الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا احْتَجَّ عَلى إثْباتِ الإلَهِ في المَرْتَبَةِ الأُولى بِأجْرامِ السَّماواتِ، وفي المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ بِبَدَنِ الإنْسانِ ونَفْسِهِ، وفي المَرْتَبَةِ الثّالِثَةِ بِعَجائِبِ خِلْقَةِ الحَيَواناتِ، وفي المَرْتَبَةِ الرّابِعَةِ بِعَجائِبِ طَبائِعِ النَّباتِ، ذَكَرَ في المَرْتَبَةِ الخامِسَةِ الِاسْتِدْلالَ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ بِعَجائِبِ أحْوالِ العَناصِرِ، فَبَدَأ مِنها بِالِاسْتِدْلالِ بِعُنْصُرِ الماءِ. (p-٦)واعْلَمْ أنَّ عُلَماءَ الهَيْئَةِ قالُوا: ثَلاثَةُ أرْباعِ كُرَةِ الأرْضِ غائِصَةٌ في الماءِ، وذاكَ هو البَحْرُ المُحِيطُ، وهو كُلِّيَّةُ عُنْصُرِ الماءِ، وحَصَلَ في هَذا الرُّبْعِ المَسْكُونِ سَبْعَةٌ مِنَ البِحارِ كَما قالَ بَعْدَهُ: ﴿والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ﴾ [لقمان: ٢٧] والبَحْرُ الَّذِي سَخَّرَهُ اللَّهُ تَعالى لِلنّاسِ هو هَذِهِ البِحارُ، ومَعْنى تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعالى إيّاها لِلْخَلْقِ جَعْلُها بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ النّاسُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِها إمّا بِالرُّكُوبِ أوْ بِالغَوْصِ. واعْلَمْ أنَّ مَنافِعَ البِحارِ كَثِيرَةٌ، واللَّهُ تَعالى ذَكَرَ مِنها في هَذِهِ الآيَةِ ثَلاثَةَ أنْواعٍ: * * * المَنفَعَةُ الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتَأْكُلُوا مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: ”لَحْمٌ طَرِيٌّ“ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وقَدْ طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً، وقالَ الفَرّاءُ: ”طَرا يَطْرا طَراءً“ - مَمْدُودًا - وطَراوَةً، كَما يُقالُ: شَقى يَشْقى شَقاءً وشَقاوَةً. واعْلَمْ أنَّ في ذِكْرِ الطَّرِيِّ مَزِيدَ فائِدَةٍ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَوْ كانَ السَّمَكُ كُلُّهُ مالِحًا لَما عُرِفَ بِهِ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى ما يُعْرَفُ بِالطَّرِيِّ، فَإنَّهُ لَمّا خَرَجَ مِنَ البَحْرِ المِلْحِ الزُّعاقِ الحَيَوانُ الَّذِي لَحْمُهُ في غايَةِ العُذُوبَةِ عُلِمَ أنَّهُ إنَّما حَدَثَ لا بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، بَلْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وحِكْمَتِهِ حَيْثُ أظْهَرَ الضِّدَّ مِنَ الضِّدِّ. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ حَلَفَ لا يَأْكُلُ اللَّحْمَ فَأكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لا يَحْنَثُ، قالُوا: لِأنَّ لَحْمَ السَّمَكِ لَيْسَ بِلَحْمٍ، وقالَ آخَرُونَ: إنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأنَّهُ تَعالى نَصَّ عَلى كَوْنِهِ لَحْمًا في هَذِهِ الآيَةِ، ولَيْسَ فَوْقَ بَيانِ اللَّهِ بَيانٌ. رُوِيَ أنَّ أبا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمّا قالَ بِهَذا القَوْلِ وسَمِعَهُ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ فَأنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَةِ بَعَثَ إلَيْهِ رَجُلًا وسَألَهُ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لا يُصَلِّي عَلى البِساطِ، فَصَلّى عَلى الأرْضِ هَلْ يَحْنَثُ أمْ لا ؟ قالَ سُفْيانُ: لا يَحْنَثُ، فَقالَ السّائِلُ: ألَيْسَ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِساطًا﴾ [نوح: ١٩] قالَ: فَعَرَفَ سُفْيانُ أنَّ ذَلِكَ كانَ بِتَلْقِينِ أبِي حَنِيفَةَ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذا الكَلامُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، لِأنَّ أقْصى ما في البابِ أنّا تَرَكْنا العَمَلَ بِظاهِرِ القُرْآنِ في لَفْظِ البِساطِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي قامَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَلْزَمُنا تَرْكُ العَمَلِ بِظاهِرِ القُرْآنِ في آيَةٍ أُخْرى، والفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا حَلَفَ لا يُصَلِّي عَلى البِساطِ، فَلَوْ أدْخَلْنا الأرْضَ تَحْتَ لَفْظِ البِساطِ لَزِمَنا أنْ نَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلاةِ؛ لِأنَّهُ إنْ صَلّى عَلى الأرْضِ المَفْرُوشَةِ بِالبِساطِ لَزِمَهُ الحِنْثُ لا مَحالَةَ، ولَوْ صَلّى عَلى الأرْضِ الَّتِي لا تَكُونُ مَفْرُوشَةً لَزِمَهُ الحِنْثُ أيْضًا عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُدْخِلَ الأرْضَ تَحْتَ لَفْظِ البِساطِ، فَهَذا يَقْتَضِي مَنعَهُ مِنَ الصَّلاةِ، وذَلِكَ مِمّا لا سَبِيلَ إلَيْهِ، بِخِلافِ ما إذا أدْخَلْنا لَحْمَ السَّمَكِ تَحْتَ لَفْظِ اللَّحْمِ، لِأنَّهُ لَيْسَ في مَنعِهِ مِن أكْلِ اللَّحْمِ عَلى الإطْلاقِ مَحْذُورٌ فَظَهَرَ الفَرْقُ. الثّانِي: أنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِن عُرْفِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّ وُقُوعَ اسْمِ البِساطِ عَلى الأرْضِ الخالِصَةِ مَجازٌ، أمّا وُقُوعُ اسْمِ اللَّحْمِ عَلى لَحْمِ السَّمَكِ فَلَمْ يُعْرَفْ أنَّهُ مَجازٌ، فَظَهَرَ الفَرَقُ واللَّهُ أعْلَمُ. وحُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ مَبْنى الأيْمانِ عَلى العادَةِ، وعادَةُ النّاسِ إذا ذُكِرَ اللَّحْمُ عَلى الإطْلاقِ أنْ لا يُفْهَمَ مِنهُ لَحْمُ السَّمَكِ، بِدَلِيلِ أنَّهُ إذا قالَ الرَّجُلُ لِغُلامِهِ: اشْتَرِ بِهَذِهِ الدَّراهِمِ لَحْمًا فَجاءَ بِالسَّمَكِ كانَ حَقِيقًا بِالإنْكارِ. والجَوابُ: أنّا رَأيْناكم في كِتابِ الأيْمانِ تارَةً تَعْتَبِرُونَ اللَّفْظَ وتارَةً تَعْتَبِرُونَ العُرْفَ، وما رَأيْناكم ذَكَرْتُمْ (p-٧)ضابِطًا بَيْنَ القِسْمَيْنِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ إذا قالَ لِغُلامِهِ: اشْتَرِ بِهَذِهِ الدَّراهِمِ لَحْمًا، فَجاءَ بِلَحْمِ العُصْفُورِ كانَ حَقِيقًا بِالإنْكارِ عَلَيْهِ، مَعَ أنَّكم تَقُولُونَ: إنَّهُ يَحْنَثُ بِأكْلِ لَحْمِ العُصْفُورِ، فَثَبَتَ أنَّ العُرْفَ مُضْطَرِبٌ، والرُّجُوعُ إلى نَصِّ القُرْآنِ مُتَعَيِّنٌ. واللَّهُ أعْلَمُ. المَنفَعَةُ الثّانِيَةُ مِن مَنافِعِ البَحْرِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها﴾ والمُرادُ بِالحِلْيَةِ اللُّؤْلُؤُ والمَرْجانُ كَما قالَ تَعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنهُما اللُّؤْلُؤُ والمَرْجانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] والمُرادُ: بِلُبْسِهِمْ لُبْسُ نِسائِهِمْ لِأنَّهُنَّ مِن جُمْلَتِهِمْ، ولِأنَّ إقْدامَهُنَّ عَلى التَّزَيُّنِ بِها إنَّما يَكُونُ مِن أجْلِهِمْ، فَكَأنَّها زِينَتُهم ولِباسُهم، ورَأيْتُ بَعْضَ أصْحابِنا تَمَسَّكُوا في مَسْألَةِ أنَّهُ لا يَجِبُ الزَّكاةُ في الحُلِيِّ المُباحِ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«لا زَكاةَ في الحُلِيِّ» “ فَقُلْتُ: هَذا الحَدِيثُ ضَعِيفُ الرِّوايَةِ، وبِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَيُمْكِنُ أنْ يُقالَ فِيهِ: لَفْظُ الحُلِيِّ لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُحَلّى بِالألِفِ واللّامِ، وقَدْ بَيَّنّا في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ هَذا اللَّفْظَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلى المَعْهُودِ السّابِقِ، والحُلِيُّ الَّذِي هو المَعْهُودُ السّابِقُ هو الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ في هَذِهِ الآيَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها﴾ فَصارَ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ الخَبَرِ لا زَكاةَ في اللَّآلِئِ، وحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلالُ بِهِ. واللَّهُ أعْلَمُ. المَنفَعَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَرى الفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: مَخْرُ السَّفِينَةِ شَقُّها الماءَ بِصَدْرِها، وعَنِ الفَرّاءِ: أنَّهُ صَوْتُ جَرْيِ الفُلْكِ بِالرِّياحِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿مَواخِرَ﴾ أيْ: جِوارِيَ، إنَّما حَسُنَ التَّفْسِيرُ بِهِ، لِأنَّها لا تَشُقُّ الماءَ إلّا إذا كانَتْ جارِيَةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ يَعْنِي: لِتَرْكَبُوهُ لِلتِّجارَةِ، فَتَطْلُبُوا الرِّبْحَ مِن فَضْلِ اللَّهِ، وإذا وجَدْتُمْ فَضْلَ اللَّهِ تَعالى وإحْسانَهُ فَلَعَلَّكم تُقْدِمُونَ عَلى شُكْرِهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب