الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِمّا خَلَقَ ظِلالًا وجَعَلَ لَكم مِنَ الجِبالِ أكْنانًا وجَعَلَ لَكم سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وسَرابِيلَ تَقِيكم بَأْسَكم كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكم لَعَلَّكم تُسْلِمُونَ﴾ ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ﴾ ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وأكْثَرُهُمُ الكافِرُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ الإنْسانَ إمّا أنْ يَكُونَ مُقِيمًا أوْ مُسافِرًا، والمُسافِرُ إمّا أنْ يَكُونَ غَنِيًّا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحابُ الخِيامِ والفَساطِيطِ، أوْ لا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ أقْسامٌ ثَلاثَةٌ: أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: فَإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِن بُيُوتِكم سَكَنًا﴾ . وأمّا القِسْمُ الثّانِي: فَإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَ لَكم مِن جُلُودِ الأنْعامِ بُيُوتًا﴾ . أمّا القِسْمُ الثّالِثُ: فَإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِمّا خَلَقَ ظِلالًا﴾ وذَلِكَ لِأنَّ المُسافِرَ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ خَيْمَةٌ يَسْتَظِلُّ بِها فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَسْتَظِلَّ بِشَيْءٍ آخَرَ كالجُدْرانِ والأشْجارِ، وقَدْ يَسْتَظِلُّ بِالغَمامِ كَما قالَ: ﴿وظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الغَمامَ﴾ [البَقَرَةِ: ٥٧] . ثم قال: ﴿وجَعَلَ لَكم مِنَ الجِبالِ أكْنانًا﴾ واحِدُ الكِنانِ كِنٌّ عَلى قِياسِ أحْمالٍ وحِمْلٍ، ولَكِنَّ المُرادَ كُلُّ شَيْءٍ وقى شَيْئًا، ويُقالُ: اسْتَكَنَ وأكَنَّ إذا صارَ في كِنٍّ. واعْلَمْ أنَّ بِلادَ العَرَبِ شَدِيدَةُ الحَرِّ، وحاجَتُهم إلى الظِّلِّ ودَفْعِ الحَرِّ شَدِيدَةٌ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ المَعانِيَ في مَعْرِضِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ، وأيْضًا البِلادُ المُعْتَدِلَةُ والأوْقاتُ المُعْتَدِلَةُ نادِرَةٌ جِدًّا، والغالِبُ إمّا غَلَبَةُ الحَرِّ أوْ غَلَبَةُ البَرْدِ. وعَلى كُلِّ التَّقْدِيراتِ فَلا بُدَّ لِلْإنْسانِ مِن مَسْكَنٍ يَأْوِي إلَيْهِ، فَكانَ الإنْعامُ بِتَحْصِيلِهِ عَظِيمًا. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أمْرَ المَسْكَنِ ذَكَرَ بَعْدَهُ أمْرَ المَلْبُوسِ فَقالَ: ﴿وجَعَلَ لَكم سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وسَرابِيلَ تَقِيكم بَأْسَكُمْ﴾ . السَّرابِيلُ: القُمُصُ واحِدُها سِرْبالٌ، قالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ ما لَبِسْتَهُ فَهو سِرْبالٌ؛ مِن قَمِيصٍ أوْ دِرْعٍ أوْ جَوْشَنٍ أوْ غَيْرِهِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ أنَّهُ جَعَلَ السَّرابِيلَ عَلى قِسْمَيْنِ: أحَدُهُما: ما يَكُونُ واقِيًا مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ. والثّانِي: ما يُتَّقى بِهِ عَنِ البَأْسِ والحُرُوبِ، وذَلِكَ هو الجَوْشَنُ وغَيْرُهُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ القِسْمَيْنِ مِنَ السَّرابِيلِ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ الحَرَّ ولَمْ يَذْكُرِ البَرْدَ ؟ (p-٧٦)أجابُوا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الوجه الأوَّلُ: قالَ عَطاءٌ الخُراسانِيُّ: المُخاطَبُونَ بِهَذا الكَلامِ هُمُ العَرَبُ وبِلادُهم حارَّةٌ، فَكانَتْ حاجَتُهم إلى ما يَدْفَعُ الحَرَّ فَوْقَ حاجَتِهِمْ إلى ما يَدْفَعُ البَرْدَ، كَما قالَ: ﴿ومِن أصْوافِها وأوْبارِها وأشْعارِها﴾ وسائِرُ أنْواعِ الثِّيابِ أشْرَفُ، إلّا أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ ذَلِكَ النوع الأوَّلَ؛ لِأنَّهُ كانَ إلْفَتُهم بِها أشَدَّ، واعْتِيادُهم لِلُبْسِها أكْثَرَ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِن جِبالٍ فِيها مِن بَرَدٍ﴾ [النُّورِ: ٤٣]؛ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ، وما أنْزَلَ مِنَ الثَّلْجِ أعْظَمُ، ولَكِنَّهم كانُوا لا يَعْرِفُونَهُ. والوجه الثّانِي في الجَوابِ: قالَ المُبَرِّدُ: إنَّ ذِكْرَ أحَدِ الضِّدَّيْنِ تَنْبِيهٌ عَلى الآخَرِ. قُلْتُ: ثَبَتَ في العُلُومِ العَقْلِيَّةِ أنَّ العِلْمَ بِأحَدِ الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ العِلْمَ بِالضِّدِّ الآخَرِ، فَإنَّ الإنْسانَ مَتى خَطَرَ بِبالِهِ الحَرُّ خَطَرَ بِبالِهِ أيْضًا البَرْدُ، وكَذا القَوْلُ في النُّورِ والظُّلْمَةِ والسَّوادِ والبَياضِ، فَلَمّا كانَ الشُّعُورُ بِأحَدِهِما مُسْتَتْبِعًا لِلشُّعُورِ بِالآخَرِ، كانَ ذِكْرُ أحَدِهِما مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الآخَرِ. والوجه الثّالِثُ: قالَ الزَّجّاجُ: ما وقى مِنَ الحَرِّ وقى مِنَ البَرْدِ، فَكانَ ذِكْرُ أحَدِهِما مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الآخَرِ. فَإنْ قِيلَ: هَذا بِالضِّدِّ أوْلى؛ لِأنَّ دَفْعَ الحَرِّ يَكْفِي فِيهِ السَّرابِيلُ الَّتِي هي القُمُصُ مِن دُونِ تَكَلُّفِ زِيادَةٍ، وأمّا البَرْدُ فَإنَّهُ لا يَنْدَفِعُ إلّا بِتَكَلُّفٍ زائِدٍ. قُلْنا: القَمِيصُ الواحِدُ لَمّا كانَ دافِعًا لِلْحَرِّ كانَ الِاسْتِكْثارُ مِنَ القَمِيصِ نافِعًا لِلْبَرْدِ، فَصَحَّ ما ذَكَرْناهُ. وقَوْلُهُ: ﴿وسَرابِيلَ تَقِيكم بَأْسَكُمْ﴾ يَعْنِي دُرُوعَ الحَدِيدِ، ومَعْنى البَأْسِ الشِّدَّةُ، ويُرِيدُ هَهُنا شِدَّةَ الطَّعْنِ والضَّرْبِ والرَّمْيِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا عَدَّدَ أقْسامَ نِعْمَةِ الدُّنْيا قالَ: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ: مِثْلَ ما خَلَقَ هَذِهِ الأشْياءَ لَكم، وأنْعَمَ بِها عَلَيْكم فَإنَّهُ يُتِمُّ نِعْمَةَ الدُّنْيا والدِّينِ عَلَيْكم. ﴿لَعَلَّكم تُسْلِمُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَعَلَّكم يا أهْلَ مَكَّةَ تُخْلِصُونَ لِلَّهِ الرُّبُوبِيَّةَ، وتَعْلَمُونَ أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى هَذِهِ الإنْعاماتِ أحَدٌ سِواهُ، ونُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قَرَأ: ”لَعَلَّكم تَسْلَمُونَ“ بِفَتْحِ التّاءِ، والمَعْنى: أنّا أعْطَيْناكم هَذِهِ السَّرابِيلاتِ؛ لِتَسْلَمُوا عَنْ بَأْسِ الحَرْبِ، وقِيلَ: أعْطَيْتُكم هَذِهِ النِّعَمَ؛ لِتَتَفَكَّرُوا فِيها فَتُؤْمِنُوا، فَتَسْلَمُوا مِن عَذابِ اللَّهِ. ثم قال تَعالى: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ﴾ أيْ: فَإنْ تَوَلَّوْا يا مُحَمَّدُ، وأعْرَضُوا وآثَرُوا لَذّاتِ الدُّنْيا ومُتابَعَةَ الآباءِ والمُعاداةَ في الكُفْرِ فَعَلى أنْفُسِهِمْ جَنَوْا ذَلِكَ، ولَيْسَ عَلَيْكَ إلّا ما فَعَلْتَ مِنَ التَّبْلِيغِ التّامِّ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَمَّهم بِأنَّهم يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها، وذَلِكَ نِهايَةٌ في كُفْرانِ النِّعْمَةِ. فَإنْ قِيلَ: ما مَعْنى ”ثُمَّ“ ؟ قُلْنا: الدَّلالَةُ عَلى أنَّ إنْكارَهم أمْرٌ يُسْتَبْعَدُ بَعْدَ حُصُولِ المَعْرِفَةِ؛ لِأنَّ حَقَّ مَن عَرَفَ النِّعْمَةَ أنْ يَعْتَرِفَ لا أنْ يُنْكِرَ، وفي المُرادِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ القاضِي المُرادُ بِها جَمِيعُ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ مِن جَمِيعِ أنْواعِ النِّعَمِ؛ ومَعْنى أنَّهم أنْكَرُوهُ هو أنَّهم ما أفْرَدُوهُ تَعالى بِالشُّكْرِ والعِبادَةِ، بَلْ شَكَرُوا عَلى تِلْكَ النِّعَمِ غَيْرَ اللَّهِ تَعالى. ولِأنَّهم قالُوا: إنَّما حَصَلَتْ هَذِهِ النِّعِمُ بِشَفاعَةِ هَذِهِ الأصْنامِ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ أنَّهم عَرَفُوا أنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ حَقٌّ ثُمَّ يُنْكِرُونَها، ونُبُوَّتُهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَما قالَ تَعالى: (p-٧٧)﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٠٧] . الثّالِثُ: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها، أيْ: لا يَسْتَعْمِلُونَها في طَلَبِ رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى. ثم قال تَعالى: ﴿وأكْثَرُهُمُ الكافِرُونَ﴾ . فَإنْ قِيلَ: ما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وأكْثَرُهُمُ الكافِرُونَ﴾ مَعَ أنَّهُ كانَ كُلُّهم كافِرِينَ ؟ قُلْنا: الجَوابُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: إنَّما قالَ ﴿وأكْثَرُهُمُ﴾؛ لِأنَّهُ كانَ فِيهِمْ مَن لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّكْلِيفِ، أوْ كانَ ناقِصَ العَقْلِ مَعْتُوهًا، فَأرادَ بِالأكْثَرِ البالِغِينَ الأصِحّاءَ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالكافِرِ الجاحِدَ المُعانِدَ، وحِينَئِذٍ نَقُولُ إنَّما قالَ: ﴿وأكْثَرُهُمُ﴾؛ لِأنَّهُ كانَ فِيهِمْ مَن لَمْ يَكُنْ مُعانِدًا، بَلْ كانَ جاهِلًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما ظَهَرَ لَهُ كَوْنُهُ نَبِيًّا حَقًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ. الثّالِثُ: أنَّهُ ذَكَرَ الأكْثَرَ والمُرادُ الجَمِيعُ؛ لِأنَّ أكْثَرَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقامَ الكُلِّ، فَذِكْرُ الأكْثَرِ كَذِكْرِ الجَمِيعِ، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٧٥] . واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب