالَةُ الثّانِيَةُ أنَّهُ تَعالى أعادَ تَقْرِيرَ أنَّ كُلَّ أحَدٍ مُخْتَصٌّ بِأثَرٍ عَلى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ وزَرَ يَزِرُ فَهو وازِرٌ، ووَزَرَ وِزْرًا وزِرَةً، ومَعْناهُ أثِمَ يَأْثَمُ إثْمًا قالَ وفي تَأْوِيلِ الآيَةِ وجْهانِ: الأوَّلُ أنَّ المُذْنِبَ لا يُؤاخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وأيْضًا غَيْرُهُ لا يُؤاخَذُ بِذَنْبِهِ بَلْ كُلُّ أحَدٍ مُخْتَصٌّ بِذَنْبِ نَفْسِهِ. والثّانِي: أنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَعْمَلَ الإنْسانُ بِالإثْمِ لِأنَّ غَيْرَهُ عَمِلَهُ كَما قالَ الكُفّارُ ﴿وكَذَلِكَ ما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ﴾ [الزخرف: ٣٢] . واعْلَمْ أنَّ النّاسَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ في إثْباتِ أحْكامٍ كَثِيرَةٍ الحُكْمُ الأوَّلُ: قالَ الجُبّائِيُّ: في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يُعَذِّبُ الأطْفالَ بِكُفْرِ آبائِهِمْ وإلّا لَكانَ الطِّفْلُ مُؤاخَذًا بِذَنْبِ أبِيهِ وذَلِكَ عَلى خِلافِ ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ الحُكْمُ الثّانِي: رَوى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ ”إنَّ «المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكاءِ أهْلِهِ» “ فَعائِشَةُ طَعَنَتْ في صِحَّةٍ هَذا (p-١٣٨)الخَبَرِ واحْتَجَّتْ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ الطَّعْنِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ فَإنَّ تَعْذِيبَ المَيِّتِ بِسَبَبِ بُكاءِ أهْلِهِ أخْذٌ لِلْإنْسانِ بِجُرْمِ غَيْرِهِ، وذَلِكَ خِلافُ هَذِهِ الآيَةِ. الحُكْمُ الثّالِثُ: قالَ القاضِي: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ الوِزْرَ والإثْمَ لَيْسَ مِن فِعْلِ اللَّهِ تَعالى. وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لامْتَنَعَ أنْ يُؤاخَذَ العَبْدُ بِهِ كَما لا يُؤاخَذُ بِوِزْرِ غَيْرِهِ. وثانِيها: أنَّهُ كانَ يَجِبُ ارْتِفاعُ الوِزْرِ أصْلًا، لِأنَّ الوازِرَ إنَّما يَصِحُّ أنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ إذا كانَ مُخْتارًا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ، ولِهَذا المَعْنى لا يُوصَفُ الصَّبِيُّ بِهَذا. الحُكْمُ الرّابِعُ: أنَّ جَماعَةً مِن قُدَماءَ الفُقَهاءِ امْتَنَعُوا مِن ضَرْبِ الدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ، وقالُوا: لِأنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي مُؤاخَذَةَ الإنْسانِ بِسَبَبِ فِعْلِ الغَيْرِ، وذَلِكَ عَلى مُضادَّةِ هَذِهِ الآيَةِ. وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ المُخْطِئَ لَيْسَ بِمُؤاخَذٍ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ، فَكَيْفَ يَصِيرُ غَيْرُهُ مُؤاخَذًا بِسَبَبِ ذَلِكَ الفِعْلِ، بَلْ ذَلِكَ تَكْلِيفٌ واقِعٌ عَلى سَبِيلِ الِابْتِداءِ مِنَ اللَّهِ تَعالى. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ أصْحابُنا: وُجُوبُ شُكْرِ المُنْعِمِ لا يَثْبُتُ بِالعَقْلِ بَلْ بِالسَّمْعِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ وجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّ الوُجُوبَ لا تَتَقَرَّرُ ماهِيَّتُهُ إلّا بِتَرْتِيبِ العِقابِ عَلى التَّرْكِ، ولا عِقابَ قَبْلَ الشَّرْعِ بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَتَحَقَّقَ الوُجُوبُ قَبْلَ الشَّرْعِ. ثُمَّ أكَّدُوا هَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] وبِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنّا أهْلَكْناهم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبْلِ أنْ نَذِلَّ ونَخْزى﴾ [طه: ١٣٤] . ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذا الِاسْتِدْلالُ ضَعِيفٌ، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنْ نَقُولَ: لَوْ لَمْ يَثْبُتِ الوُجُوبُ العَقْلِيُّ لَمْ يَثْبُتِ الوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ البَتَّةَ، وهَذا باطِلٌ فَذاكَ باطِلٌ، بَيانُ المُلازَمَةِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ إذا جاءَ المُشَرِّعُ وادَّعى كَوْنَهُ نَبِيًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى وأظْهَرَ المُعْجِزَةَ، فَهَلْ يَجِبُ عَلى المُسْتَمِعِ اسْتِماعُ قَوْلِهِ والتَّأمُّلُ في مُعْجِزاتِهِ أوْ لا يَجِبُ ؟ فَإنْ لَمْ يَجِبْ فَقَدْ بَطَلَ القَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ. وإنْ وجَبَ، فَإمّا أنْ يَجِبَ بِالعَقْلِ أوْ بِالشَّرْعِ فَإنْ وجَبَ بِالعَقْلِ فَقَدْ ثَبَتَ الوُجُوبُ العَقْلِيُّ، وإنْ وجَبَ بِالشَّرْعِ فَهو باطِلٌ، لِأنَّ ذَلِكَ الشَّرْعَ إمّا أنْ يَكُونَ هو ذَلِكَ المُدَّعِي أوْ غَيْرَهُ، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّهُ يَرْجِعُ حاصِلُ الكَلامِ إلى أنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِي أنِّي أقُولُ إنَّهُ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِي، وهَذا إثْباتٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ الشّارِعُ غَيْرَهُ كانَ الكَلامُ فِيهِ كَما في الأوَّلِ: ولَزِمَ إمّا الدَّوْرُ أوِ التَّسَلْسُلُ وهُما مُحالانِ. وثانِيها: أنَّ الشَّرْعَ إذا جاءَ وأوْجَبَ بَعْضَ الأفْعالِ، وحَرَّمَ بَعْضَها فَلا مَعْنى لِلْإيجابِ والتَّحْرِيمِ، إلّا أنْ يَقُولَ: لَوْ تَرَكْتَ كَذا وفَعَلْتَ كَذا لَعاقَبْتُكَ فَنَقُولُ: إمّا أنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الِاحْتِرازُ عَنِ العِقابِ أوْ لا يَجِبَ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاحْتِرازُ عَنِ العِقابِ لَمْ يَتَقَرَّرْ مَعْنى الوُجُوبِ البَتَّةَ، وهَذا باطِلٌ فَذاكَ باطِلٌ، وإنْ وجَبَ عَلَيْهِ الِاحْتِرازُ عَنِ العِقابِ، فَإمّا أنْ يَجِبَ بِالعَقْلِ أوْ بِالسَّمْعِ، فَإنْ وجَبَ بِالعَقْلِ فَهو المَقْصُودُ، وإنْ وجَبَ بِالسَّمْعِ لَمْ يَتَقَرَّرْ مَعْنى هَذا الوُجُوبِ إلّا بِسَبَبِ تَرْتِيبِ (p-١٣٩)العِقابِ عَلَيْهِ، وحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّقْسِيمُ الأوَّلُ ويَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وهو مُحالٌ. وثالِثُها: أنَّ مَذْهَبَ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّهُ يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَعْفُوَ عَنِ العِقابِ عَلى تَرْكِ الواجِبِ وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَتْ ماهِيَّةُ الوُجُوبِ حاصِلَةً مَعَ عَدَمِ العِقابِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ: إنَّ ماهِيَّةَ الواجِبِ إنَّما تَتَقَرَّرُ بِسَبَبِ حُصُولِ الخَوْفِ مِنَ العِقابِ، وهَذا الخَوْفُ حاصِلٌ بِمَحْضِ العَقْلِ، فَثَبَتَ أنَّ ماهِيَّةَ الوُجُوبِ إنَّما تَحْصُلُ بِسَبَبِ هَذا الخَوْفِ، وثَبَتَ أنَّ هَذا الخَوْفَ حاصِلٌ بِمُجَرَّدِ العَقْلِ، فَلَزِمَ أنْ يُقالَ: الوُجُوبُ حاصِلٌ بِمَحْضِ العَقْلِ. فَإنْ قالُوا: ماهِيَّةُ الوُجُوبِ إنَّما تَتَقَرَّرُ بِسَبَبِ حُصُولِ الخَوْفِ مِنَ الذَّمِّ ؟ قُلْنا: إنَّهُ تَعالى إذا عَفا فَقَدْ سَقَطَ الذَّمُّ، فَعَلى هَذا ماهِيَّةُ الوُجُوبِ إنَّما تَتَقَرَّرُ بِسَبَبِ حُصُولِ الخَوْفِ مِنَ الذَّمِّ وذَلِكَ حاصِلٌ بِمَحْضِ العَقْلِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ الوُجُوبَ العَقْلِيَّ لا يُمْكِنُ دَفْعُهُ. وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: في الآيَةِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنْ نُجْرِيَ الآيَةَ عَلى ظاهِرِها. ونَقُولُ: العَقْلُ هو رَسُولُ اللَّهِ إلى الخَلْقِ، بَلْ هو الرَّسُولُ الَّذِي لَوْلاهُ لَما تَقَرَّرَتْ رِسالَةُ أحَدٍ مِنَ الأنْبِياءِ، فالعَقْلُ هو الرَّسُولُ الأصْلِيُّ، فَكانَ مَعْنى الآيَةِ: وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولَ العَقْلِ. والثّانِي: أنْ نُخَصِّصَ عُمُومَ الآيَةِ فَنَقُولُ: المُرادُ وما كُنّا مُعَذِّبِينَ في الأعْمالِ الَّتِي لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَةِ وُجُوبِها إلّا بِالشَّرْعِ إلّا بَعْدَ مَجِيءِ الشَّرْعِ، وتَخْصِيصُ العُمُومِ وإنْ كانَ عُدُولًا عَنِ الظّاهِرِ إلّا أنَّهُ يَجِبُ المَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ قِيامِ الدَّلائِلِ، وقَدْ بَيَّنّا قِيامَ الدَّلائِلِ الثَّلاثَةِ، عَلى أنّا لَوْ نَفَيْنا الوُجُوبَ العَقْلِيَّ لَزِمَنا نَفْيُ الوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ، واللَّهُ أعْلَمُ. واعْلَمْ أنَّ الَّذِي نَرْتَضِيهِ ونَذْهَبُ إلَيْهِ أنَّ مُجَرَّدَ العَقْلِ سَبَبٌ في أنْ يَجِبَ عَلَيْنا فِعْلُ ما يُنْتَفَعُ بِهِ، وتَرْكُ ما يُتَضَرَّرُ بِهِ، أمّا مُجَرَّدُ العَقْلِ لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى اللَّهِ تَعالى شَيْءٌ. وذَلِكَ لِأنّا مَجْبُولُونَ عَلى طَلَبِ النَّفْعِ والِاحْتِرازِ عَنِ الضَّرَرِ، فَلا جَرَمَ كانَ العَقْلُ وحْدَهُ كافِيًا في الوُجُوبِ في حَقِّنا، واللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ طَلَبِ النَّفْعِ والهَرَبِ مِنَ الضَّرَرِ، فامْتَنَعَ أنْ يَحْكُمَ العَقْلُ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ فِعْلٍ أوْ تَرْكِ فِعْلٍ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب