الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ وما أمْرُ السّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ البَصَرِ أوْ هو أقْرَبُ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ ﴿ألَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ في جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللَّهُ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ في الآيَةِ الأُولى مَثَلَ الكُفّارِ بِالأبْكَمِ العاجِزِ، ومَثَلَ نَفْسِهِ بِالَّذِي يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ يُمْتَنَعُ أنْ يَكُوُنَ آمِرًا بِالعَدْلِ، وأنْ يَكُونَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلّا إذا كانَ كامِلًا في العِلْمِ والقُدْرَةِ - ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بَيانَ كَوْنِهِ كامِلًا في العِلْمِ والقُدْرَةِ، أمّا بَيانُ كَمالِ العِلْمِ فَهو قَوْلُهُ: ﴿ولِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ والمَعْنى: عَلِمَ اللَّهُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿ولِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، مَعْناهُ: أنَّ العِلْمَ بِهَذِهِ الغُيُوبِ لَيْسَ إلّا لِلَّهِ، وأمّا بَيانُ كَمالِ القُدْرَةِ فَقَوْلُهُ: ﴿وما أمْرُ السّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ البَصَرِ أوْ هو أقْرَبُ﴾، والسّاعَةُ: هي الوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ القِيامَةُ، سُمِّيَتْ ساعَةً؛ لِأنَّها تَفْجَأُ الإنْسانَ في ساعَةٍ فَيَمُوتُ الخَلْقُ بِصَيْحَةٍ واحِدَةٍ، وقَوْلُهُ: ﴿إلّا كَلَمْحِ البَصَرِ﴾ اللَّمْحُ: النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ، يُقالُ: لَمَحَهُ بِبَصَرِهِ لَمْحًا ولَمَحانًا، والمَعْنى: وما أمْرُ القِيامَةِ في السُّرْعَةِ إلّا كَطَرْفِ العَيْنِ، والمُرادُ مِنهُ تَقْرِيرُ كَمالِ القُدْرَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿أوْ هو أقْرَبُ﴾ مَعْناهُ: أنَّ لَمْحَ البَصَرِ عِبارَةٌ عَنِ انْتِقالِ الجِسْمِ المُسَمّى بِالطَّرْفِ مِن أعْلى الحَدَقَةِ إلى أسْفَلِها، ولا شَكَّ أنَّ الحَدَقَةَ مُؤَلَّفَةٌ مِن أجْزاءٍ لا تَتَجَزَّأُ، فَلَمْحُ البَصَرِ عِبارَةٌ عَنِ المُرُورِ عَلى جُمْلَةِ تِلْكَ الأجْزاءِ الَّتِي مِنها تَألَّفَ سَطْحُ الحَدَقَةِ، ولا شَكَّ أنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ كَثِيرَةٌ، والزَّمانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ لَمْحُ البَصَرِ مُرَكَّبٌ مِن آناتٍ مُتَعاقِبَةٍ، واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى إقامَةِ القِيامَةِ في آنٍ واحِدٍ مِن تِلْكَ الآناتِ؛ فَلِهَذا قالَ: ﴿أوْ هو أقْرَبُ﴾ . إلّا أنَّهُ لَمّا كانَ أسْرَعُ الأحْوالِ والحَوادِثِ في عُقُولِنا وأفْكارِنا هو لَمْحَ البَصَرِ - لا جَرَمَ ذَكَرَهُ. ثم قال: ﴿أوْ هو أقْرَبُ﴾؛ تَنْبِيهًا عَلى ما ذَكَرْناهُ، ولا شُبْهَةَ في أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ طَرِيقَةَ الشَّكِّ، بِلِ المُرادُ: بَلْ هو أقْرَبُ، وقالَ الزَّجّاجُ: المُرادُ بِهِ الإبْهامُ عَنِ المُخاطَبِينَ أنَّهُ تَعالى يَأْتِي بِالسّاعَةِ إمّا بِقَدْرِ لَمْحِ البَصَرِ أوْ بِما هو أسْرَعُ.
قالَ القاضِي: هَذا لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ إقامَةَ السّاعَةِ لَيْسَتْ حالَ تَكْلِيفٍ حَتّى يُقالُ: إنَّهُ تَعالى يَأْتِي بِها في زَمانٍ، بَلِ الواجِبُ أنْ يَخْلُقَها دُفْعَةً واحِدَةً في وقْتٍ واحِدٍ، ويُفارِقُ ما ذَكَرْناهُ في ابْتِداءِ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ؛ لِأنَّ تِلْكَ الحالَ حالُ تَكْلِيفٍ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أنْ يَخْلُقَها كَذَلِكَ لِما فِيهِ مِن مَصْلَحَةِ المَلائِكَةِ.
* * *
واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاعْتِراضَ إنَّما يَسْتَقِيمُ عَلى مَذْهَبِ القاضِي، أمّا عَلى قَوْلِنا في أنَّهُ تَعالى يَفْعَلُ ما يَشاءُ (p-٧٢)ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ، واللَّهُ أعْلَمُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عادَ إلى الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ المُخْتارِ فَقالَ: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”إمَّهاتِكُمْ“ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، والباقُونَ بِضَمِّها.
المسألة الثّانِيَةُ: ”أُمَّهاتِكُمْ“ أصْلُهُ: أُمّاتِكم، إلّا أنَّهُ زِيدَ الهاءُ فِيهِ كَما زِيدَ في أراقَ فَقِيلَ: أهْراقَ، وشَذَّتْ زِيادَتُها في الواحِدَةِ في قَوْلِهِ:
؎أُمَّهَتِي خِنْدَفُ واليَأْسُ أبِي
المسألة الثّالِثَةُ: الإنْسانُ خُلِقَ في مَبْدَأِ الفِطْرَةِ خالِيًا عَنْ مَعْرِفَةِ الأشْياءِ.
ثم قال: ﴿وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ﴾ المَعْنى: أنَّ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ لَمّا كانَتْ في أوَّلِ الخِلْقَةِ خالِيَةً عَنِ المَعارِفِ والعُلُومِ بِاللَّهِ، فاللَّهُ أعْطاهُ هَذِهِ الحَواسَّ؛ لِيَسْتَفِيدَ بِها المَعارِفَ والعُلُومَ، وتَمامُ الكَلامِ في هَذا البابِ يَسْتَدْعِي مَزِيدَ تَقْرِيرٍ، فَنَقُولُ: التَّصَوُّراتُ والتَّصْدِيقاتُ إمّا أنْ تَكُونَ كَسْبِيَّةً، وإمّا أنْ تَكُونَ بَدِيهِيَّةً، والكَسْبِيّاتُ إنَّما يُمْكِنُ تَحْصِيلُها بِواسِطَةِ تَرْكِيباتِ البَدِيهِيّاتِ، فَلا بُدَّ مِن سَبْقِ هَذِهِ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ، وحِينَئِذٍ لِسائِلٍ أنْ يَسْألَ فَيَقُولَ: هَذِهِ العُلُومُ البَدِيهِيَّةُ إمّا أنْ يُقالَ: إنَّها كانَتْ حاصِلَةً مُنْذَ خُلِقْنا أوْ ما كانَتْ حاصِلَةً. والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنّا بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ أنّا حِينَ كُنّا جَنِينًا في رَحِمِ الأُمِّ ما كُنّا نَعْرِفُ أنَّ النَّفْيَ والإثْباتَ لا يَجْتَمِعانِ، وما كُنّا نَعْرِفُ أنَّ الكُلَّ أعْظَمُ مِنَ الجُزْءِ.
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: فَإنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ هَذِهِ العُلُومَ البَدِيهِيَّةَ حَصَلَتْ في نُفُوسِنا بَعْدَ أنَّها ما كانَتْ حاصِلَةً، فَحِينَئِذٍ لا يُمْكِنُ حُصُولُها إلّا بِكَسْبٍ وطَلَبٍ، وكُلُّ ما كانَ كَسْبِيًّا فَهو مَسْبُوقٌ بِعُلُومٍ أُخْرى، فَهَذِهِ العُلُومُ البَدِيهِيَّةُ تَصِيرُ كَسْبِيَّةً، ويَجِبُ أنْ تَكُونَ مَسْبُوقَةً بِعُلُومٍ أُخْرى إلى غَيْرِ نِهايَةٍ، وكُلُّ ذَلِكَ مُحالٌ، وهَذا سُؤالٌ قَوِيٌّ مُشْكِلٌ.
وجَوابُهُ أنْ نَقُولَ: الحَقُّ أنَّ هَذِهِ العُلُومَ البَدِيهِيَّةَ ما كانَتْ حاصِلَةً في نُفُوسِنا، ثُمَّ إنَّها حَدَثَتْ وحَصَلَتْ.
أما قوله: فَيَلْزَمُ أنْ تَكُونَ كَسْبِيَّةً.
قُلْنا: هَذِهِ المُقَدِّمَةُ مَمْنُوعَةٌ، بَلْ نَقُولُ: إنَّها إنَّما حَدَثَتْ في نُفُوسِنا بَعْدَ عَدَمِها بِواسِطَةِ إعانَةِ الحَواسِّ الَّتِي هي السَّمْعُ والبَصَرُ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ النَّفْسَ كانَتْ في مَبْدَأِ الخِلْقَةِ خالِيَةً عَنْ جَمِيعِ العُلُومِ إلّا أنَّهُ تَعالى خَلَقَ السَّمْعَ والبَصَرَ، فَإذا أبْصَرَ الطِّفْلُ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى ارْتَسَمَ في خَيالِهِ ماهِيَّةُ ذَلِكَ المُبْصَرِ، وكَذَلِكَ إذا سَمِعَ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى ارْتَسَمَ في سَمْعِهِ وخَيالِهِ ماهِيَّةُ ذَلِكَ المَسْمُوعِ، وكَذا الطَّوْلُ في سائِرِ الحَواسِّ فَيَصِيرُ حُصُولُ الحَواسِّ سَبَبًا لِحُضُورِ ماهِيّاتِ المَحْسُوساتِ في النَّفْسِ والعَقْلِ. ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الماهِيّاتِ عَلى قِسْمَيْنِ:
أحَدُ القِسْمَيْنِ: ما يَكُونُ نَفْسُ حُضُورِهِ مُوجِبًا تامًّا في جَزْمِ الذِّهْنِ بِإسْنادِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أوِ الإثْباتِ، مِثْلَ أنَّهُ إذا حَضَرَ في الذِّهْنِ أنَّ الواحِدَ ما هو ؟ وأنَّ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ ما هو ؟ كانَ حُضُورُ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ في الذِّهْنِ عِلَّةً تامَّةً في جَزْمِ الذِّهْنِ بِأنَّ الواحِدَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأنَّهُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وهَذا القِسْمُ هو عَيْنُ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ.
والقِسْمُ الثّانِي: ما لا يَكُونُ كَذَلِكَ وهو العُلُومُ النَّظَرِيَّةُ، مِثْلَ أنَّهُ إذا حَضَرَ في الذِّهْنِ أنَّ الجِسْمَ ما هو ؟ وأنَّ المُحْدَثَ ما هو ؟ فَإنَّ مُجَرَّدَ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ في الذِّهْنِ لا يَكْفِي في جَزْمِ الذِّهْنِ بِأنَّ الجِسْمَ مُحْدَثٌ، بَلْ (p-٧٣)لا بُدَّ فِيهِ مِن دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وعُلُومٍ سابِقَةٍ. والحاصِلُ أنَّ العُلُومَ الكَسْبِيَّةَ إنَّما يُمْكِنُ اكْتِسابُها بِواسِطَةِ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ. وحُدُوثُ هَذِهِ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ إنَّما كانَ عِنْدَ حُدُوثِ تَصَوُّرِ مَوْضُوعاتِها وتَصَوُّرِ مَحْمُولاتِها. وحُدُوثُ هَذِهِ التَّصَوُّراتِ إنَّما كانَ بِسَبَبِ إعانَةِ هَذِهِ الحَواسِّ عَلى جُزْئِيّاتِها، فَظَهَرَ أنَّ السَّبَبَ الأوَّلَ لِحُدُوثِ هَذِهِ المَعارِفِ في النُّفُوسِ والعُقُولِ هو أنَّهُ تَعالى أعْطى هَذِهِ الحَواسَّ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ﴾ لِيَصِيرَ حُصُولُ هَذِهِ الحَواسِّ سَبَبًا لِانْتِقالِ نُفُوسِكم مِنَ الجَهْلِ إلى العِلْمِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، وهَذِهِ أبْحاثٌ شَرِيفَةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ، مُدْرَجَةٌ في هَذِهِ الآياتِ.
وقالَ المُفَسِّرُونَ: ﴿وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ لِتَسْمَعُوا مَواعِظَ اللَّهِ ﴿والأبْصارَ﴾ لِتُبْصِرُوا دَلائِلَ اللَّهِ، ﴿والأفْئِدَةَ﴾ لِتَعْقِلُوا عَظَمَةَ اللَّهِ، والأفْئِدَةُ: جَمْعُ فُؤادٍ نَحْوَ أغْرِبَةٍ وغُرابٍ. قالَ الزَّجّاجُ: ولَمْ يُجْمَعْ فُؤادٌ عَلى أكْثَرِ العَدَدِ، وما قِيلَ فِيهِ فِئْدانٌ، كَما قِيلَ: غُرابٌ غِرْبانٌ. وأقُولُ: لَعَلَّ الفُؤادَ إنَّما جُمِعَ عَلى بِناءِ جَمْعِ القِلَّةِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ كَثِيرانِ، وأنَّ الفُؤادَ قَلِيلٌ؛ لِأنَّ الفُؤادَ إنَّما خُلِقَ لِلْمَعارِفِ الحَقِيقِيَّةِ والعُلُومِ اليَقِينِيَّةِ، وأكْثَرُ الخَلْقِ لَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُونَ مَشْغُولِينَ بِالأفْعالِ البَهِيمِيَّةِ والصِّفاتِ السَّبُعِيَّةِ، فَكَأنَّ فُؤادَهم لَيْسَ بِفُؤادٍ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ ذَكَرَ في جَمْعِهِ صِيغَةَ جَمْعِ القِلَّةِ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أخْرَجَكُمْ﴾، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ جَعْلُ السَّمْعِ والبَصَرِ مُتَأخِّرًا عَنِ الإخْراجِ عَنِ البَطْنِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
والجَوابُ: أنَّ حَرْفَ الواوِ لا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ؛ وأيْضًا إذا حَمَلْنا السَّمْعَ عَلى الِاسْتِماعِ، والأبْصارَ عَلى الرُّؤْيَةِ - زالَ السُّؤالُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
أما قوله: ﴿ألَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ في جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللَّهُ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المسألة الأُولى: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”ألَمْ تَرَوْا“ بِالتّاءِ، والباقُونَ: بِالياءِ عَلى الحِكايَةِ لِمَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الكُفّارِ.
المسألة الثّانِيَةُ: هَذا دَلِيلٌ آخَرُ عَلى كَمالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتِهِ، فَإنَّهُ لَوْلا أنَّهُ تَعالى خَلَقَ الطَّيْرَ خِلْقَةً مَعَها يُمْكِنُهُ الطَّيَرانُ وخَلَقَ الجَوَّ خِلْقَةً مَعَها يُمْكِنُ الطَّيَرانُ فِيهِ لَما أمْكَنَ ذَلِكَ. فَإنَّهُ تَعالى أعْطى الطَّيْرَ جَناحًا يَبْسُطُهُ مَرَّةً ويَكْسِرُهُ أُخْرى، مِثْلَ ما يَعْمَلُهُ السّابِحُ في الماءِ، وخَلَقَ الهَواءَ خِلْقَةً لَطِيفَةً رَقِيقَةً يَسْهُلُ بِسَبَبِها خَرْقُهُ والنَّفاذُ فِيهِ، ولَوْلا ذَلِكَ لَما كانَ الطَّيَرانُ مُمْكِنًا.
وأما قوله تَعالى: ﴿ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللَّهُ﴾ فالمَعْنى: أنَّ جَسَدَ الطَّيْرِ جِسْمٌ ثَقِيلٌ، والجِسْمُ الثَّقِيلُ يَمْتَنِعُ بَقاؤُهُ في الجَوِّ مُعَلَّقًا مِن غَيْرِ دِعامَةٍ تَحْتَهُ ولا عَلاقَةَ فَوْقَهُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُمْسِكُ لَهُ في ذَلِكَ الجَوْهَرِ - اللَّهَ تَعالى. ثُمَّ مِنَ الظّاهِرِ أنَّ بَقاءَهُ في الجَوِّ مُعَلَّقًا فِعْلُهُ، وحاصِلٌ بِاخْتِيارِهِ، فَثَبَتَ أنَّ خالِقَ فِعْلِ العَبْدِ هو اللَّهُ تَعالى. قالَ القاضِي: إنَّما أضافَ اللَّهُ تَعالى هَذا الإمْساكَ إلى نَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ تَعالى هو الَّذِي أعْطى الآلاتِ الَّتِي لِأجْلِها يُمَكِّنُ الطَّيْرَ مِن تِلْكَ الأفْعالِ، فَلَمّا كانَ تَعالى هو المُسَبِّبُ لِذَلِكَ لا جَرَمَ صَحَّتْ هَذِهِ الإضافَةُ إلى اللَّهِ تَعالى.
والجَوابُ: أنَّ هَذا تَرْكٌ لِلظّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وأنَّهُ لا يَجُوزُ، لا سِيَّما والدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ دَلَّتْ عَلى أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى.
(p-٧٤)ثم قال تَعالى في آخَرِ الآيَةِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وخَصَّ هَذِهِ الآياتِ بِالمُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّهم هُمُ المُنْتَفِعُونَ بِها وإنْ كانَتْ هَذِهِ الآياتُ لِكُلِّ العُقَلاءِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":77,"ayahs":["وَلِلَّهِ غَیۡبُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَاۤ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ","وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَیۡـࣰٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ","أَلَمۡ یَرَوۡا۟ إِلَى ٱلطَّیۡرِ مُسَخَّرَ ٰتࣲ فِی جَوِّ ٱلسَّمَاۤءِ مَا یُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱللَّهُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ"],"ayah":"وَلِلَّهِ غَیۡبُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَاۤ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق