الباحث القرآني

ثم قال تَعالى: ﴿يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ والمُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَعِظُكُمْ﴾ أمْرُهُ تَعالى بِتِلْكَ الثَّلاثَةِ ونَهْيُهُ عَنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ، ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ في الآيَةِ الأُولى: ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النَّحْلِ: ٨٩] . أرْدَفَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ مُشْتَمِلَةً عَلى الأمْرِ بِهَذِهِ الثَّلاثَةِ، والنَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ، كانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ المُرادَ بِكَوْنِ القُرْآنِ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ هو هَذِهِ التَّكالِيفُ السِّتَّةُ، وهي في الحَقِيقَةِ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ مِن زُمْرَةِ المَلائِكَةِ، ومِن نَتائِجِ الأرْواحِ العالِيَةِ القُدْسِيَّةِ، إلّا أنَّهُ دَخَلَ في هَذا العالَمِ خالِيًا عارِيًا عَنِ التَّعَلُّقاتِ، فَتِلْكَ الثَّلاثَةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ بِها هي الَّتِي تُرَقِّيها بِالمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ، وتِلْكَ المَعارِفُ والأعْمالُ هي الَّتِي (p-٨٥)تُرَقِّيها إلى عالَمِ الغَيْبِ وسُرادِقاتِ القُدْسِ، ومُجاوَرَةِ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ في جِوارِ رَبِّ العالَمِينَ، وتِلْكَ الثَّلاثَةُ الَّتِي نَهى اللَّهُ عَنْها هي الَّتِي تَصُدُّها عَنْ تِلْكَ السَّعاداتِ، وتَمْنَعُها عَنِ الفَوْزِ بِتِلْكَ الخَيْراتِ، فَلَمّا أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِتِلْكَ الثَّلاثَةِ، ونَهى عَنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ، فَقَدْ نَبَّهَ عَلى كُلِّ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ المُسافِرُونَ مِن عالَمِ الدُّنْيا إلى مَبْدَأِ عَرْصَةِ القِيامَةِ. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الكَعْبِيُّ: الآيَةُ تَدُّلُ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يَخْلُقُ الجَوْرَ والفَحْشاءَ. وذَلِكَ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى كَيْفَ يَنْهاهم عَمّا يَخْتَرِعُهُ فِيهِمْ، وكَيْفَ يَنْهى عَمّا يُرِيدُ تَحْصِيلَهُ فِيهِمْ ؟ ولَوْ كانَ الأمْرُ كَما قالُوا لَكانَ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَفْعَلُوا خِلافَ ما خَلَقَهُ فِيكم، ويَنْهاكم عَنْ أفْعالٍ خَلَقَها فِيكم، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ باطِلٌ في بَدِيهَةِ العَقْلِ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى، ونَهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ، فَلَوْ أنَّهُ تَعالى أمَرَ بِتِلْكَ الثَّلاثَةِ، ثُمَّ إنَّهُ ما فَعَلَها لَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٤٤ ] . وتَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصَّفِّ: ٣ ] . الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ التَّرَجِّي والتَّمَنِّي، فَإنَّ ذَلِكَ مُحالٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ أنَّهُ تَعالى يَعِظُكم لِإرادَةِ أنْ تَتَذَكَّرُوا طاعَتَهُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يُرِيدُ الإيمانَ مِنَ الكُلِّ. الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى لَوْ صَرَّحَ وقالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى، ولَكِنَّهُ يَمْنَعُ مِنهُ ويَصُدُّ عَنْهُ، ولا يُمَكِّنُ العَبْدَ مِنهُ، ثم قال: ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ، ولَكِنَّهُ يُوجِدُ كُلَّ هَذِهِ الثَّلاثَةِ في العَبْدِ، شاءَ أمْ أبى، وأرادَهُ مِنهُ، ومَنَعَهُ مِن تَرْكِهِ ومِنَ الِاحْتِرازِ عَنْهُ - لَحَكَمَ كُلُّ أحَدٍ عَلَيْهِ بِالرَّكاكَةِ وفَسادِ النَّظْمِ والتَّرْكِيبِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ مُتَعالِيًا عَنْ فِعْلِ القَبائِحِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا النوع مِنَ الِاسْتِدْلالِ كَثِيرٌ، وقَدْ مَرَّ الجَوابُ عَنْهُ. والمُعْتَمَدُ في دَفْعِ هَذِهِ المُشاغَباتِ التَّعْوِيلُ عَلى سُؤالِ الدّاعِي وسُؤالِ العِلْمِ، واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّالِثَةُ: اتَّفَقَ المُتَكَلِّمُونَ مِن أهْلِ السُّنَّةِ ومِنَ المُعْتَزِلَةِ عَلى أنَّ تَذَكُّرَ الأشْياءِ مِن فِعْلِ اللَّهِ، لا مِن فِعْلِ العَبْدِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ هو أنَّ التَّذْكِرَةَ عِبارَةٌ عَنْ طَلَبِ المُتَذَكَّرِ، فَحالَ الطَّلَبُ إمّا أنْ يَكُونَ لَهُ بِهِ شُعُورٌ أوْ لا يَكُونُ لَهُ بِهِ شُعُورٌ، فَإنْ كانَ لَهُ شُعُورٌ فَذَلِكَ الذِّكْرُ حاصِلٌ، والحاصِلُ لا يُطْلَبُ تَحْصِيلُهُ. وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ شُعُورٌ فَكَيْفَ يَطْلُبُهُ بِعَيْنِهِ؛ لِأنَّ تَوْجِيهَ الطَّلَبِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ حالَ ما لا يَكُونُ هو بِعَيْنِهِ مُتَصَوَّرًا - مُحالٌ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ مَعْناهُ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الوَعْظِ أنْ يُقْدِمُوا عَلى تَحْصِيلِ ذَلِكَ التَّذَكُّرِ، فَإذا لَمْ يَكُنِ التَّذَكُّرُ فِعْلًا لَهُ فَكَيْفَ طَلَبَ مِنهُ تَحْصِيلَهُ، وهَذا هو الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ أصْحابُنا عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يُرِيدُ مِنهُ ذَلِكَ. واللَّهُ أعْلَمُ. ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكم كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ ﴿ولا تَكُونُوا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثًا تَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكم أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أرْبى مِن أُمَّةٍ إنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ولَيُبَيِّنَنَّ لَكم يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ . * * * (p-٨٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكم كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ ﴿ولا تَكُونُوا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثًا تَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكم أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أرْبى مِن أُمَّةٍ إنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ولَيُبَيِّنَنَّ لَكم يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا جَمَعَ كُلَّ المَأْمُوراتِ والمَنهِيّاتِ في الآيَةِ الأُولى عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ - ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بَعْضَ تِلْكَ الأقْسامِ، فَبَدَأ تَعالى بِالأمْرِ بِالوَفاءِ بِالعَهْدِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ وُجُوهًا: الأوَّلُ: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: عَهْدُ اللَّهِ هي البَيْعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى الإسْلامِ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾ [الفَتْحِ: ١٠] . أيْ: ولا تَنْقُضُوا أيْمانَ البَيْعَةِ بَعْدَ تَوْكِيدِها، أيْ: بَعْدَ تَوْثِيقِها بِاسْمِ اللَّهِ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنهُ كُلُّ عَهْدٍ يَلْتَزِمُهُ الإنْسانُ بِاخْتِيارِهِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: والوَعْدُ مِنَ العَهْدِ، وقالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ: مَن عاهَدْتَهُ وفِّ بِعَهْدِهِ مُسْلِمًا كانَ أوْ كافِرًا، فَإنَّما العَهْدُ لِلَّهِ تَعالى. الثّالِثُ: قالَ الأصَمُّ: المُرادُ مِنهُ الجِهادُ وما فَرَضَ اللَّهُ في الأمْوالِ مِن حَقٍّ. الرّابِعُ: عَهْدُ اللَّهِ هو اليَمِينُ بِاللَّهِ، وقالَ هَذا القائِلُ: إنَّما يَجِبُ الوَفاءُ بِاليَمِينِ إذا لَمْ يَكُنِ الصَّلاحُ في خِلافِهِ؛ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ: ”«مَن حَلَفَ عَلى يَمِينٍ ورَأى غَيْرَها خَيْرًا مِنها فَلْيَأْتِ الَّذِي هو خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ» “ . الخامِسُ: قالَ القاضِي: العَهْدُ يَتَناوَلُ كُلَّ أمْرٍ يَجِبُ الوَفاءُ بِمُقْتَضاهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ أدِلَّةَ العَقْلِ والسَّمْعِ أوْكَدُ في لُزُومِ الوَفاءِ بِما يَدُلّانِ عَلى وُجُوبِهِ مِنَ اليَمِينِ؛ ولِذَلِكَ لا يَصِحُّ في هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ التَّغَيُّرُ والِاخْتِلافُ، ويَصِحُّ ذَلِكَ في اليَمِينِ، ورُبَّما نَدَبَ فِيهِ خِلافَ الوَفاءِ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ﴾، فَهَذا يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالعُهُودِ الَّتِي يَلْتَزِمُها الإنْسانُ بِاخْتِيارِ نَفْسِهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إذا عاهَدْتُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى، وحِينَئِذٍ لا يَبْقى المَعْنى الَّذِي ذَكَرَهُ القاضِي مُعْتَبَرًا؛ ولِأنَّهُ تَعالى قالَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكم كَفِيلًا﴾ . وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الآيَةَ وارِدَةٌ فِيمَن آمَنَ بِاللَّهِ والرَّسُولِ، وأيْضًا يَجِبُ أنْ لا يُحْمَلَ هَذا العَهْدُ عَلى اليَمِينِ، لِأنّا لَوْ حَمَلْناهُ عَلَيْهِ لَكانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ تَكْرارًا؛ لِأنَّ الوَفاءَ بِالعَهْدِ والمَنعَ مِنَ النَّقْضِ مُتَقارِبانِ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِالفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ التَّرْكِ إلّا إذا قِيلَ: إنَّ الوَفاءَ بِالعَهْدِ عامٌّ فَدَخَلَ تَحْتَهُ اليَمِينُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَصَّ اليَمِينَ بِالذِّكْرِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ أوْلى أنْواعِ العَهْدِ بِوُجُوبِ الرِّعايَةِ، وعِنْدَ هَذا نَقُولُ: الأوْلى أنْ يُحْمَلَ هَذا العَهْدُ عَلى ما يَلْتَزِمُهُ الإنْسانُ بِاخْتِيارِهِ، ويَدْخُلُ فِيهِ المُبايَعَةُ عَلى الإيمانِ بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ، ويَدْخُلُ فِيهِ عَهْدُ الجِهادِ، وعَهْدُ الوَفاءِ بِالمُلْتَزَماتِ مِنَ المَنذُوراتِ والأشْياءِ الَّتِي أكَّدَها بِالحَلِفِ واليَمِينِ. وفي قَوْلِهِ: ﴿ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ مَباحِثُ: البحث الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ وكَّدْتُ وأكَّدْتُ لُغَتانِ جَيِّدَتانِ، والأصْلُ الواوُ، والهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنها. البحث الثّانِي: قالَ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَمِينُ اللَّغْوِ هي يَمِينُ الغَمُوسِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ فَنَهى في هَذِهِ الآيَةِ عَنْ نَقْضِ الأيْمانِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كُلُّ يَمِينٍ قابِلًا لِلْبِرِّ والحِنْثِ، ويَمِينُ الغَمُوسِ غَيْرُ قابِلَةٍ لِلْبِرِّ والحِنْثِ، فَوَجَبَ أنْ لا تَكُونَ مِنَ الأيْمانِ. واحْتَجَّ الواحِدِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ هي قَوْلُ العَرَبِ لا واللَّهِ وبَلى واللَّهِ. قالَ: إنَّما قالَ تَعالى: ﴿بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الأيْمانِ المُؤَكَّدَةِ بِالعَزْمِ وبِالعَقْدِ وبَيْنَ لَغْوِ اليَمِينِ. (p-٨٧)البحث الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ عامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ؛ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ الخَبَرَ دَلَّ عَلى أنَّهُ مَتى كانَ الصَّلاحُ في نَقْضِ الأيْمانِ جازَ نَقْضُها. ثم قال: ﴿وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكم كَفِيلًا﴾ هَذِهِ واوُ الحالِ، أيْ: لا تَنْقُضُوها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ كَفِيلًا عَلَيْكم بِالوَفاءِ، وذَلِكَ أنَّ مَن حَلَفَ بِاللَّهِ تَعالى فَكَأنَّهُ قَدْ جَعَلَ اللَّهَ كَفِيلًا بِالوَفاءِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الحَلِفِ. ثم قال: ﴿إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ وفِيهِ تَرْغِيبٌ وتَرْهِيبٌ، والمُرادُ: فَيُجازِيكم عَلى ما تَفْعَلُونَ؛ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أكَّدَ وُجُوبَ الوَفاءِ وتَحْرِيمَ النَّقْضِ، وقالَ: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: في المُشَبَّهِ بِهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّها امْرَأةٌ مِن قُرَيْشٍ يُقالُ لَها: رايِطَةُ، وقِيلَ: رَيْطَةُ، وقِيلَ: تُلَقَّبُ جَعْراءَ، وكانَتْ حَمْقاءَ تَغْزِلُ الغَزْلَ هي وجَوارِيها، فَإذا غَزَلَتْ وأبْرَمَتْ أمَرَتْهُنَّ فَنَقَضْنَ ما غَزَلْنَ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالمَثَلِ الوَصْفُ دُونَ التَّعْيِينِ؛ لِأنَّ القَصْدَ بِالأمْثالِ صَرْفُ المُكَلَّفِ عَنْهُ إذا كانَ قَبِيحًا، والدُّعاءُ إلَيْهِ إذا كانَ حَسَنًا، وذَلِكَ يَتِمُّ بِهِ مِن دُونِ التَّعْيِينِ. المسألة الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ أيْ: مِن بَعْدِ قُوَّةِ الغَزْلِ بِإبْرامِها وفَتْلِها. المسألة الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿أنْكاثًا﴾ قالَ الأزْهَرِيُّ: واحِدُها نِكْثٌ، وهو الغَزْلُ مِنَ الصُّوفِ والشَّعْرِ يُبْرَمُ ويُنْسَجُ، فَإذا أحْكَمَتِ النَّسِيجَةَ قَطَعَتْها ونَكَثَتْ خُيُوطَها المُبْرَمَةَ ونَفَشَتْ تِلْكَ الخُيُوطَ، وخَلَطَتْ بِالصُّوفِ ثُمَّ غَزَلَتْ ثانِيَةً، والنَّكْثُ المَصْدَرُ، ومِنهُ يُقالُ: نَكَثَ فُلانٌ عَهْدَهُ إذا نَقَضَهُ بَعْدَ إحْكامِهِ، كَما يُنْكَثُ خَيْطُ الصُّوفِ بَعْدَ إبْرامِهِ. المسألة الرّابِعَةُ: في انْتِصابِ قَوْلِهِ: ﴿أنْكاثًا﴾ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: أنْكاثًا مَنصُوبٌ لِأنَّهُ بِمَعْنى المَصْدَرِ؛ لِأنَّ مَعْنى نَكَثَتْ نَقَضَتْ، ومَعْنى نَقَضَتْ نَكَثَتْ، وهَذا غَلَطٌ مِنهُ؛ لِأنَّ الأنْكاثَ: جَمْعُ نِكْثٍ وهو اسْمٌ لا مَصْدَرٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿أنْكاثًا﴾ بِمَعْنى المَصْدَرِ ؟ الثّانِي: قالَ الواحِدِيُّ: أنْكاثًا مَفْعُولٌ ثانٍ، كَما تَقُولُ: كَسَرَهُ أقْطاعًا، وفَرَّقَهُ أجْزاءً عَلى مَعْنى جَعَلَهُ أقْطاعًا وأجْزاءً، فَكَذا هَهُنا قَوْلُهُ: نَقَضَتْ غَزْلَها أنْكاثًا؛ أيْ جَعَلَتْ غَزْلَها أنْكاثًا. الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أنْكاثًا﴾ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ. المسألة الخامِسَةُ: قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذِهِ الآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِما قَبْلَها، والتَّقْدِيرُ: وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، فَإنَّكم إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ مِثْلَ المَرْأةِ الَّتِي غَزَلَتْ غَزْلًا وأحْكَمَتْهُ، فَلَمّا اسْتَحْكَمَ نَقَضَتْهُ فَجَعَلَتْهُ أنْكاثًا. ثم قال تَعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: الدَّخَلُ والدَّغَلُ الغِشُّ والخِيانَةُ. قالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ ما دَخَلَهُ عَيْبٌ، قِيلَ: هو مَدْخُولٌ، وفِيهِ دَخَلٌ، وقالَ غَيْرُهُ: الدَّخَلُ ما أُدْخِلَ في الشَّيْءِ عَلى فَسادٍ. ثم قال: ﴿أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أرْبى مِن أُمَّةٍ﴾، أرْبى أيْ أكْثَرُ؛ مِن رَبا الشَّيْءُ يَرْبُو إذا زادَ، وهَذِهِ الزِّيادَةُ قَدْ تَكُونُ في العَدَدِ وفي القُوَّةِ وفي الشَّرَفِ. قالَ مُجاهِدٌ: كانُوا يُحالِفُونَ الحُلَفاءَ، ثُمَّ يَجِدُونَ مَن كانَ أعَزَّ مِنهم وأشْرَفَ، فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ الأوَّلِينَ، ويُحالِفُونَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ هم أعَزُّ، فَنَهاهُمُ اللَّهُ تَعالى عَنْ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: (أنْ) (p-٨٨)﴿تَكُونَ﴾ مَعْناهُ: أنَّكم تَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكم بِسَبَبِ أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أرْبى مِن أُمَّةٍ في العَدَدِ والقُوَّةِ والشَّرَفِ. فَقَوْلُهُ: ﴿تَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، والمَعْنى: أتَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكم بِسَبَبِ أنَّ أُمَّةً أزْيَدُ في القُوَّةِ والكَثْرَةِ مِن أُمَّةٍ أُخْرى ؟ ثم قال تَعالى: ﴿إنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾ أيْ: بِما يَأْمُرُكم ويَنْهاكم، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الأمْرِ والنَّهْيِ: ﴿ولَيُبَيِّنَنَّ لَكم يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ فَيَتَمَيَّزُ المُحِقُّ مِنَ المُبْطِلِ بِما يَظْهَرُ مِن دَرَجاتِ الثَّوابِ والعِقابِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب