الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ خَلَقَكم ثُمَّ يَتَوَفّاكم ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: لَمّا ذَكَرَ تَعالى بَعْضَ عَجائِبِ أحْوالِ الحَيَواناتِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ بَعْضَ عَجائِبِ أحْوالِ النّاسِ، فَمِنها ما هو مَذْكُورٌ في هَذِهِ الآيَةِ، وهو إشارَةٌ إلى مَراتِبِ عُمُرِ الإنْسانِ، والعُقَلاءُ ضَبَطُوها في أرْبَعِ مَراتِبَ: أوَّلُها: سِنُّ النَّشْوِ والنَّماءِ. وثانِيها: سِنُّ الوُقُوفِ وهو سِنُّ الشَّبابِ. وثالِثُها: سِنُّ الِانْحِطاطِ القَلِيلِ وهو سِنُّ الكُهُولَةِ. ورابِعُها: سِنُّ الِانْحِطاطِ الكَبِيرِ وهو سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ. فاحْتَجَّ تَعالى بِانْتِقالِ الحَيَوانِ مِن بَعْضِ هَذِهِ المَراتِبِ إلى بَعْضٍ، عَلى أنَّ ذَلِكَ النّاقِلَ هو اللَّهُ تَعالى، والأطِبّاءُ الطَّبائِعِيُّونَ قالُوا: المُقْتَضِي لِهَذا الِانْتِقالِ هو طَبِيعَةُ الإنْسانِ، وأنا أحْكِي كَلامَهم عَلى الوجه المُلَخَّصِ، وأُبَيِّنُ ضَعْفَهُ وفَسادَهُ، وحِينَئِذٍ يَبْقى أنَّ ذَلِكَ النّاقِلَ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَصِحُّ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ ما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ. قالَ الطَّبائِعِيُّونَ: إنَّ بَدَنَ الإنْسانِ مَخْلُوقٌ مِنَ المَنِيِّ ومِن دَمِ الطَّمْثِ، والمَنِيُّ والدَّمُ جَوْهَرانِ حارّانِ رَطْبانِ، والحَرارَةُ إذا عَمِلَتْ في الجِسْمِ الرَّطْبِ قَلَّلَتْ رُطُوبَتَهُ وأفادَتْهُ نَوْعَ يُبْسٍ، وهَذا مُشاهَدٌ مَعْلُومٌ، قالُوا: فَلا يَزالُ ما في هَذَيْنِ الجَوْهَرَيْنِ مِن قُوَّةِ الحَرارَةِ يُقَلِّلُ ما فِيهِ مِنَ الرُّطُوبَةِ حَتّى تَتَصَلَّبَ الأعْضاءُ ويَظْهَرَ فِيهِ الِانْعِقادُ، ويَحْدُثَ العَظْمُ والغُضْرُوفُ والعَصَبُ والوَتَرُ والرِّباطُ وسائِرُ الأعْضاءِ، فَإذا تَمَّ تَكَوَّنَ البَدَنُ وكَمُلَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْفَصِلُ الجَنِينُ مِن رَحِمِ الأُمِّ، ومَعَ ذَلِكَ فالرُّطُوباتُ زائِدَةٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّكَ تَرى أعْضاءَ الطِّفْلِ بَعْدَ انْفِصالِهِ مِنَ الأُمِّ لَيِّنَةً لَطِيفَةً وعِظامَهُ لَيِّنَةً قَرِيبَةَ الطَّبْعِ مِنَ الغَضارِيفِ، ثُمَّ إنَّ ما في البَدَنِ مِنَ الحَرارَةِ يَعْمَلُ في تِلْكَ الرُّطُوباتِ ويُقَلِّلُها، قالُوا: ويَحْصُلُ لِلْبَدَنِ ثَلاثَةُ أحْوالٍ. الحالَةُ الأُولى: أنْ تَكُونَ رُطُوبَةُ البَدَنِ زائِدَةً عَلى حَرارَتِهِ، وحِينَئِذٍ تَكُونُ الأعْضاءُ قابِلَةً لِلتَّمَدُّدِ والِازْدِيادِ والنَّماءِ، وذَلِكَ هو سِنُّ النَّشْوِ والنَّماءِ ونِهايَتُهُ إلى ثَلاثِينَ سَنَةً أوْ خَمْسٍ وثَلاثِينَ سَنَةً. الحالَةُ الثّانِيَةُ: أنْ تَصِيرَ رُطُوباتُ البَدَنِ أقَلَّ ما كانَتْ، فَتَكُونُ وافِيَةً بِحِفْظِ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ الأصْلِيَّةِ إلّا (p-٦١)أنَّها لا تَكُونُ زائِدَةً عَلى هَذا القَدْرِ، وهَذا هو سِنُّ الوُقُوفِ وسِنُّ الشَّبابِ وغايَتُهُ خَمْسُ سِنِينَ، وعِنْدَ تَمامِهِ يُتَمُّ الأرْبَعُونَ. والحالَةُ الثّالِثَةُ: أنْ تَقِلَّ الرُّطُوباتُ وتَصِيرُ بِحَيْثُ لا تَكُونُ وافِيَةً بِحِفْظِ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ النُّقْصانُ، ثُمَّ هَذا النُّقْصانُ قَدْ يَكُونُ خَفِيًّا وهو سِنُّ الكُهُولَةِ، وتَمامُهُ إلى سِتِّينَ سَنَةً وقَدْ يَكُونُ ظاهِرًا وهو سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ وتَمامُهُ إلى مِائَةٍ وعِشْرِينَ سَنَةً، فَهَذا هو الَّذِي حَصَّلَهُ الأطِبّاءُ في هَذا البابِ، وعِنْدِي أنَّ هَذا التَّعْلِيلَ ضَعِيفٌ ويَدُلُّ عَلى ضِعْفِهِ وُجُوهٌ: الوجه الأوَّلُ: أنّا نَقُولُ: إنَّ في أوَّلِ ما كانَ المَنِيُّ مَنِيًّا، وكانَ الدَّمُ دَمًا كانَتِ الرُّطُوباتُ غالِبَةً وكانَتِ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ مَغْمُورَةً، وكانَتْ ضَعِيفَةً بِهَذا السَّبَبِ، ثُمَّ إنَّها مَعَ ضَعْفِها قَوِيَتْ عَلى تَحْلِيلِ أكْثَرِ تِلْكَ الرُّطُوباتِ وأبانَتْها مِن حَدِّ الدَّمَوِيَّةِ والمَنَوِيَّةِ إلى أنْ صارَتْ عَظْمًا وغُضْرُوفًا وعَصَبًا ورِباطًا، وعِنْدَما تَوَلَّدَتِ الأعْضاءُ وكَمُلَ البَدَنُ قَلَّتِ الرُّطُوباتُ فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ لِلْحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ قُوَّةٌ أزَيْدُ مِمّا كانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ تَحْلِيلُ الرُّطُوباتِ بَعْدَ تَوَلُّدِ البَدَنِ وكَمالِهِ أزْيَدَ مِن تَحَلُّلِها قَبْلَ تَوَلُّدِ البَدَنِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، لِأنَّ قَبْلَ تَوَلُّدِ البَدَنِ انْتَقَلَ جِسْمُ المَنِيِّ والدَّمِ إلى أنْ صارَ عَظْمًا وعَصَبًا، وأمّا بَعْدَ تَوَلُّدِ البَدَنِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِثْلُ هَذا الِانْتِقالِ ولا عُشْرُ عُشْرِهِ، فَلَوْ كانَ تَوَلُّدُ هَذِهِ الأعْضاءِ بِسَبَبِ تَأْثِيرِ الحَرارَةِ في الرُّطُوبَةِ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ تَحَلُّلُ الرُّطُوباتِ بَعْدَ كَمالِ البَدَنِ أكْثَرَ مِن تَحَلُّلِها قَبْلَ تَكَوُّنِ البَدَنِ، ولَمّا لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ تَوَلُّدَ البَدَنِ إنَّما كانَ بِتَدْبِيرِ قادِرٍ حَكِيمٍ يُدَبِّرُ أبْدانَ الحَيَواناتِ عَلى وفْقِ مَصالِحِها، وأنَّهُ ما كانَ تَوَلُّدُ البَدَنِ لِأجْلِ ما قالُوهُ مِن تَأْثِيرِ الحَرارَةِ في الرُّطُوبَةِ. والوجه الثّانِي في إبْطالِ هَذا الكَلامِ أنْ نَقُولَ: إنَّ الحَرارَةَ الغَرِيزِيَّةَ الحاصِلَةَ في بَدَنِ الإنْسانِ الكامِلِ إمّا أنْ تَكُونَ هي عَيْنَ ما كانَ حاصِلًا في جَوْهَرِ النُّطْفَةِ، أوْ صارَتْ أزْيَدَ مِمّا كانَتْ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ الحارَّ الغَرِيزِيَّ الحاصِلَ في جَوْهَرِ النُّطْفَةِ كانَ بِمِقْدارِ جِرْمِ النُّطْفَةِ، ولا شَكَّ أنَّ جِرْمَ النُّطْفَةِ كانَ قَلِيلًا صَغِيرًا، فَهَذا البَدَنُ بَعْدَ كِبَرِهِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مِنَ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ إلّا ذَلِكَ القَدْرُ كانَ في غايَةِ القِلَّةِ، ولَمْ يَظْهَرْ مِنهُ في هَذا البَدَنِ أثَرٌ أصْلًا. وأمّا الثّانِي فَفِيهِ تَسْلِيمٌ أنَّ الحَرارَةَ الغَرِيزِيَّةَ تَتَزايَدُ بِحَسَبِ تَزايُدِ الجُثَّةِ والبَدَنِ، وإذا تَزايَدْتِ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ ساعَةً فَساعَةً، وثَبَتَ أنَّ تَزايُدَها يُوجِبُ تَزايُدَ القُوَّةِ والصِّحَّةِ ساعَةً فَساعَةً، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى البَدَنُ الحَيَوانِيُّ أبَدًا في التَّزايُدِ والتَّكامُلِ، وحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ ازْدِيادَ حالِ البَدَنِ الحَيَوانِيِّ وانْتِقاصَهُ لَيْسَ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، بَلْ بِسَبَبِ تَدْبِيرِ الفاعِلِ المُخْتارِ. والوجه الثّالِثُ: وهو الَّذِي أوْرَدْناهُ عَلى الأطِبّاءِ في كِتابِنا ”الكَبِيرِ في الطِّبِّ“ فَقُلْنا: هي أنَّ الرُّطُوبَةَ الغَرِيزِيَّةَ صارَتْ مُعادِلَةً لِلْحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الحَرارَةَ الغَرِيزِيَّةَ يَجِبُ أنْ تَصِيرَ أقَلَّ مِمّا كانَتْ ؟ وأنْ يَنْتَقِلَ الإنْسانُ مِن سِنِّ الشَّبابِ إلى سِنِّ النُّقْصانِ. قالُوا: السَّبَبُ فِيهِ أنَّهُ إذا حَصَلَ هَذا الِاسْتِواءُ، فالحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ تُؤَثِّرُ في تَخْفِيفِ الرُّطُوبَةِ الغَرِيزِيَّةِ، فَتَقِلُّ الرُّطُوباتُ الغَرِيزِيَّةُ حَتّى صارَتْ بِحَيْثُ لا تَفِي بِحِفْظِ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ، وإذا حَصَلَتْ هَذِهِ الحالَةُ ضَعُفَتِ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ أيْضًا، لِأنَّ الرُّطُوبَةَ الغَرِيزِيَّةَ كالغِذاءِ لِلْحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ، فَإذا قَلَّ الغِذاءُ ضَعُفَ المُغْتَذِي. فالحاصِلُ: أنَّ الحَرارَةَ الغَرِيزِيَّةَ تُوجِبُ قِلَّةَ الرُّطُوبَةِ الغَرِيزِيَّةِ، وقِلَّتَها تُوجِبُ ضَعْفَ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ، ويَلْزَمُ مِن ضَعْفِ إحْداهُما ضَعْفُ الأُخْرى إلى أنْ تَنْتَهِيَ (p-٦٢)إلى حَيْثُ لا يَبْقى مِنَ الرُّطُوبَةِ الغَرِيزِيَّةِ شَيْءٌ، وحِينَئِذٍ تَنْطَفِئُ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ ويَحْصُلُ المَوْتُ، هَذا مُنْتَهى ما قالُوهُ في هَذا البابِ، وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنّا نَقُولُ: إنَّ الحَرارَةَ الغَرِيزِيَّةَ إذا أثَّرَتْ في تَجْفِيفِ الرُّطُوبَةِ الغَرِيزِيَّةِ وقِلَّتِها، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ القُوَّةَ الغاذِيَةَ تُورِدُ بَدَلَها ؟ فَعِنْدَ هَذا قالُوا: القُوَّةُ الغاذِيَةُ إنَّما تَقْوى عَلى إيرادِ بَدَلِها لَوْ كانَتِ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ قَوِيَّةً، فَأمّا عِنْدَ ضَعْفِها فَلا، فَنَقُولُ: فَهَهُنا لَزِمَ الدَّوْرُ، لِأنَّ الرُّطُوبَةَ الغَرِيزِيَّةَ إنَّما تَقِلُّ وتَنْقُصُ لَوْ لَمْ تَكُنِ القُوَّةُ الغاذِيَةُ وافِيَةً بِإيرادِ بَدَلِها، وإنَّما تَعْجِزُ القُوَّةُ الغاذِيَةُ عَنْ هَذا الإيرادِ إذا كانَتِ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ ضَعِيفَةً، وإنَّما تَكُونُ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ ضَعِيفَةً أنْ لَوْ قَلَّتِ الرُّطُوبَةُ الغَرِيزِيَّةُ، وإنَّما تَحْصُلُ هَذِهِ القِلَّةُ إذا عَجَزَتِ الغاذِيَةُ عَنْ إيرادِ البَدَلِ، فَثَبَتَ أنَّ عَلى القَوْلِ الَّذِي قالُوهُ بِلُزُومِ الدَّوْرِ وأنَّهُ باطِلٌ، فَثَبَتَ أنَّ تَعْلِيلَ انْتِقالِ الإنْسانِ مِن سِنٍّ إلى سِنٍّ بِما ذَكَرُوهُ مِنَ اعْتِبارِ الطَّبائِعِ يُوجِبُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ المُحاوَلاتِ المَذْكُورَةَ، فَكانَ القَوْلُ بِهِ باطِلًا، ولَمّا بَطَلَ هَذا القَوْلُ وجَبَ القَطْعُ بِإسْنادِ هَذِهِ الأحْوالِ إلى الإلَهِ القادِرِ المُخْتارِ الحَكِيمِ الرَّحِيمِ الَّذِي يُدَبِّرُ أبْدانَ الحَيَواناتِ عَلى الوجه المُوافِقِ لِمَصالِحِها، وذَلِكَ هو المَطْلُوبُ. وقَدْ كُنْتُ أقْرَأُ يَوْمًا مِنَ الأيّامِ سُورَةَ المُرْسَلاتِ، فَلَمّا وصَلْتُ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ نَخْلُقْكم مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ ﴿فَجَعَلْناهُ في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ ﴿إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ﴿فَقَدَرْنا فَنِعْمَ القادِرُونَ﴾ ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: ٢٠] فَقُلْتُ: لا شَكَّ أنَّ المُرادَ بِهَؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ هُمُ الَّذِينَ نَسَبُوا تَكَوُّنَ الأبْدانِ الحَيَوانِيَّةِ إلى الطَّبائِعِ وتَأْثِيرِ الحَرارَةِ في الرُّطُوبَةِ، وأنا أُؤْمِنُ مِن صَمِيمِ قَلْبِي يا رَبَّ العِزَّةِ بِأنَّ هَذِهِ التَّدْبِيراتِ لَيْسَتْ مِنَ الطَّبائِعِ، بَلْ مِن خالِقِ العالَمِ الَّذِي هو أحْكَمُ الحاكِمِينَ وأكْرَمُ الأكْرَمِينَ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَقَدْ صَحَّ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ صِدْقُ قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ خَلَقَكُمْ﴾ لِأنَّهُ ثَبَتَ أنَّ خالِقَ أبْدانِ النّاسِ وسائِرِ الحَيَواناتِ لَيْسَ هو الطَّبائِعَ بَلْ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ﴾ قَدْ بَيَّنّا أنَّ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ في صَيْرُورَةِ المَوْتِ فاسِدٌ باطِلٌ، وأنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ القَوْلُ بِالدَّوْرِ، ولَمّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أنَّ الحَياةَ والمَوْتَ إنَّما حَصَلا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وبِتَقْدِيرِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ﴾ قَدْ بَيَّنّا بِالدَّلِيلِ أنَّ الطَّبائِعَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ عِلَّةً لِانْتِقالِ الإنْسانِ مِنَ الكَمالِ إلى النُّقْصانِ ومِنَ القُوَّةِ إلى الضَّعْفِ، فَلَزِمَ القَطْعُ بِأنَّ انْتِقالَ الإنْسانِ مِنَ الشَّبابِ إلى الشَّيْخُوخَةِ، ومِنَ الصِّحَّةِ إلى الهَرَمِ، ومِنَ العَقْلِ الكامِلِ إلى أنْ صارَ خَرِفًا غافِلًا لَيْسَ بِمُقْتَضى الطَّبِيعَةِ، بَلْ بِفِعْلِ الفاعِلِ المُخْتارِ، وإذا ثَبَتَ ما ذَكَرْنا ظَهَرَ أنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ القُرْآنِ قَدْ ثَبَتَ صِحَّتُهُ بِقاطِعِ القُرْآنِ. ثم قال تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ وهَذا كالأصْلِ الَّذِي عَلَيْهِ تَفْرِيعُ كُلِّ ما ذَكَرْناهُ، وذَلِكَ لِأنَّ الطَّبِيعَةَ جاهِلَةٌ لا تُمَيِّزُ بَيْنَ وقْتِ المَصْلَحَةِ ووَقْتِ المَفْسَدَةِ، فَهَذِهِ الِانْفِعالاتُ في هَذا الإنْسانِ لا يُمْكِنُ إسْنادُها إلَيْها. أمّا إلَهُ العالَمِ ومُدَبِّرُهُ وخالِقُهُ، فَهو الكامِلُ في العِلْمِ، الكامِلُ في القُدْرَةِ، فَلِأجْلِ كَمالِ عِلْمِهِ يَعْلَمُ مَقادِيرَ المَصالِحِ والمَفاسِدِ، ولِأجْلِ كَمالِ قُدْرَتِهِ يَقْدِرُ عَلى تَحْصِيلِ المَصالِحِ ودَفْعِ المَفاسِدِ، فَلا جَرَمَ أمْكَنَ إسْنادُ تَخْلِيقِ الحَيَواناتِ إلى إلَهِ العالَمِ، فَلا يُمْكِنُ إسْنادُهُ إلى الطَّبائِعِ واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّانِيَةُ: في تَفْسِيرِ ألْفاظِ الآيَةِ قالَ المُفَسِّرُونَ: واللَّهُ خَلَقَكم ولَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، ثُمَّ يَتَوَفّاكم عِنْدَ انْقِضاءِ آجالِكم، ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، وهو أرْدَؤُهُ وأضْعَفُهُ. يُقالُ: رَذُلَ الشَّيْءُ يَرْذُلُ رَذالَةً وأرْذَلَهُ غَيْرُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا﴾ [هود: ٢٧] ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١] وقَوْلُهُ: ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ﴾ (p-٦٣)﴿إلى أرْذَلِ العُمُرِ﴾ هَلْ يَتَناوَلُ المُسْلِمَ أوْ هو مُخْتَصٌّ بِالكافِرِ ؟ فِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهُ يَتَناوَلُهُ، قِيلَ: إنَّهُ العُمُرُ الطَّوِيلُ، وعَلى هَذا الوجه نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ قالَ: أرْذَلُ العُمُرِ خَمْسٌ وسَبْعُونَ سَنَةً. وقالَ قَتادَةُ: تِسْعُونَ سَنَةً. وقالَ السُّدِّيُّ: إنَّهُ الخَرَفُ. والقَوْلُ الأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّ الخَرَفَ مَعْناهُ زَوالُ العَقْلِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما رَدَّهُ إلى أرْذَلِ العُمُرِ لِأجْلِ أنْ يُزِيلَ عَقْلَهُ، فَلَوْ كانَ المُرادُ مِن أرْذَلِ العُمُرِ هو زَوالَ العَقْلِ لَصارَ الشَّيْءُ عَيْنَ الغايَةِ المَطْلُوبَةِ مِنهُ، وإنَّهُ باطِلٌ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذا لَيْسَ في المُسْلِمِينَ والمُسْلِمُ لا يَزْدادُ بِسَبَبِ طُولِ العُمُرِ إلّا كَرامَةً عَلى اللَّهِ تَعالى، ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ في حَقِّهِ: إنَّهُ يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [التِّينِ: ٥ ] . فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ما رُدُّوا إلى أسْفَلِ سافِلِينَ. وقالَ عِكْرِمَةُ: مَن قَرَأ القُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ بِما صَنَعَ أوْلِياؤُهُ وأعْداؤُهُ ”قَدِيرٌ“ عَلى ما يُرِيدُ. * * * المسألة الثّالِثَةُ: هَذِهِ الآيَةُ كَما تَدُلُّ عَلى وُجُودِ إلَهِ العالَمِ الفاعِلِ المُخْتارِ، فَهي أيْضًا تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ البَعْثِ والقِيامَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ كانَ عَدَمًا مَحْضًا فَأوْجَدَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أعْدَمَهُ مَرَّةً ثانِيَةً، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ لَمّا كانَ مَعْدُومًا في المَرَّةِ الأُولى، وكانَ عَوْدُهُ إلى العَدَمِ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ جائِزًا، فَكَذَلِكَ لَمّا صارَ مَوْجُودًا، ثُمَّ عُدِمَ - وجَبَ أنْ يَكُونَ عَوْدُهُ إلى الوُجُودِ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ جائِزًا، وأيْضًا كانَ مَيْتًا حِينَ كانَ نُطْفَةً، ثُمَّ صارَ حَيًّا، ثُمَّ ماتَ. فَلَمّا كانَ المَوْتُ الأوَّلُ جائِزًا كانَ عَوْدُ المَوْتِ جائِزًا، فَكَذَلِكَ لَمّا كانَتِ الحَياةُ الأُولى جائِزَةً، وجَبَ أنْ يَكُونَ عَوْدُ الحَياةِ جائِزًا في المَرَّةِ الثّانِيَةِ، وأيْضًا الإنْسانُ في أوَّلِ طُفُولِيَّتِهِ جاهِلٌ لا يَعْرِفُ شَيْئًا، ثُمَّ صارَ عالِمًا عاقِلًا فاهِمًا، فَلَمّا بَلَغَ أرْذَلَ العُمُرِ عادَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ في زَمانِ الطُّفُولِيَّةِ، وهو عَدَمُ العَقْلِ والفَهْمِ، فَعَدَمُ العَقْلِ والفَهْمِ في المَرَّةِ الأُولى عادَ بِعَيْنِهِ في آخِرِ العُمُرِ. فَكَذَلِكَ العَقْلُ الَّذِي حَصَلَ ثُمَّ زالَ - وجَبَ أنْ يَكُونَ جائِزَ العَوْدِ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ، وإذا ثَبَتَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ ثَبَتَ أنَّ الَّذِي ماتَ وعُدِمَ فَإنَّهُ يَجُوزُ عَوْدُ وُجُودِهِ، وعَوْدُ حَياتِهِ، وعَوْدُ عَقْلِهِ مَرَّةً أُخْرى. ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِالبَعْثِ والحَشْرِ والنَّشْرِ حَقٌّ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب