الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلى وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ﴾ ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّ هَذا هو الشُّبْهَةُ الرّابِعَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ فَقالُوا: القَوْلُ بِالبَعْثِ والحَشْرِ والنَّشْرِ باطِلٌ، فَكانَ القَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ باطِلًا. (p-٢٦)أمّا المَقامُ الأوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أنَّ الإنْسانَ لَيْسَ إلّا هَذِهِ البَيِّنَةَ المَخْصُوصَةَ، فَإذا ماتَ وتَفَرَّقَتْ أجْزاؤُهُ وبَطَلَ ذَلِكَ المِزاجُ والِاعْتِدالُ امْتَنَعَ عَوْدُهُ بِعَيْنِهِ، لِأنَّ الشَّيْءَ إذا عَدِمَ فَقَدْ فَنِيَ ولَمْ يَبْقَ لَهُ ذاتٌ ولا حَقِيقَةٌ بَعْدَ فِنائِهِ وعَدَمِهِ، فالَّذِي يَعُودُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ شَيْئًا مُغايِرًا لِلْأوَّلِ فَلا يَكُونُ عَيْنُهُ. وأمّا المَقامُ الثّانِي: وهو أنَّهُ لَمّا بَطَلَ القَوْلُ بِالبَعْثِ بَطَلَ القَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ وتَقْرِيرُهُ مِن وجْهَيْنِ. الأوَّلُ: أنَّ مُحَمَّدًا كانَ داعِيًا إلى تَقْرِيرِ القَوْلِ بِالمَعادِ، فَإذا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أنَّهُ كانَ داعِيًا إلى القَوْلِ الباطِلِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا صادِقًا. الثّانِي: أنَّهُ يُقَرِّرُ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ ووُجُوبَ طاعَتِهِ بِناءً عَلى التَّرْغِيبِ في الثَّوابِ والتَّرْهِيبِ عَنِ العِقابِ، وإذا بَطَلَ ذَلِكَ بَطَلَتْ نُبُوَّتُهُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ مَعْناهُ أنَّهم كانُوا يَدَّعُونَ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأنَّ الشَّيْءَ إذا فَنِيَ وصارَ عَدَمًا مَحْضًا ونَفْيًا صِرْفًا، فَإنَّهُ بَعْدَ هَذا العَدَمِ الصِّرْفِ لا يَعُودُ بِعَيْنِهِ، بَلِ العائِدُ يَكُونُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهُ. وهَذا القَسَمُ واليَمِينُ إشارَةٌ إلى أنَّهم كانُوا يَدَّعُونَ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأنَّ عَوْدَهُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ عَدَمِهِ مُحالٌ في بَدِيهَةِ العَقْلِ: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ﴾ عَلى أنَّهم يَجْحَدُونَ في قُلُوبِهِمْ وعُقُولِهِمْ هَذا العِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وأمّا بَيانُ أنَّهُ لَمّا بَطَلَ القَوْلُ بِالبَعْثِ بَطَلَ القَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ عَلى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ، لِأنَّهُ كَلامٌ جَلِيٌّ مُتَبادِرٌ إلى العُقُولِ، فَتَرَكُوهُ لِهَذا العُذْرِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ القَوْلَ بِالبَعْثِ مُمْكِنٌ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ: الوجه الأوَّلُ: أنَّهُ وعْدٌ حَقٌّ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَوَجَبَ تَحْقِيقُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي لِأجْلِهِ كانَ وعْدًا حَقًّا عَلى اللَّهِ تَعالى، وهو التَّمْيِيزُ بَيْنَ المُطِيعِ وبَيْنَ العاصِي، وبَيْنَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ، وبَيْنَ الظّالِمِ والمَظْلُومِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ﴾ وهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ بالَغْنا في شَرْحِها وتَقْرِيرِها في سُورَةِ ”يُونُسَ“ . والوجه الثّانِي: في بَيانِ إمْكانِ الحَشْرِ والنَّشْرِ أنَّ كَوْنَهُ تَعالى مُوجِدًا لِلْأشْياءِ ومُكَوِّنًا لَها لا يَتَوَقَّفُ عَلى سَبْقِ مادَّةٍ ولا مُدَّةٍ ولا آلَةٍ، وهو تَعالى إنَّما يُكَوِّنُها بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ، ولَيْسَ لِقُدْرَتِهِ دافِعٌ ولا لِمَشِيئَتِهِ مانِعٌ فَعَبَّرَ تَعالى عَنْ هَذا النَّفاذِ الخالِي عَنِ المُعارِضِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَكَما أنَّهُ تَعالى قَدَرَ عَلى الإيجادِ في الِابْتِداءِ وجَبَ أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلَيْهِ في الإعادَةِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ القاطِعَيْنِ أنَّ القَوْلَ بِالحَشْرِ والنَّشْرِ والبَعْثِ والقِيامَةِ حَقٌّ وصِدْقٌ، والقَوْلُ: إنَّما طَعَنُوا في صِحَّةِ النُّبُوَّةِ بِناءً عَلى الطَّعْنِ في هَذا الأصْلِ، فَلَمّا بَطَلَ هَذا الطَّعْنُ بَطَلَ أيْضًا طَعْنُهم في النُّبُوَّةِ. واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ﴾ حِكايَةٌ عَنِ الَّذِينَ أشْرَكُوا، وقَوْلُهُ: ﴿بَلى﴾ إثْباتٌ لِما بَعْدَ النَّفْيِ، أيْ: بَلى يَبْعَثُهم، وقَوْلُهُ: ﴿وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أيْ: وعَدَ بِالبَعْثِ وعْدًا حَقًّا لا خُلْفَ فِيهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ يَبْعَثُهم دَلَّ عَلى قَوْلِهِ وعَدَ بِالبَعْثِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ مِن أُمُورِ البَعْثِ، أيْ: بَلى يَبْعَثُهم لِيُبَيِّنَ لَهم ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ فِيما أقْسَمُوا فِيهِ. * * * ثم قال تَعالى: ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: ﴿كُنْ﴾ إنْ كانَ خِطابًا مَعَ المَعْدُومِ فَهو مُحالٌ، وإنْ كانَ خِطابًا مَعَ المَوْجُودِ كانَ هَذا أمْرًا بِتَحْصِيلِ الحاصِلِ وهو مُحالٌ. (p-٢٧)والجَوابُ: أنَّ هَذا تَمْثِيلٌ لِنَفْيِ الكَلامِ والمُعاياةِ وخِطابٌ مَعَ الخَلْقِ بِما يَعْقِلُونَ، ولَيْسَ خِطابًا لِلْمَعْدُومِ، لِأنَّ ما أرادَهُ اللَّهُ تَعالى فَهو كائِنٌ عَلى كُلِّ حالٍ وعَلى ما أرادَهُ مِنَ الإسْراعِ، ولَوْ أرادَ خَلْقَ الدُّنْيا والآخِرَةِ بِما فِيهِما مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ في قَدْرِ لَمْحِ البَصَرِ لَقَدَرَ عَلى ذَلِكَ، ولَكِنَّ العِبادَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ عَلى قَدْرِ عُقُولِهِمْ. المسألة الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَوْلُنا﴾ مُبْتَدَأٌ و﴿أنْ نَقُولَ﴾ خَبَرُهُ و﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ مِن كانَ التّامَّةِ الَّتِي بِمَعْنى الحُدُوثِ والوُجُودِ أيْ: إذا أرَدْنا حُدُوثَ شَيْءٍ فَلَيْسَ إلّا أنْ نَقُولَ لَهُ: احْدُثْ، فَيَحْدُثُ عَقِيبَ ذَلِكَ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ. المسألة الثّالِثَةُ: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ والكِسائِيُّ (فَيَكُونَ) بِنَصْبِ النُّونِ، والباقُونَ بِالرَّفْعِ، قالَ الفَرّاءُ: القِراءَةُ بِالرَّفْعِ وجْهُها أنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: ﴿أنْ نَقُولَ لَهُ﴾ كَلامًا تامًّا، ثُمَّ يُخْبِرَ عَنْهُ بِأنَّهُ سَيَكُونُ، كَما يُقالُ: إنَّ زَيْدًا يَكْفِيهِ إنْ أُمِرَ فَيَفْعَلُ، فَتَرْفَعُ قَوْلَكَ: ”فَيَفْعَلُ“ عَلى أنْ تَجْعَلَهُ كَلامًا مُبْتَدَأً، وأمّا القِراءَةُ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهُ أنْ تَجْعَلَهُ عَطْفًا عَلى ”أنْ نَقُولَ“، والمَعْنى: أنْ نَقُولَ: ”كُنْ“ فَيَكُونَ، هَذا قَوْلُ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ، قالَ الزَّجّاجُ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى جَوابِ ﴿كُنْ﴾ قالَ أبُو عَلِيٍّ لَفْظَةُ ”كُنْ“ وإنْ كانَتْ عَلى لَفْظَةِ الأمْرِ فَلَيْسَ القَصْدُ بِها هَهُنا الأمْرَ، إنَّما هو - واللَّهُ أعْلَمُ - الإخْبارُ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ وحُدُوثِهِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُهُ: إنَّهُ نُصِبَ عَلى جَوابِ ﴿كُنْ﴾ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب