الباحث القرآني
ثم قال تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: ظاهِرُ هَذا الكَلامِ يَقْتَضِي أنَّ هَذا الذِّكْرَ مُفْتَقِرٌ إلى بَيانِ رَسُولِ اللَّهِ والمُفْتَقِرُ إلى البَيانِ مُجْمَلٌ، فَظاهِرُ هَذا النَّصِّ يَقْتَضِي أنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ مُجْمَلٌ، فَلِهَذا المَعْنى قالَ بَعْضُهم: مَتى وقَعَ التَّعارُضُ بَيْنَ القُرْآنِ وبَيْنَ الخَبَرِ وجَبَ تَقْدِيمُ الخَبَرِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ مُجْمَلٌ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ، والخَبَرُ مُبَيِّنٌ لَهُ بِدَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ، والمُبَيِّنُ مُقَدَّمٌ عَلى المُجْمَلِ.
والجَوابُ: أنَّ القُرْآنَ مِنهُ مُحْكَمٌ، ومِنهُ مُتَشابِهٌ، والمُحْكَمُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا، فَثَبَتَ أنَّ القُرْآنَ لَيْسَ كُلُّهُ مُجْمَلًا بَلْ فِيهِ ما يَكُونُ مُجْمَلًا فَقَوْلُهُ: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ مَحْمُولٌ عَلى المُجْمَلاتِ.
المسألة الثّانِيَةُ: ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الرَّسُولُ ﷺ هو المُبَيِّنُ لِكُلِّ ما أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى المُكَلَّفِينَ، فَعِنْدَ هَذا قالَ نُفاةُ القِياسِ: لَوْ كانَ القِياسُ حُجَّةً لَما وجَبَ عَلى الرَّسُولِ بَيانُ كُلِّ ما أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى المُكَلَّفِينَ مِنَ الأحْكامِ؛ لِاحْتِمالِ أنْ يُبَيِّنَ المُكَلِّفُ ذَلِكَ الحكم بِطَرِيقَةِ القِياسِ، ولَمّا دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ المُبَيِّنَ لِكُلِّ التَّكالِيفِ والأحْكامِ هو الرَّسُولُ ﷺ، عَلِمْنا أنَّ القِياسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّهُ ﷺ لَمّا بَيَّنَ أنَّ القِياسَ حُجَّةٌ، فَمَن رَجَعَ في تَبْيِينِ الأحْكامِ والتَّكالِيفِ إلى القِياسِ، كانَ ذَلِكَ في الحَقِيقَةِ رُجُوعًا إلى بَيانِ الرَّسُولِ ﷺ .
ثم قال تَعالى: ﴿أفَأمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ﴾ المَكْرُ في اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ السَّعْيِ بِالفَسادِ عَلى سَبِيلِ (p-٣٢)الإخْفاءِ، ولا بُدَّ هَهُنا مِن إضْمارٍ، والتَّقْدِيرُ: المَكَراتِ السَّيِّئاتِ، والمُرادُ أهْلُ مَكَّةَ ومَن حَوْلَ المَدِينَةِ. قالَ الكَلْبِيُّ: المُرادُ بِهَذا المَكْرِ اشْتِغالُهم بِعِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى، والأقْرَبُ أنَّ المُرادَ سَعْيُهم في إيذاءِ الرَّسُولِ ﷺ وأصْحابِهِ عَلى سَبِيلِ الخُفْيَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في تَهْدِيدِهِمْ أُمُورًا أرْبَعَةً:
الأوَّلَ: أنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ كَما خَسَفَ بِقارُونَ.
الثّانِيَ: أنْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، والمُرادُ أنْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ مِنَ السَّماءِ مِن حَيْثُ يَفْجَؤُهم فَيُهْلِكُهم بَغْتَةً كَما فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ.
والثّالِثُ: أنْ يَأْخُذَهم في تَقَلُّبِهِمْ فَما هم بِمُعْجِزِينَ، وفي تَفْسِيرِ هَذا التَّقَلُّبِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ يَأْخُذُهم بِالعُقُوبَةِ في أسْفارِهِمْ، فَإنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى إهْلاكِهِمْ في السَّفَرِ، كَما أنَّهُ قادِرٌ عَلى إهْلاكِهِمْ في الحَضَرِ، وهم لا يُعْجِزُونَ اللَّهَ بِسَبَبِ ضَرْبِهِمْ في البِلادِ البَعِيدَةِ، بَلْ يُدْرِكُهُمُ اللَّهُ حَيْثُ كانُوا، وحَمْلُ لَفْظِ التَّقَلُّبِ عَلى هَذا المَعْنى مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ﴾ [آل عمران: ١٩٦] .
وثانِيهِما: تَفْسِيرُ هَذا اللَّفْظِ بِأنَّهُ يَأْخُذُهم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ في أحْوالِ إقْبالِهِمْ وإدْبارِهِمْ وذَهابِهِمْ ومَجِيئِهِمْ وحَقِيقَتُهُ في حالِ تَصَرُّفِهِمْ في الأُمُورِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيها أمْثالُهم.
وثالِثُها: أنْ يَكُونَ المَعْنى أوْ يَأْخُذَهم في حالِ ما يَنْقَلِبُونَ في قَضايا أفْكارِهِمْ فَيَحُولُ اللَّهُ بَيْنَهم وبَيْنَ إتْمامِ تِلْكَ الحِيَلِ قَسْرًا كَما قالَ: ﴿ولَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأنّى يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٦٦] وحَمْلُ لَفْظِ التَّقَلُّبِ عَلى هَذا المَعْنى مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ﴾ [التوبة: ٤٨] فَإنَّهم إذا قَلَّبُوها فَقَدْ تَقَلَّبُوا فِيها.
والنوع الرّابِعُ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ عَلى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ يَأْخُذَهم عَلى تَخَوُّفٍ﴾ وفي تَفْسِيرِ التَّخَوُّفِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: التَّخَوُّفُ تَفَعُّلٌ مِنَ الخَوْفِ، يُقالُ: خِفْتُ الشَّيْءَ وتَخَوَّفْتُهُ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى لا يَأْخُذُهم بِالعَذابِ أوَّلًا بَلْ يُخِيفُهم أوَّلًا، ثُمَّ يُعَذِّبُهم بَعْدَهُ، وتِلْكَ الإخافَةُ هو أنَّهُ تَعالى يُهْلِكُ فِرْقَةً فَتَخافُ الَّتِي تَلِيها، فَيَكُونُ هَذا أخْذًا ورَدًا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أنْ يَمُرَّ بِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ زَمانًا طَوِيلًا في الخَوْفِ والوَحْشَةِ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ التَّخَوُّفَ هو التَّنَقُّصُ، قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: يُقالُ تَخَوَّفْتُ الشَّيْءَ وتَخَيَّفْتُهُ إذا تَنَقَّصْتَهُ، وعَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ عَلى المِنبَرِ: ما تَقُولُونَ في هَذِهِ الآيَةِ ؟ فَسَكَتُوا، فَقامَ شَيْخٌ مِن هُذَيْلٍ فَقالَ: هَذِهِ لُغَتُنا التَّخَوُّفُ التَّنَقُّصُ، فَقالَ عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ العَرَبُ ذَلِكَ في أشْعارِها ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ شاعِرُنا وأنْشَدَ:
؎تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنها تامِكًا قَرِدًا كَما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فَقالَ عُمَرُ: أيُّها النّاسُ عَلَيْكم بِدِيوانِكم لا تَضِلُّوا، قالُوا: وما دِيوانُنا ؟ قالَ شِعْرُ الجاهِلِيَّةِ فِيهِ تَفْسِيرُ كِتابِكم.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: هَذا التَّنَقُّصُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ ما يَقَعُ في أطْرافِ بِلادِهِمْ كَما قالَ تَعالى: ﴿أفَلا يَرَوْنَ أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها﴾ [الأنبياء: ٤٤] والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى لا يُعاجِلُهم بِالعَذابِ، ولَكِنْ يَنْقُصُ مِن أطْرافِ بِلادِهِمْ إلى القُرى الَّتِي تُجاوِرُهم حَتّى يَخْلُصَ الأمْرُ إلَيْهِمْ فَحِينَئِذٍ يُهْلِكُهم، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: أنَّهُ يَنْقُصُ أمْوالَهم وأنْفُسَهم قَلِيلًا قَلِيلًا حَتّى يَأْتِيَ الفَناءُ عَلى الكُلِّ فَهَذا تَفْسِيرُ هَذِهِ الأُمُورِ الأرْبَعَةِ، والحاصِلُ أنَّهُ تَعالى خَوَّفَهم بِخَسْفٍ يَحْصُلُ في الأرْضِ أوْ بِعَذابٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أوْ بِآفاتٍ تَحْدُثُ دَفْعَةً واحِدَةً، حالَ ما لا يَكُونُونَ عالِمِينَ بِعَلاماتِها ودَلائِلِها، أوْ بِآفاتٍ تَحْدُثُ قَلِيلًا قَلِيلًا إلى أنْ يَأْتِيَ الهَلاكُ عَلى آخِرِهِمْ ثُمَّ خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ رَبَّكم لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ والمَعْنى أنَّهُ يُمْهِلُ في أكْثَرِ الأُمُورِ لِأنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَلا يُعاجِلُ بِالعَذابِ.
{"ayahs_start":45,"ayahs":["أَفَأَمِنَ ٱلَّذِینَ مَكَرُوا۟ ٱلسَّیِّـَٔاتِ أَن یَخۡسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ یَأۡتِیَهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَیۡثُ لَا یَشۡعُرُونَ","أَوۡ یَأۡخُذَهُمۡ فِی تَقَلُّبِهِمۡ فَمَا هُم بِمُعۡجِزِینَ","أَوۡ یَأۡخُذَهُمۡ عَلَىٰ تَخَوُّفࣲ فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفࣱ رَّحِیمٌ"],"ayah":"أَوۡ یَأۡخُذَهُمۡ عَلَىٰ تَخَوُّفࣲ فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفࣱ رَّحِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق