الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وهو كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هو ومَن يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أبْطَلَ قَوْلَ عَبَدَةِ الأوْثانِ والأصْنامِ بِهَذا المَثَلِ الثّانِي، وتَقْرِيرُهُ: أنَّهُ كَما تَقَرَّرَ في أوائِلِ العُقُولِ أنَّ الأبْكَمَ العاجِزَ لا يَكُونُ مُساوِيًا في الفَضْلِ والشَّرَفِ لِلنّاطِقِ القادِرِ الكامِلِ مَعَ اسْتِوائِهِما في البَشَرِيَّةِ؛ فَلَأنْ يُحْكَمَ بِأنَّ الجَمادَ لا يَكُونُ مُساوِيًا لِرَبِّ العالَمِينَ في المَعْبُودِيَّةِ كانَ أوْلى. ثُمَّ نَقُولُ: في الآيَةِ مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: أنَّهُ تَعالى وصَفَ الرَّجُلَ الأوَّلَ بِصِفاتٍ: (p-٧٠)الصِّفَةُ الأُولى: الأبْكَمُ، وفي تَفْسِيرِهِ أقْوالٌ، نَقَلَها الواحِدِيُّ: الأوَّلُ: قالَ أبُو زَيْدٍ: رَجُلٌ أبْكَمُ، وهو العَيِيُّ المُقْحَمُ، وقَدْ بَكِمَ بَكَمًا وبَكامَةً، وقالَ أيْضًا: الأبْكَمُ الأقْطَعُ اللِّسانِ وهو الَّذِي لا يُحْسِنُ الكَلامَ. الثّانِي: رَوى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ: الأبْكَمُ الَّذِي لا يَعْقِلُ. الثّالِثُ: قالَ الزَّجّاجُ: الأبْكَمُ المُطْبَقُ الَّذِي لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾ وهو إشارَةٌ إلى العَجْزِ التّامِّ والنُّقْصانِ الكامِلِ. والصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ﴾ أيْ: هَذا الأبْكَمُ العاجِزُ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ. قالَ أهْلُ المَعانِي: أصْلُهُ مِنَ الغِلَظِ الَّذِي هو نَقِيضُ الحِدَّةِ، يُقالُ: كَلَّ السِّكِّينُ إذا غَلُظَتْ شَفْرَتُهُ فَلَمْ يَقْطَعْ، وكَلَّ لِسانُهُ إذا غَلُظَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلى الكَلامِ، وكَلَّ فُلانٌ عَنِ الأمْرِ إذا ثَقُلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْبَعِثْ فِيهِ. فَقَوْلُهُ: ﴿كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ﴾ أيْ: غَلِيظٌ وثَقِيلٌ عَلى مَوْلاهُ. الصِّفَةُ الرّابِعَةُ: ﴿أيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ أيْ: أيْنَما يُرْسِلْهُ، ومَعْنى التَّوْجِيهِ أنْ تُرْسِلَ صاحِبَكَ في وجْهٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الطَّرِيقِ، يُقالُ: وجَّهْتُهُ إلى مَوْضِعِ كَذا فَتَوَجَّهَ إلَيْهِ. وقَوْلُهُ: ﴿لا يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ مَعْناهُ: لِأنَّهُ عاجِزٌ لا يُحْسِنُ ولا يَفْهَمُ. ثم قال تَعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ﴾ أيْ: هَذا المَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفاتِ الأرْبَعِ، ﴿ومَن يَأْمُرُ بِالعَدْلِ﴾ . واعْلَمْ أنَّ الآمِرَ بِالعَدْلِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالنُّطْقِ وإلّا لَمْ يَكُنْ آمِرًا. ويَجِبُ أنْ يَكُونَ قادِرًا؛ لِأنَّ الأمْرَ مُشْعِرٌ بِعِلَّةِ المَرْتَبَةِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا مَعَ كَوْنِهِ قادِرًا، ويَجِبُ أنْ يَكُونَ عالِمًا حَتّى يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ العَدْلِ وبَيْنَ الجَوْرِ. فَثَبَتَ أنَّ وصْفَهُ بِأنَّهُ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ يَتَضَمَّنُ وصْفَهُ بِكَوْنِهِ قادِرًا عالِمًا، وكَوْنُهُ آمِرًا يُناقِضُ كَوْنَ الأوَّلِ أبْكَمَ، وكَوْنُهُ قادِرًا يُناقِضُ وصْفَ الأوَّلِ بِأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وبِأنَّهُ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، وكَوْنُهُ عالِمًا يُناقِضُ وصْفَ الأوَّلِ بِأنَّهُ لا يَأْتِي بِخَيْرٍ. ثم قال: ﴿وهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ مَعْناهُ: كَوْنُهُ عادِلًا مُبَرَّأً عَنِ الجَوْرِ والعَبَثِ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: ظاهِرٌ في بَدِيهَةِ العَقْلِ أنَّ الأوَّلَ والثّانِيَ لا يَسْتَوِيانِ، فَكَذا هَهُنا. واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّانِيَةُ: في المُرادِ بِهَذا المَثَلِ أقْوالٌ كَما في المَثَلِ المُتَقَدِّمِ: فالقَوْلُ الأوَّلُ: قالَ مُجاهِدٌ: كُلُّ هَذا مَثَلُ إلَهِ الخَلْقِ وما يُدْعى مِن دُونِهِ مِنَ الباطِلِ. وأمّا الأبْكَمُ فَمَثَلُ الصَّنَمِ؛ لِأنَّهُ لا يَنْطِقُ البَتَّةَ، وكَذَلِكَ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وأيْضًا كَلٌّ عَلى عابِدِيهِ؛ لِأنَّهُ لا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وهم يُنْفِقُونَ عَلَيْهِ، وأيْضًا إلى أيِّ مُهِمٍّ تَوَجَّهَ الصَّنَمُ لَمْ يَأْتِ بِخَيْرٍ. وأمّا الَّذِي يَأْمُرُ بِالعَدْلِ فَهو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن هَذا الأبْكَمِ هو عَبْدٌ لِعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، كانَ ذَلِكَ العَبْدُ يَكْرَهُ الإسْلامَ، وما كانَ فِيهِ خَيْرٌ، ومَوْلاهُ وهو عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ كانَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ، وكانَ عَلى الدِّينِ القَوِيمِ والصِّراطِ المُسْتَقِيمِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ كُلُّ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ بَهَذِهِ الصِّفاتِ المَذْمُومَةِ، وكُلُّ حُرٍّ مَوْصُوفٍ بِتِلْكَ الصِّفاتِ الحَمِيدَةِ، وهَذا القَوْلُ أوْلى مِنَ القَوْلِ الأوَّلِ؛ لِأنَّ وصْفَهُ تَعالى إيّاهُما بِكَوْنِهِما رَجُلَيْنِ يَمْنَعُ مِن حَمْلِ ذَلِكَ عَلى الوَثَنِ، وكَذَلِكَ بِالبَكَمِ وبِالكَلِّ، والتَّوَجُّهُ في جِهاتِ المَنافِعِ، وكَذَلِكَ وصْفُ الآخَرِ بِأنَّهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَمْنَعُ مِن حَمْلِهِ عَلى اللَّهِ تَعالى، وأيْضًا فالمَقْصُودُ تَشْبِيهُ صُورَةٍ بِصُورَةٍ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وذَلِكَ التَّشْبِيهُ لا يَتِمُّ إلّا عِنْدَ كَوْنِ أحَدِ الصُّورَتَيْنِ مُغايِرَةً لِلْأُخْرى. (p-٧١)وأمّا القَوْلُ الثّانِي فَضَعِيفٌ أيْضًا؛ لِأنَّ المَقْصُودَ إبانَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَوْصُوفَيْنِ بِالصِّفاتِ المَذْكُورَةِ، وذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ أيًّا ما حَصَلَ التَّفاوُتُ في الصِّفاتِ المَذْكُورَةِ حَصَلَ المَقْصُودُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب