الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ لَهم ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿لِيَحْمِلُوا أوْزارَهم كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهم بِغَيْرِ عِلْمٍ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بالَغَ في تَقْرِيرِ دَلائِلِ التَّوْحِيدِ وأوْرَدَ الدَّلائِلَ القاهِرَةَ في إبْطالِ مَذاهِبِ عَبَدَةِ الأصْنامِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ شُبُهاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ مَعَ الجَوابِ عَنْها. فالشُّبْهَةُ الأُولى: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا احْتَجَّ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَفْسِهِ بِكَوْنِ القُرْآنِ مُعْجِزَةً طَعَنُوا في القُرْآنِ وقالُوا: إنَّهُ أساطِيرُ الأوَّلِينَ، ولَيْسَ هو مِن جِنْسِ المُعْجِزاتِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اخْتَلَفُوا في أنَّ ذَلِكَ السّائِلَ مَن كانَ ؟ قِيلَ: هو كَلامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وقِيلَ: هو قَوْلُ المُسْلِمِينَ لَهم، وقِيلَ: هو قَوْلُ المُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا مَداخِلَ مَكَّةَ يُنَفِّرُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذا سَألَهم وُفُودُ الحاجِّ عَمّا أُنْزِلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . المسألة الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَكُونُ تَنْزِيلُ رَبِّهِمْ أساطِيرَ الأوَّلِينَ ؟ . وجَوابُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ مَذْكُورٌ عَلى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى عَنْهم: ﴿إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧]، وقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] وقَوْلِهِ: (p-١٦)﴿ياأيُّها السّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ [الزخرف: ٤٩] . الثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هَذا الَّذِي تَذْكُرُونَ أنَّهُ مُنْزَّلٌ مِن رَبِّكم هو أساطِيرُ الأوَّلِينَ. الثّالِثُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ هَذا القُرْآنَ بِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ مِمّا أنْزَلَهُ اللَّهُ لَكِنَّهُ أساطِيرُ الأوَّلِينَ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ العُلُومِ والفَصاحَةِ والدَّقائِقِ والحَقائِقِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى شُبَهَهم قالَ: ﴿لِيَحْمِلُوا أوْزارَهم كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ﴾ اللّامُ في ﴿لِيَحْمِلُوا﴾ لامُ العاقِبَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمْ يَصِفُوا القُرْآنَ بِكَوْنِهِ أساطِيرَ الأوَّلِينَ لِأجْلِ أنْ يَحْمِلُوا الأوْزارَ، ولَكِنْ لَمّا كانَتْ عاقِبَتُهم ذَلِكَ حَسُنَ ذِكْرُ هَذِهِ اللّامِ كَقَوْلِهِ: ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] وقَوْلُهُ: ﴿كامِلَةً﴾ مَعْناهُ: أنَّهُ تَعالى لا يُخَفِّفُ مِن عِقابِهِمْ شَيْئًا، بَلْ يُوصِلُ ذَلِكَ العِقابَ بِكُلِّيَّتِهِ إلَيْهِمْ، وأقُولُ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى قَدْ يُسْقِطُ بَعْضَ العِقابِ عَنِ المُؤْمِنِينَ، إذْ لَوْ كانَ هَذا المَعْنى حاصِلًا في حَقِّ الكُلِّ، لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ بِهَذا التَّكْمِيلِ مَعْنًى، وقَوْلُهُ: ﴿ومِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ مَعْناهُ: ويَحْصُلُ لِلرُّؤَساءِ مِثْلُ أوْزارِ الأتْباعِ، والسَّبَبُ فِيهِ ما رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«أيُّما داعٍ دَعا إلى الهُدى فاتُّبِعَ كانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ لا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وأيُّما داعٍ دَعا إلى ضَلالَةٍ فاتُّبِعَ كانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ لا يَنْقُصُ مِن آثامِهِمْ شَيْءٌ» “ . واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ تَعالى يُوصِلُ العِقابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الأتْباعُ إلى الرُّؤَساءِ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذا لا يَلِيقُ بِعَدْلِ اللَّهِ تَعالى، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ [النجم: ٣٩] وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الإسراء: ١٥] بَلِ المَعْنى: أنَّ الرَّئِيسَ إذا وضَعَ سُنَّةً قَبِيحَةً عَظُمَ عِقابُهُ، حَتّى أنَّ ذَلِكَ العِقابَ يَكُونُ مُساوِيًا لِكُلِّ ما يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الأتْباعِ، قالَ الواحِدِيُّ: ولَفْظَةُ: ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿ومِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأنَّها لَوْ كانَتْ لِلتَّبْعِيضِ لَخَفَّ عَنِ الأتْباعِ بَعْضُ أوْزارِهِمْ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أوْزارِهِمْ شَيْءٌ» “ . ولَكِنَّها لِلْجِنْسِ أيْ: لِيَحْمِلُوا مِن جِنْسِ أوْزارِ الأتْباعِ. وقَوْلُهُ: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ يَعْنِي: أنَّ هَؤُلاءِ الرُّؤَساءَ إنَّما يُقْدِمُونَ عَلى هَذا الإضْلالِ جَهْلًا مِنهم بِما يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ العَذابِ الشَّدِيدِ عَلى ذَلِكَ الإضْلالِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ الكَلامَ بِقَوْلِهِ: ﴿ألا ساءَ ما يَزِرُونَ﴾ والمَقْصُودُ: المُبالَغَةُ في الزَّجْرِ. فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنِ القَوْمِ هَذِهِ الشُّبْهَةَ لَمْ يُجِبْ عَنْها، بَلِ اقْتَصَرَ عَلى مَحْضِ الوَعِيدِ؛ فَما السَّبَبُ فِيهِ ؟ قُلْنا: السَّبَبُ فِيهِ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ كَوْنَ القُرْآنِ مُعْجِزًا بِطَرِيقَيْنِ. الأوَّلُ: أنَّهُ ﷺ تَحَدّاهم بِكُلِّ القُرْآنِ، وتارَةً بِعَشْرِ سُوَرٍ، وتارَةً بِسُورَةٍ واحِدَةٍ، وتارَةً بِحَدِيثٍ واحِدٍ، وعَجَزُوا عَنِ المُعارَضَةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُعْجِزًا. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى حَكى هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِعَيْنِها في آيَةٍ أُخْرى وهو قَوْلُهُ: ﴿اكْتَتَبَها فَهي تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥] وأبْطَلَها بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الفرقان: ٦] ومَعْناهُ أنَّ القُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلى الإخْبارِ عَنِ الغُيُوبِ، وذَلِكَ لا يَتَأتّى إلّا مِمَّنْ يَكُونُ عالِمًا بِأسْرارِ السَّماواتِ والأرْضِ، فَلَمّا ثَبَتَ كَوْنُ القُرْآنِ مُعْجِزًا بِهَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، وتَكَرَّرَ شَرْحُ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ مِرارًا كَثِيرَةً، لا جَرَمَ اقْتَصَرَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى مُجَرَّدِ الوَعِيدِ، ولَمْ يَذْكُرْ ما يَجْرِي مَجْرى الجَوابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب