الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّ أشْرَفَ الأجْسامِ بَعْدَ الأفْلاكِ والكَواكِبِ هو الإنْسانُ، فَلَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى الِاسْتِدْلالَ عَلى وُجُودِ الإلَهِ الحَكِيمِ بِأجْرامِ الأفْلاكِ، أتْبَعَهُ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلالِ عَلى هَذا المَطْلُوبِ بِالإنْسانِ. واعْلَمْ أنَّ الإنْسانَ مُرَكَّبٌ مِن بَدَنٍ ونَفْسٍ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ﴾ إشارَةٌ إلى الِاسْتِدْلالِ بِبَدَنِهِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ إشارَةٌ إلى الِاسْتِدْلالِ بِأحْوالِ نَفْسِهِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ. (p-١٧٩)أمّا الطَّرِيقُ الأوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أنْ نَقُولَ: لا شَكَّ أنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ مُتَشابِهُ الأجْزاءِ بِحَسَبِ الحِسِّ والمُشاهَدَةِ، إلّا أنَّ مِنَ الأطِبّاءِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ مُخْتَلِفُ الأجْزاءِ في الحَقِيقَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِن فَضْلَةِ الهَضْمِ الرّابِعِ، فَإنَّ الغِذاءَ يَحْصُلُ لَهُ في المَعِدَةِ هَضْمٌ أوَّلٌ وفي الكَبِدِ هَضْمٌ ثانٍ وفي العُرُوقِ هَضْمٌ ثالِثٌ، وعِنْدَ وُصُولِهِ إلى جَواهِرِ الأعْضاءِ هَضْمٌ رابِعٌ. فَفي هَذا الوَقْتِ وصَلَ بَعْضُ أجْزاءِ الغِذاءِ إلى العَظْمِ، وظَهَرَ فِيهِ أثَرٌ مِنَ الطَّبِيعَةِ العَظْمِيَّةِ، وكَذا القَوْلُ في اللَّحْمِ والعَصَبِ والعُرُوقِ وغَيْرِها، ثُمَّ عِنْدَ اسْتِيلاءِ الحَرارَةِ عَلى البَدَنِ عِنْدَ هَيَجانِ الشَّهْوَةِ يَحْصُلُ ذَوَبانٌ مِن جُمْلَةِ الأعْضاءِ، وذَلِكَ هو النُّطْفَةُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَكُونُ النُّطْفَةُ جِسْمًا مُخْتَلِفَ الأجْزاءِ والطَّبائِعِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: النُّطْفَةُ في نَفْسِها إمّا أنْ تَكُونَ جِسْمًا مُتَشابِهَ الأجْزاءِ في الطَّبِيعَةِ والماهِيَّةِ، أوْ مُخْتَلِفَ الأجْزاءِ فِيها، فَإنْ كانَ الحَقُّ هو الأوَّلَ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ المُقْتَضِيَ لِتَوَلُّدِ البَدَنِ مِنها هو الطَّبِيعَةُ الحاصِلَةُ في جَوْهَرِ النُّطْفَةِ ودَمِ الطَّمْثِ؛ لِأنَّ الطَّبِيعَةَ تَأْثِيرُها بِالذّاتِ والإيجابِ لا بِالتَّدْبِيرِ والِاخْتِيارِ. والقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ إذا عَمِلَتْ في مادَّةٍ مُتَشابِهَةِ الأجْزاءِ وجَبَ أنْ يَكُونَ فِعْلُها هو الكُرَةُ، وعَلى هَذا الحَرْفِ عَوَّلُوا في قَوْلِهِمُ البَسائِطُ يَجِبُ أنْ تَكُونَ أشْكالُها الطَّبِيعِيَّةُ في الكُرَةِ فَلَوْ كانَ المُقْتَضِي لِتَوَلُّدِ الحَيَوانِ مِنَ النُّطْفَةِ هو الطَّبِيعَةُ، لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ شَكْلُها الكُرَةَ، وحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنا أنَّ المُقْتَضِيَ لِحُدُوثِ الأبْدانِ الحَيَوانِيَّةِ لَيْسَ هو الطَّبِيعَةُ، بَلْ فاعِلٌ مُخْتارٌ، وهو يَخْلُقُ بِالحِكْمَةِ والتَّدْبِيرِ والِاخْتِيارِ. وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنْ يُقالَ: النُّطْفَةُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِن أجْزاءٍ مُخْتَلِفَةٍ في الطَّبِيعَةِ والماهِيَّةِ فَنَقُولُ: بِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَإنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ تَوَلُّدُ البَدَنِ مِنها بِتَدْبِيرِ فاعِلٍ مُخْتارٍ حَكِيمٍ وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الوجه الأوَّلُ: أنَّ النُّطْفَةَ رُطُوبَةٌ سَرِيعَةُ الِاسْتِحالَةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَتِ الأجْزاءُ المَوْجُودَةُ فِيها لا تَحْفَظُ الوَضْعَ والنِّسْبَةَ، فالجُزْءُ الَّذِي هو مادَّةُ الدِّماغِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ في الأسْفَلِ، والجُزْءُ الَّذِي هو مادَّةُ القَلْبِ قَدْ يَحْصُلُ في الفَوْقِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا تَكُونَ أعْضاءُ الحَيَوانِ عَلى هَذا التَّرْتِيبِ المُعَيَّنِ أمْرًا دائِمًا ولا أكْثَرِيًّا، وحَيْثُ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنا أنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الأعْضاءِ عَلى هَذا التَّرْتِيبِ الخاصِّ لَيْسَ إلّا بِتَدْبِيرِ الفاعِلِ المُخْتارِ الحَكِيمِ. والوجه الثّانِي: أنَّ النُّطْفَةَ بِتَقْدِيرِ أنَّها جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِن أجْزاءٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبائِعِ، إلّا أنَّهُ يَجِبُ أنْ يَنْتَهِيَ تَحْلِيلُ تَرْكِيبِها إلى أجْزاءٍ يَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنها في نَفْسِهِ جِسْمًا بَسِيطًا، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَلَوْ كانَ المُدَبِّرُ لَها قُوَّةً طَبِيعِيَّةً لَكانَ كُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ البَسائِطِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ شَكْلُهُ هو الكُرَةُ فَكانَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الحَيَوانُ عَلى شَكْلِ كُراتٍ مَضْمُومَةٍ بَعْضُها إلى بَعْضٍ، وحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنا أنَّ مُدَبِّرَ أبْدانِ الحَيَواناتِ لَيْسَ هي الطَّبائِعُ، ولا تَأْثِيراتُ الأنْجُمِ والأفْلاكِ؛ لِأنَّ تِلْكَ التَّأْثِيراتِ مُتَشابِهَةٌ، فَعَلِمْنا أنَّ مُدَبِّرَ أبْدانِ الحَيَواناتِ فاعِلٌ مُخْتارٌ حَكِيمٌ، وهو المَطْلُوبُ، هَذا هو الِاسْتِدْلالُ بِأبْدانِ الحَيَواناتِ عَلى وُجُودِ الإلَهِ المُخْتارِ. وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ﴾ وأمّا الِاسْتِدْلالُ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ المُخْتارِ الحَكِيمِ بِأحْوالِ النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ فَهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: في بَيانِ وجْهِ الِاسْتِدْلالِ وتَقْرِيرِهِ: أنَّ النُّفُوسَ الإنْسانِيَّةَ في أوَّلِ الفِطْرَةِ أقَلُّ فَهْمًا وذَكاءً وفِطْنَةً مِن نُفُوسِ سائِرِ الحَيَواناتِ، ألا تَرى أنَّ ولَدَ الدَّجاجَةِ كَما يَخْرُجُ مِن قِشْرِ البَيْضَةِ يُمَيِّزُ بَيْنَ العَدُوِّ (p-١٨٠)والصَّدِيقِ فَيَهْرَبُ مِنَ الهِرَّةِ ويَلْتَجِئُ إلى الأُمِّ، ويُمَيِّزُ بَيْنَ الغِذاءِ الَّذِي يُوافِقُهُ والغِذاءِ الَّذِي لا يُوافِقُهُ، وأمّا ولَدُ الإنْسانِ فَإنَّهُ حالَ انْفِصالِهِ عَنْ بَطْنِ الأُمِّ، لا يُمَيِّزُ ألْبَتَّةَ بَيْنَ العَدُوِّ والصَّدِيقِ ولا بَيْنَ الضّارِّ والنّافِعِ، فَظَهَرَ أنَّ الإنْسانَ في أوَّلِ الحُدُوثِ أنْقَصُ حالًا وأقَلُّ فِطْنَةً مِن سائِرِ الحَيَواناتِ، ثُمَّ إنَّ الإنْسانَ بَعْدَ كِبَرِهِ يَقْوى عَقْلُهُ ويَعْظُمُ فَهْمُهُ ويَصِيرُ بِحَيْثُ يَقْوى عَلى مِساحَةِ السَّماواتِ والأرْضِ ويَقْوى عَلى مَعْرِفَةِ ذاتِ اللَّهِ وصِفاتِهِ وعَلى مَعْرِفَةِ أصْنافِ المَخْلُوقاتِ مِنَ الأرْواحِ والأجْسامِ والفَلَكِيّاتِ والعُنْصُرِيّاتِ، ويَقْوى عَلى إيرادِ الشُّبُهاتِ القَوِيَّةِ في دِينِ اللَّهِ تَعالى والخُصُوماتِ الشَّدِيدَةِ في كُلِّ المَطالِبِ فانْتِقالُ نَفْسِ الإنْسانِ مِن تِلْكَ البَلادَةِ المُفْرِطَةِ إلى هَذِهِ الكَياسَةِ المُفْرِطَةِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِتَدْبِيرِ إلَهٍ مُخْتارٍ حَكِيمٍ يَنْقُلُ الأرْواحَ مِن نُقْصانِها إلى كَمالاتِها، ومِن جَهالاتِها إلى مَعارِفِها بِحَسَبِ الحِكْمَةِ والِاخْتِيارِ، فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ . وإذا عَرَفْتَ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ أمْكَنَكَ التَّنْبِيهُ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: المسألة الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى إنَّما يَخْلُقُ الإنْسانَ مِنَ النُّطْفَةِ بِواسِطَةِ تَغَيُّراتٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ في القُرْآنِ العَزِيزِ مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ ﴿ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ١٢] إلّا أنَّهُ تَعالى اخْتَصَرَ هَهُنا لِأجْلِ أنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْصاءَ مَذْكُورٌ في سائِرِ الآياتِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ فِيهِ بَحْثانِ: البحث الأوَّلُ: قالَ الواحِدِيُّ: الخَصِيمُ بِمَعْنى المُخاصِمِ، قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: خَصِيمُكَ الَّذِي يُخاصِمُكَ وفَعِيلٌ بِمَعْنى مُفاعِلٍ مَعْرُوفٌ كالنَّسِيبِ بِمَعْنى المُناسِبِ، والعَشِيرِ بِمَعْنى المُعاشِرِ، والأكِيلِ والشَرِيبِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَصِيمٌ فاعِلًا مِن خَصَمَ يَخْصِمُ بِمَعْنى اخْتَصَمَ، ومِنهُ قِراءَةُ حَمْزَةَ: ”تَأْخُذُهم وهم يَخْصِمُونَ“ [يس: ٤٩] . البحث الثّانِي: لِقَوْلِهِ: ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: فَإذا هو مُنْطَبِقٌ مُجادِلٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُنازِعٌ لِلْخُصُومِ بَعْدَ أنْ كانَ نُطْفَةً قَذِرَةً، وجَمادًا لا حِسَّ لَهُ ولا حَرَكَةَ، والمَقْصُودُ مِنهُ: أنَّ الِانْتِقالَ مِن تِلْكَ الحالَةِ الخَسِيسَةِ إلى هَذِهِ الحالَةِ العالِيَةِ الشَّرِيفَةِ لا يَحْصُلُ إلّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. والثّانِي: فَإذا هو خَصِيمٌ لِرَبِّهِ، مُنْكِرٌ عَلى خالِقِهِ، قائِلٌ: ﴿مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] والغَرَضُ مِنهُ وصْفُ الإنْسانِ بِالإفْراطِ في الوَقاحَةِ والجَهْلِ، والتَّمادِي في كُفْرانِ النِّعْمَةِ، والوجه الأوَّلُ أوْفَقُ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآياتِ مَذْكُورَةٌ لِتَقْرِيرِ وجْهِ الِاسْتِدْلالِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ، لا لِتَقْرِيرِ وقاحَةِ النّاسِ وتَمادِيهِمْ في الكُفْرِ والكُفْرانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب