الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ ﴿وإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبِينَ﴾ ﴿ومِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَرًا ورِزْقًا حَسَنًا إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
اعْلَمْ أنّا قَدْ ذَكَرْنا أنَّ المَقْصُودَ الأعْظَمَ مِن هَذا القُرْآنِ العَظِيمِ تَقْرِيرُ أُصُولٍ أرْبَعَةٍ: الإلَهِيّاتِ والنُّبُوّاتِ والمَعادِ وإثْباتِ القَضاءِ والقَدَرِ، والمَقْصُودُ الأعْظَمُ مِن هَذِهِ الأُصُولِ الأرْبَعَةِ تَقْرِيرُ الإلَهِيّاتِ، فَلِهَذا السَّبَبِ (p-٥٢)كُلَّما امْتَدَّ الكَلامُ في فَصْلٍ مِنَ الفُصُولِ في وعِيدِ الكُفّارِ عادَ إلى تَقْرِيرِ الإلَهِيّاتِ، وقَدْ ذَكَرْنا في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أنَّهُ تَعالى لَمّا أرادَ ذِكْرَ دَلائِلِ الإلَهِيّاتِ ابْتَدَأ بِالأجْرامِ الفَلَكِيَّةِ، وثَنّى بِالإنْسانِ، وثَلَّثَ بِالحَيَوانِ، ورَبَّعَ بِالنَّباتِ، وخَمَّسَ بِذِكْرِ أحْوالِ البَحْرِ والأرْضِ، فَهَهُنا في هَذِهِ الآيَةِ لَمّا عادَ إلى تَقْرِيرِ دَلائِلِ الإلَهِيّاتِ بَدَأ أوَّلًا بِذِكْرِ الفَلَكِيّاتِ فَقالَ: ﴿واللَّهُ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى خَلَقَ السَّماءَ عَلى وجْهٍ يَنْزِلُ مِنهُ الماءُ ويَصِيرُ ذَلِكَ الماءُ سَبَبًا لِحَياةِ الأرْضِ، والمُرادُ بِحَياةِ الأرْضِ نَباتُ الزَّرْعِ والشَّجَرِ والنَّوْرِ والثَّمَرِ بَعْدَ أنْ كانَ لا يُثْمِرُ، ويَنْفَعُ بَعْدَ أنْ كانَ لا يَنْفَعُ، وتَقْرِيرُ هَذِهِ الدَّلائِلِ قَدْ ذَكَرْناهُ مِرارًا كَثِيرَةً.
ثم قال: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سَماعَ إنْصافٍ وتَدَبُّرٍ؛ لِأنَّ مَن لَمْ يَسْمَعْ بِقَلْبِهِ فَكَأنَّهُ أصَمُّ لَمْ يَسْمَعْ.
والنوع الثّانِي مِنَ الدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآياتِ: الِاسْتِدْلالُ بِعَجائِبِ أحْوالِ الحَيَواناتِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ﴾ قَدْ ذَكَرْنا مَعْنى العِبْرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿لَعِبْرَةً لِأُولِي الأبْصارِ﴾ [آل عمران: ١٣] وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: ﴿نُسْقِيكُمْ﴾ بِضَمِّ النُّونِ، والباقُونَ بِالفَتْحِ، أمّا مَن فَتَحَ النُّونَ فَحُجَّتُهُ ظاهِرَةٌ تَقُولُ: سَقَيْتُهُ حَتّى رُوِيَ أسْقِيهِ قالَ تَعالى: ﴿وسَقاهم رَبُّهم شَرابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٢١] وقالَ: ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٩] وقالَ: ﴿وسُقُوا ماءً حَمِيمًا﴾ [محمد: ١٥] ومَن ضَمَّ النُّونَ فَهو مِن قَوْلِكَ: أسْقاهُ إذا جَعَلَ لَهُ شَرابًا كَقَوْلِهِ: ﴿وأسْقَيْناكم ماءً فُراتًا﴾ [المرسلات: ٢٧] وقَوْلِهِ: ﴿فَأسْقَيْناكُمُوهُ﴾ [الحجر: ٢٢] والمَعْنى هَهُنا: أنّا جَعَلْناهُ في كَثْرَتِهِ وإدامَتِهِ كالسُّقْيا، واخْتارَ أبُو عُبَيْدٍ الضَّمَّ قالَ: لِأنَّهُ شُرْبٌ دائِمٌ، وأكْثَرُ ما يُقالُ في هَذا المَقامِ أسْقَيْتُ.
المسألة الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مِمّا في بُطُونِهِ﴾ الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الأنْعامِ فَكانَ الواجِبُ أنْ يُقالَ: مِمّا في بُطُونِها، وذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ وُجُوهًا.
الأوَّلُ: أنَّ لَفْظَ الأنْعامِ مُفْرِدٌ وُضِعَ لِإفادَةِ جَمْعٍ، كالرَّهْطِ والقَوْمِ والبَقَرِ والنَّعَمِ، فَهو بِحَسَبِ اللَّفْظِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُهُ ضَمِيرَ الواحِدِ، وهو التَّذْكِيرُ، وبِحَسَبِ المَعْنى جَمْعٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُهُ ضَمِيرَ الجَمْعِ، وهو التَّأْنِيثُ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ هَهُنا: ﴿فِي بُطُونِهِ﴾، وقالَ في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ: ﴿فِي بُطُونِها﴾ .
الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿فِي بُطُونِهِ﴾ أيْ: في بُطُونِ ما ذَكَرْنا، وهَذا جَوابُ الكِسائِيِّ. قالَ المُبَرِّدُ: هَذا شائِعٌ في القُرْآنِ. قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا رَأى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨] يَعْنِي: هَذا الشَّيْءُ الطّالِعُ رَبِّي، وقالَ: ﴿إنَّها تَذْكِرَةٌ﴾ ﴿فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس: ١١] أيْ: ذَكَرَ هَذا الشَّيْءَ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا إنَّما يَجُوزُ فِيما يَكُونُ تَأْنِيثُهُ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، أمّا الَّذِي يَكُونُ تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا، فَلا يَجُوزُ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ في مُسْتَقِيمِ الكَلامِ أنْ يُقالَ: جارِيَتُكَ ذَهَبَ، ولا غُلامُكَ ذَهَبَتْ، عَلى تَقْدِيرٍ أنْ نَحْمِلَهُ عَلى النَّسَمَةِ.
الثّالِثُ: أنَّ فِيهِ إضْمارًا، والتَّقْدِيرُ: نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ اللَّبَنَ إذْ لَيْسَ كُلُّها ذاتَ لَبَنٍ.
المسألة الثّالِثَةُ: الفَرْثُ: سِرْجِينُ الكَرِشِ. رَوى الكَلْبِيُّ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: إذا اسْتَقَرَّ العَلَفُ في الكَرِشِ صارَ أسْفَلُهُ فَرْثًا وأعْلاهُ دَمًا وأوْسَطُهُ لَبَنًا، فَيَجْرِي الدَّمُ في العُرُوقِ واللَّبَنُ في (p-٥٣)الضَّرْعِ، ويَبْقى الفَرْثُ كَما هو، فَذاكَ هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خالِصًا﴾ لا يَشُوبُهُ الدَّمُ ولا الفَرْثُ.
ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: الدَّمُ واللَّبَنُ لا يَتَوَلَّدانِ البَتَّةَ في الكَرِشِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ الحِسُّ، فَإنَّ هَذِهِ الحَيَواناتِ تُذْبَحُ ذَبْحًا مُتَوالِيًا، وما رَأى أحَدٌ في كَرِشِها لا دَمًا ولا لَبَنًا، ولَوْ كانَ تَوَلُّدُ الدَّمِ واللَّبَنِ في الكِرْشِ لَوَجَبَ أنْ يُشاهَدَ ذَلِكَ في بَعْضِ الأحْوالِ، والشَّيْءُ الَّذِي دَلَّتِ المُشاهَدَةُ عَلى فَسادِهِ لَمْ يَجُزِ المَصِيرُ إلَيْهِ، بَلِ الحَقُّ أنَّ الحَيَوانَ إذا تَناوَلَ الغِذاءَ وصَلَ ذَلِكَ العَلَفُ إلى مَعِدَتِهِ إنْ كانَ إنْسانًا، وإلى كَرِشِهِ إنْ كانَ مِنَ الأنْعامِ وغَيْرِها، فَإذا طُبِخَ وحَصَلَ الهَضْمُ الأوَّلُ فِيهِ فَما كانَ مِنهُ صافِيًا انْجَذَبَ إلى الكَبِدِ، وما كانَ كَثِيفًا نَزَلَ إلى الأمْعاءِ، ثُمَّ ذَلِكَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنهُ في الكَبِدِ يَنْطَبِخُ فِيها ويَصِيرُ دَمًا، وذَلِكَ هو الهَضْمُ الثّانِي، ويَكُونُ ذَلِكَ الدَّمُ مَخْلُوطًا بِالصَّفْراءِ والسَّوْداءِ وزِيادَةِ المائِيَّةِ، أمّا الصَّفْراءُ فَتَذْهَبُ إلى المَرارَةِ، والسَّوْداءُ إلى الطِّحالِ، والماءُ إلى الكُلْيَةِ، ومِنها إلى المَثانَةِ، وأمّا ذَلِكَ الدَّمُ فَإنَّهُ يَدْخُلُ في الأوْرِدَةِ، وهي العُرُوقُ النّابِتَةُ مِنَ الكَبِدِ، وهُناكَ يَحْصُلُ الهَضْمُ الثّالِثُ، وبَيْنَ الكَبِدِ وبَيْنَ الضَّرْعِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ فَيَنْصَبُّ الدَّمُ في تِلْكَ العُرُوقِ إلى الضَّرْعِ، والضَّرْعُ لَحْمٌ غُدَدِيٌّ رَخْوٌ أبْيَضُ فَيُقَلِّبُ اللَّهُ تَعالى الدَّمَ عِنْدَ انْصِبابِهِ إلى ذَلِكَ اللَّحْمِ الغُدَدِيِّ الرَّخْوِ الأبْيَضِ مِن صُورَةِ الدَّمِ إلى صُورَةِ اللَّبَنِ، فَهَذا هو القَوْلُ الصَّحِيحُ في كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ اللَّبَنِ.
فَإنْ قِيلَ: فَهَذِهِ المَعانِي حاصِلَةٌ في الحَيَوانِ الذَّكَرِ فَلِمَ لَمْ يَحْصُلْ مِنهُ اللَّبَنُ ؟ .
قُلْنا: الحِكْمَةُ الإلَهِيَّةُ اقْتَضَتْ تَدْبِيرَ كُلِّ شَيْءٍ عَلى الوجه اللّائِقِ بِهِ المُوافِقِ لِمَصْلَحَتِهِ، فَمِزاجُ الذَّكَرِ مِن كُلِّ حَيَوانٍ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حارًّا يابِسًا، ومِزاجُ الأُنْثى يَجِبُ أنْ يَكُونَ بارِدًا رَطْبًا، والحِكْمَةُ فِيهِ أنَّ الوَلَدَ إنَّما يَتَكَوَّنُ في داخِلِ بَدَنِ الأُنْثى، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ الأُنْثى مُخْتَصَّةً بِمَزِيدِ الرُّطُوباتِ لِوَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ الوَلَدَ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ الرُّطُوباتِ، فَوَجَبَ أنْ يَحْصُلَ في بَدَنِ الأُنْثى رُطُوباتٌ كَثِيرَةٌ لِتَصِيرَ مادَّةً لِتَوَلُّدِ الوَلَدِ.
والثّانِي: أنَّ الوَلَدَ إذا كَبِرَ وجَبَ أنْ يَكُونَ بَدَنُ الأُمِّ قابِلًا لِلتَّمَدُّدِ حَتّى يَتَّسِعَ لِذَلِكَ الوَلَدِ، فَإذا كانَتِ الرُّطُوباتُ غالِبَةً عَلى بَدَنِ الأُمِّ كانَ بَدَنُها قابِلًا لِلتَّمَدُّدِ، فَيَتَّسِعُ لِلْوَلَدِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّهُ تَعالى خَصَّ بَدَنَ الأُنْثى مِن كُلِّ حَيَوانٍ بِمَزِيدِ الرُّطُوباتِ لِهَذِهِ الحِكْمَةِ، ثُمَّ إنَّ الرُّطُوباتِ الَّتِي كانَتْ تَصِيرُ مادَّةً لِازْدِيادِ بَدَنِ الجَنِينِ حِينَ كانَ في رَحِمِ الأُمِّ، فَعِنْدَ انْفِصالِ الجَنِينِ تَنْصَبُّ إلى الثَّدْيِ والضَّرْعِ لِيَصِيرَ مادَّةً لِغِذاءِ ذَلِكَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فاعْلَمْ أنَّ السَّبَبَ الَّذِي لِأجْلِهِ يَتَوَلَّدُ اللَّبَنُ مِنَ الدَّمِ في حَقِّ الأُنْثى غَيْرُ حاصِلٍ في حَقِّ الذَّكَرِ فَظَهَرَ الفَرْقُ.
إذا عَرَفْتَ هَذا التَّصْوِيرَ فَنَقُولُ: المُفَسِّرُونَ قالُوا: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ﴾ هو أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَةَ تَتَوَلَّدُ في مَوْضِعٍ واحِدٍ، فالفَرْثُ يَكُونُ في أسْفَلِ الكَرِشِ، والدَّمُ يَكُونُ في أعْلاهُ، واللَّبَنُ يَكُونُ في الوَسَطِ، وقَدْ دَلَلْنا عَلى أنَّ هَذا القَوْلَ عَلى خِلافِ الحِسِّ والتَّجْرِبَةِ، ولِأنَّ الدَّمَ لَوْ كانَ يَتَوَلَّدُ في أعْلى المَعِدَةِ والكَرِشِ كانَ يَجِبُ إذا قاءَ أنْ يَقِيءَ الدَّمَ، وذَلِكَ باطِلٌ قَطْعًا. وأمّا نَحْنُ فَنَقُولُ: المُرادُ مِنَ الآيَةِ هو أنَّ اللَّبَنَ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِن بَعْضِ أجْزاءِ الدَّمِ، والدَّمُ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ الأجْزاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي في الفَرْثِ، وهو الأشْياءُ المَأْكُولَةُ الحاصِلَةُ في الكَرِشِ، وهَذا اللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الأجْزاءِ الَّتِي كانَتْ حاصِلَةً فِيما بَيْنَ الفَرْثِ أوَّلًا، ثُمَّ كانَتْ حاصِلَةً فِيما بَيْنَ الدَّمِ ثانِيًا، فَصَفّاهُ اللَّهُ تَعالى عَنْ تِلْكَ الأجْزاءِ الكَثِيفَةِ الغَلِيظَةِ، وخَلَقَ فِيها الصِّفاتِ الَّتِي (p-٥٤)بِاعْتِبارِها صارَتْ لَبَنًا مُوافِقًا لِبَدَنِ الطِّفْلِ، فَهَذا ما حَصَّلْناهُ في هَذا المَقامِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المسألة الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ حُدُوثَ اللَّبَنِ في الثَّدْيِ واتِّصافَهُ بِالصِّفاتِ الَّتِي بِاعْتِبارِها يَكُونُ مُوافِقًا لِتَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ مُشْتَمِلٌ عَلى حِكَمٍ عَجِيبَةٍ وأسْرارٍ بَدِيعَةٍ، يَشْهَدُ صَرِيحُ العَقْلِ بِأنَّها لا تَحْصُلُ إلّا بِتَدْبِيرِ الفاعِلِ الحَكِيمِ والمُدَبِّرِ الرَّحِيمِ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ.
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى خَلَقَ في أسْفَلِ المَعِدَةِ مَنفَذًا يَخْرُجُ مِنهُ ثِقَلُ الغِذاءِ، فَإذا تَناوَلَ الإنْسانُ غِذاءً أوْ شَرْبَةً رَقِيقَةً انْطَبَقَ ذَلِكَ المَنفَذُ انْطِباقًا كُلِّيًّا لا يَخْرُجُ مِنهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ إلى أنْ يَكْمُلَ انْهِضامُهُ في المَعِدَةِ، ويَنْجَذِبُ ما صَفا مِنهُ إلى الكَبِدِ، ويَبْقى الثِّقَلُ هُناكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَتِحُ ذَلِكَ المَنفَذُ ويُتْرَكُ مِنهُ ذَلِكَ الثِّقَلُ، وهَذا مِنَ العَجائِبِ الَّتِي لا يُمْكِنُ حُصُولُها إلّا بِتَدْبِيرِ الفاعِلِ الحَكِيمِ، لِأنَّهُ مَتّى كانَتِ الحاجَةُ إلى بَقاءِ الغِذاءِ في المَعِدَةِ حاصِلَةً انْطَبَقَ ذَلِكَ المَنفَذُ، وإذا حَصَلَتِ الحاجَةُ إلى خُرُوجِ ذَلِكَ الجِسْمِ عَنِ المَعِدَةِ انْفَتَحَ، فَحُصُولُ الِانْطِباقِ تارَةً والِانْفِتاحُ أُخْرى بِحَسَبِ الحاجَةِ وتَقْدِيرِ المَنفَعَةِ، مِمّا لا يَتَأتّى إلّا بِتَقْدِيرِ الفاعِلِ الحَكِيمِ.
الثّانِي: أنَّهُ تَعالى أوْدَعَ في الكَبِدِ قُوَّةً تَجْذِبُ الأجْزاءَ اللَّطِيفَةَ الحاصِلَةَ في ذَلِكَ المَأْكُولِ أوِ المَشْرُوبِ، ولا تَجْذِبُ الأجْزاءَ الكَثِيفَةَ، وخَلَقَ في الأمْعاءِ قُوَّةً تَجْذِبُ تِلْكَ الأجْزاءَ الكَثِيفَةَ الَّتِي هي الثِّقَلُ، ولا تَجْذِبُ الأجْزاءَ اللَّطِيفَةَ البَتَّةَ. ولَوْ كانَ الأمْرُ بِالعَكْسِ لاخْتَلَفَتْ مَصْلَحَةُ البَدَنِ، ولَفَسَدَ نِظامُ هَذا التَّرْكِيبِ.
الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى أوْدَعَ في الكَبِدِ قُوَّةً هاضِمَةً طابِخَةً، حَتّى أنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ اللَّطِيفَةَ تَنْطَبِخُ في الكَبِدِ وتَنْقَلِبُ دَمًا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أوْدَعَ في المَرارَةِ قُوَّةً جاذِبَةً لِلصَّفْراءِ، وفي الطِّحالِ قُوَّةً جاذِبَةً لِلسَّوْداءِ، وفي الكُلْيَةِ قُوَّةً جاذِبَةٍ لِزِيادَةِ المائِيَّةِ، حَتّى يَبْقى الدَّمُ الصّافِي المُوافِقُ لِتَغْذِيَةِ البَدَنِ. وتَخْصِيصُ كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأعْضاءِ بِتِلْكَ القُوَّةِ والخاصِّيَّةِ لا يُمْكِنُ إلّا بِتَقْدِيرِ الحَكِيمِ العَلِيمِ.
الرّابِعُ: أنَّ في الوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ الجَنِينُ في رَحِمِ الأُمِّ يَنْصَبُّ مِن ذَلِكَ الدَّمِ نَصِيبٌ وافِرٌ إلَيْهِ حَتّى يَصِيرَ مادَّةً لِنُمُوِّ أعْضاءِ ذَلِكَ الوَلَدِ وازْدِيادِهِ، فَإذا انْفَصَلَ ذَلِكَ الجَنِينُ عَنِ الرَّحِمِ يَنْصَبُّ ذَلِكَ النَّصِيبُ إلى جانِبِ الثَّدْيِ لِيَتَوَلَّدَ مِنهُ اللَّبَنُ الَّذِي يَكُونُ غِذاءً لَهُ، فَإذا كَبِرَ الوَلَدُ لَمْ يَنْصَبَّ ذَلِكَ النَّصِيبُ لا إلى الرَّحِمِ ولا إلى الثَّدْيِ، بَلْ يَنْصَبُّ عَلى مَجْمُوعِ بَدَنِ المُتَغَذِّي، فانْصِبابُ ذَلِكَ الدَّمِ في كُلِّ وقْتٍ إلى عُضْوٍ آخَرَ انْصِبابًا مُوافِقًا لِلْمَصْلَحَةِ والحِكْمَةِ لا يَتَأتّى إلّا بِتَدْبِيرِ الفاعِلِ المُخْتارِ الحَكِيمِ.
والخامِسُ: أنَّ عِنْدَ تَوَلُّدِ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ أحْدَثَ تَعالى في حَلَمَةِ الثَّدْيِ ثُقُوبًا صَغِيرَةً ومَسامَّ ضَيِّقَةً، وجَعَلَها بِحَيْثُ إذا اتَّصَلَ المَصُّ أوِ الحَلْبُ بِتِلْكَ الحَلَمَةِ انْفَصَلَ اللَّبَنُ عَنْها في تِلْكَ المَسامِّ الضَّيِّقَةِ، ولَمّا كانَتْ تِلْكَ المَسامُّ ضَيِّقَةً جِدًّا، فَحِينَئِذٍ لا يَخْرُجُ مِنها إلّا ما كانَ في غايَةِ الصَّفاءِ واللَّطافَةِ، وأمّا الأجْزاءُ الكَثِيفَةُ فَإنَّهُ لا يُمْكِنُها الخُرُوجُ مِن تِلْكَ المَنافِذِ الضَّيِّقَةِ فَتَبْقى في الدّاخِلِ، والحِكْمَةُ في إحْداثِ تِلْكَ الثُّقُوبِ الصَّغِيرَةِ، والمَنافِذِ الضَّيِّقَةِ في رَأْسِ حَلَمَةِ الثَّدْيِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كالمِصْفاةِ، فَكُلُّ ما كانَ لَطِيفًا خَرَجَ، وكُلُّ ما كانَ كَثِيفًا احْتَبَسَ في الدّاخِلِ ولَمْ يَخْرُجْ، فَبِهَذا الطَّرِيقِ يَصِيرُ ذَلِكَ اللَّبَنُ خالِصًا مُوافِقًا لِبَدَنِ الصَّبِيِّ سائِغًا لِلشّارِبِينَ.
السّادِسُ: أنَّهُ تَعالى ألْهَمَ ذَلِكَ الصَّبِيَّ إلى المَصِّ، فَإنَّ الأُمَّ كُلَّما ألْقَمَتْ حَلَمَةَ الثَّدْيِ في فَمِ الصَّبِيِّ فَذَلِكَ الصَّبِيُّ في الحالِ يَأْخُذُ في المَصِّ، فَلَوْلا أنَّ الفاعِلَ المُخْتارَ الرَّحِيمَ ألْهَمَ ذَلِكَ الطِّفْلَ الصَّغِيرَ ذَلِكَ العَمَلَ المَخْصُوصَ، وإلّا لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفاعُ بِتَخْلِيقِ ذَلِكَ اللَّبَنِ في الثَّدْيِ.
السّابِعُ: أنّا بَيَّنّا أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَ اللَّبَنَ مِن فَضْلَةِ الدَّمِ، وإنَّما خَلَقَ الدَّمَ مِن لَطِيفِ تِلْكَ الأجْزاءِ، ثُمَّ خَلَقَ اللَّبَنَ مِن بَعْضِ أجْزاءِ ذَلِكَ الدَّمِ، ثُمَّ إنَّ اللَّبَنَ حَصَلَتْ فِيهِ أجْزاءٌ ثَلاثَةٌ عَلى طَبائِعَ مُتَضادَّةٍ، فَما فِيهِ مِنَ الدُّهْنِ (p-٥٥)يَكُونُ حارًّا رَطْبًا، وما فِيهِ مِنَ المائِيَّةِ يَكُونُ بارِدًا رَطْبًا، وما فِيهِ مِنَ الجُبْنِيَّةِ يَكُونُ بارِدًا يابِسًا، وهَذِهِ الطَّبائِعُ ما كانَتْ حاصِلَةً في ذَلِكَ العُشْبِ الَّذِي تَناوَلَتْهُ الشّاةُ، فَظَهَرَ بِهَذا أنَّ هَذِهِ الأجْسامَ لا تَزالُ تَنْقَلِبُ مِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ ومِن حالَةٍ إلى حالَةٍ، مَعَ أنَّهُ لا يُناسِبُ بَعْضُها بَعْضًا ولا يُشاكِلُ بَعْضُها بَعْضًا، وعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أنَّ هَذِهِ الأحْوالَ إنَّما تَحْدُثُ بِتَدْبِيرِ فاعِلٍ حَكِيمٍ رَحِيمٍ يُدَبِّرُ أحْوالَ هَذا العالَمِ عَلى وفْقِ مَصالِحِ العِبادِ، فَسُبْحانَ مَن تَشْهَدُ جَمِيعُ ذَرّاتِ العالَمِ الأعْلى والأسْفَلِ بِكَمالِ قُدْرَتِهِ ونِهايَةِ حِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ، لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ.
أما قوله: ﴿سائِغًا لِلشّارِبِينَ﴾ فَمَعْناهُ: جارِيًا في حُلُوقِهِمْ لَذِيذًا هَنِيئًا. يُقالُ: ساغَ الشَّرابُ في الحَلْقِ وأساغَهُ صاحِبُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿ولا يَكادُ يُسِيغُهُ﴾ [إبراهيم: ١٧] .
* * *
المسألة الخامِسَةُ: قالَ أهْلُ التَّحْقِيقِ: اعْتِبارُ حُدُوثِ اللَّبَنِ كَما يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ المُخْتارِ سُبْحانَهُ، فَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلى إمْكانِ الحَشْرِ والنَّشْرِ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذا العُشْبَ الَّذِي يَأْكُلُهُ الحَيَوانُ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ الماءِ والأرْضِ، فَخالِقُ العالَمِ دَبَّرَ تَدْبِيرًا، فَقَلَبَ ذَلِكَ الطِّينَ نَباتًا وعُشْبًا، ثُمَّ إذا أكَلَهُ الحَيَوانُ دَبَّرَ تَدْبِيرًا آخَرَ فَقَلَبَ ذَلِكَ العُشْبَ دَمًا، ثُمَّ دَبَّرَ تَدْبِيرًا آخَرَ فَقَلَبَ ذَلِكَ الدَّمَ لَبَنًا، ثُمَّ دَبَّرَ تَدْبِيرًا آخَرَ فَحَدَثَ مِن ذَلِكَ اللَّبَنِ الدُّهْنُ والجُبْنُ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنَّ يُقَلِّبَ هَذِهِ الأجْسامَ مِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ، ومِن حالَةٍ إلى حالَةٍ، فَإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أيْضًا أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى أنْ يَقْلِبَ أجْزاءَ أبْدانِ الأمْواتِ إلى صِفَةِ الحَياةِ والعَقْلِ كَما كانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهَذا الِاعْتِبارُ يَدُلُّ مِن هَذا الوجه عَلى أنَّ البَعْثَ والقِيامَةِ أمْرٌ مُمْكِنٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ثم قال تَعالى: ﴿ومِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَرًا ورِزْقًا حَسَنًا﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ بَعْضَ مَنافِعِ الحَيَواناتِ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بَعْضَ مَنافِعِ النَّباتِ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: فَإنْ قِيلَ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: ﴿ومِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ﴾ ؟ .
قُلْنا: بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ونُسْقِيكم مِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ أيْ: مِن عَصِيرِها، وحُذِفَ لِدَلالَةِ نُسْقِيكم قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَرًا﴾ بَيانٌ وكَشْفٌ عَنْ كُنْهِ الإسْقاءِ.
المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: ”الأعْنابُ“ عَطْفٌ عَلى الثَّمَراتِ لا عَلى النَّخِيلِ، لِأنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: ومِن ثَمَراتِ الأعْنابِ، والعِنَبُ نَفْسُهُ ثَمَرَةٌ ولَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ أُخْرى.
المسألة الثّالِثَةُ: في تَفْسِيرِ السَّكَرِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: السَّكَرُ الخَمْرُ، سُمِّيَتْ بِالمَصْدَرِ مِن سَكِرَ سَكَرًا وسَكْرًا نَحْوُ: رَشِدَ رَشَدًا ورَشْدًا، وأمّا الرِّزْقُ الحَسَنُ فَسائِرُ ما يُتَّخَذُ مِنَ النَّخِيلِ والأعْنابِ كالرُّبِّ والخَلِّ والدِّبْسِ والتَّمْرِ والزَّبِيبِ.
فَإنْ قِيلَ: الخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ، فَكَيْفَ ذَكَرَها اللَّهُ في مَعْرِضِ الإنْعامِ ؟ .
أجابُوا عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وتَحْرِيمُ الخَمْرِ نَزَلَ في سُورَةِ المائِدَةِ، فَكانَ نُزُولُ هَذِهِ الآيَةِ في الوَقْتِ الَّذِي كانَتِ الخَمْرُ فِيهِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ.
الثّانِي: أنَّهُ لا حاجَةَ إلى التِزامِ هَذا النَّسْخِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ ما في هَذِهِ الأشْياءِ مِنَ النّافِعِ، وخاطَبَ المُشْرِكِينَ بِها، والخَمْرُ مِن أشْرِبَتِهِمْ فَهي مَنفَعَةٌ في حَقِّهِمْ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَبَّهَ في هَذِهِ الآيَةِ أيْضًا عَلى تَحْرِيمِها، وذَلِكَ لِأنَّهُ مَيَّزَ بَيْنَها وبَيْنَ الرِّزْقِ الحَسَنِ في (p-٥٦)الذِّكْرِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ السَّكَرُ رِزْقًا حَسَنًا، ولا شَكَّ أنَّهُ حَسَنٌ بِحَسَبِ الشَّهْوَةِ، فَوَجَبَ أنْ يُقالَ: الرُّجُوعُ عَنْ كَوْنِهِ حَسَنًا بِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ، وهَذا إنَّما يَكُونُ كَذَلِكَ إذا كانَتْ مُحَرَّمَةً.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ السَّكَرَ هو النَّبِيذُ، وهو عَصِيرُ العِنَبِ والزَّبِيبِ والتَّمْرِ إذا طُبِخَ حَتّى يَذْهَبَ ثُلُثاهُ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتّى يَشْتَدَّ، وهو حَلالٌ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى حَدِّ السُّكْرِ، ويَحْتَجُّ بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ السَّكَرَ حَلالٌ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرُهُ في مَعْرِضِ الإنْعامِ والمِنَّةِ، ودَلَّ الحَدِيثُ عَلى أنَّ الخَمْرَ حَرامٌ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الخَمْرُ حَرامٌ لِعَيْنِها» “ وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ السَّكَرُ شَيْئًا غَيْرَ الخَمْرِ، وكُلُّ مَن أثْبَتَ هَذِهِ المُغايَرَةَ قالَ: إنَّهُ النَّبِيذُ المَطْبُوخُ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ السَّكَرَ هو الطَّعامُ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ: واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎جَعَلْتَ أعْراضِ الكِرامِ سَكَرا
أيْ: جَعَلْتَ ذَمَّهم طَعامًا لَكَ، قالَ الزَّجّاجُ: هَذا بِالخَمْرِ أشْبَهُ مِنهُ بِالطَّعامِ، والمَعْنى أنَّكَ جَعَلْتَ تَتَخَمَّرُ بِأغْراضِ الكِرامِ، والمَعْنى: أنَّهُ جَعَلَ شَغَفَهُ بِغَيْبَةِ النّاسِ وتَمْزِيقِ أعْراضِهِمْ جارِيًا مَجْرى شُرْبِ الخَمْرِ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الوُجُوهَ الَّتِي هي دَلائِلُ مِن وجْهٍ، وتَعْدِيدٌ لِلنِّعَمِ العَظِيمَةِ مِن وجْهٍ آخَرَ، قالَ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ والمَعْنى: أنَّ مَن كانَ عاقِلًا، عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أنَّ هَذِهِ الأحْوالَ لا يَقْدِرُ عَلَيْها إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَيَحْتَجُّ بِحُصُولِها عَلى وُجُودِ الإلَهِ القادِرِ الحَكِيمِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":65,"ayahs":["وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَسۡمَعُونَ","وَإِنَّ لَكُمۡ فِی ٱلۡأَنۡعَـٰمِ لَعِبۡرَةࣰۖ نُّسۡقِیكُم مِّمَّا فِی بُطُونِهِۦ مِنۢ بَیۡنِ فَرۡثࣲ وَدَمࣲ لَّبَنًا خَالِصࣰا سَاۤىِٕغࣰا لِّلشَّـٰرِبِینَ","وَمِن ثَمَرَ ٰتِ ٱلنَّخِیلِ وَٱلۡأَعۡنَـٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرࣰا وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ"],"ayah":"وَمِن ثَمَرَ ٰتِ ٱلنَّخِیلِ وَٱلۡأَعۡنَـٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرࣰا وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق