الباحث القرآني

(p-١٧٣)(سُورَةُ النَّحْلِ) مَكِّيَّةٌ، إلّا الآياتِ الثَّلاثَ الأخِيرَةَ فَمَدَنِيَّةٌ وآياتُها: ١٢٨، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الكَهْفِ وحَكى الأصَمُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ كُلَّها مَدَنِيَّةٌ، وقالَ آخَرُونَ: مِن أوَّلِها إلى قَوْلِهِ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ مَدَّنِيٌّ وما سِواهُ فَمَكِّيٌّ، وعَنْ قَتادَةَ بِالعَكْسِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمّى سُورَةَ النِّعَمِ وهي مِائَةٌ وعِشْرُونَ وثَمانِ آياتٍ مَكِّيَّةٍ. ﷽ ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ أنْ أنْذِرُوا أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاتَّقُونِ﴾ . ﷽ ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ أنْ أنْذِرُوا أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاتَّقُونِ﴾ . فِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّ مَعْرِفَةَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ مُرَتَّبَةٌ عَلى سُؤالاتٍ ثَلاثَةٍ: فالسُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يُخَوِّفُهم بِعَذابِ الدُّنْيا تارَةً وهو القَتْلُ والِاسْتِيلاءُ عَلَيْهِمْ كَما حَصَلَ في يَوْمِ بَدْرٍ، وتارَةً بِعَذابِ يَوْمِ القِيامَةِ، وهو الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ قِيامِ السّاعَةِ، ثُمَّ إنَّ القَوْمَ لَمّا لَمْ يُشاهِدُوا شَيْئًا مِن ذَلِكَ احْتَجُّوا بِذَلِكَ عَلى تَكْذِيبِهِ، وطَلَبُوا مِنهُ الإتْيانَ بِذَلِكَ العَذابِ، وقالُوا لَهُ: ائْتِنا بِهِ. ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ [القَمَرِ: ١] قالَ الكُفّارُ فِيما بَيْنَهم: إنَّ هَذا يَزْعُمُ أنَّ القِيامَةَ قَدْ قَرُبَتْ فَأمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ ما تَعْمَلُونَ حَتّى نَنْظُرَ ما هو كائِنٌ، فَلَمّا تَأخَّرَتْ قالُوا: ما نَرى شَيْئًا مِمّا تُخَوِّفُنا بِهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ﴾ [الأنْبِياءِ: ١] فَأشْفَقُوا وانْتَظَرُوا يَوْمَها، فَلَمّا امْتَدَّتِ الأيّامُ قالُوا: يا مُحَمَّدُ ما نَرى شَيْئًا مِمّا تُخَوِّفُنا بِهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾ فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَفَعَ النّاسُ رُؤُوسَهم، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿فَلا﴾ (p-١٧٤)﴿تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ والحاصِلُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أكْثَرَ مِن تَهْدِيدِهِمْ بِعَذابِ الدُّنْيا وعَذابِ الآخِرَةِ، ولَمْ يَرَوْا شَيْئًا نَسَبُوهُ إلى الكَذِبِ. فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ وفي تَقْرِيرِ هَذا الجَوابِ وجْهانِ: الوجه الأوَّلُ: أنَّهُ وإنْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ العَذابُ إلّا أنَّهُ كانَ واجِبَ الوُقُوعِ والشَّيْءُ إذا كانَ بِهَذِهِ الحالَةِ والصِّفَةِ، فَإنَّهُ يُقالُ في الكَلامِ المُعْتادِ أنَّهُ قَدْ أتى ووَقَعَ إجْراءً لِما يَجِبُ وُقُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَجْرى الواقِعِ، يُقالُ لِمَن طَلَبَ الإغاثَةَ وقَرُبَ حُصُولُها: قَدْ جاءَكَ الغَوْثُ فَلا تَجْزَعْ. والوجه الثّانِي: وهو أنْ يُقالَ أنَّ أمْرَ اللَّهِ بِذَلِكَ وحُكْمَهُ بِهِ قَدْ أتى وحَصَلَ ووَقَعَ، فَأمّا المَحْكُومُ بِهِ فَإنَّما لَمْ يَقَعْ؛ لِأنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِوُقُوعِهِ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَقَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الوَقْتِ لا يَخْرُجُ إلى الوُجُودِ والحاصِلُ كَأنَّهُ قِيلَ: أمْرُ اللَّهِ وحُكْمُهُ بِنُزُولِ العَذابِ قَدْ حَصَلَ ووُجِدَ مِنَ الأزَلِ إلى الأبَدِ، فَصَحَّ قَوْلُنا أتى أمْرُ اللَّهِ، إلّا أنَّ المَحْكُومَ بِهِ والمَأْمُورَ بِهِ إنَّما لَمْ يَحْصُلْ؛ لِأنَّهُ تَعالى خَصَّصَ حُصُولَهُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، ولا تَطْلُبُوا حُصُولَهُ قَبْلَ حُضُورِ ذَلِكَ الوَقْتِ. السُّؤالُ الثّانِي: قالَتِ الكُفّارُ: هَبْ أنّا سَلَّمْنا لَكَ يا مُحَمَّدُ صِحَّةَ ما تَقُولُهُ مِن أنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِإنْزالِ العَذابِ عَلَيْنا إمّا في الدُّنْيا وإمّا في الآخِرَةِ، إلّا أنّا نَعْبُدُ هَذِهِ الأصْنامَ؛ فَإنَّها شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ فَهي تَشْفَعُ لَنا عِنْدَهُ، فَنَتَخَلَّصُ مِن هَذا العَذابِ المَحْكُومِ بِهِ بِسَبَبِ شَفاعَةِ هَذِهِ الأصْنامِ. فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ شَرِكَةِ الشُّرَكاءِ والأضْدادِ والأنْدادِ وأنْ يَكُونَ لِأحَدٍ مِنَ الأرْواحِ والأجْسامِ أنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ و(ما) في قَوْلِهِ: ﴿عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، والتَّقْدِيرُ: سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ إشْراكِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الَّذِي، أيْ: سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ هَذِهِ الأصْنامِ الَّتِي جَعَلُوها شُرَكاءَ لِلَّهِ؛ لِأنَّها جَماداتٌ خَسِيسَةٌ، فَأيُّ مُناسَبَةٍ بَيْنَها وبَيْنَ أدْوَنِ المَوْجُوداتِ فَضْلًا عَنْ أنْ يُحْكَمَ بِكَوْنِها شُرَكاءَ لِمُدَبِّرِ الأرْضِ والسَّماواتِ. السُّؤالُ الثّالِثُ: هَبْ أنَّهُ تَعالى قَضى عَلى بَعْضِ عَبِيدِهِ بِالسَّرّاءِ وعَلى آخَرِينَ بِالضَّرّاءِ ولَكِنْ كَيْفَ يُمْكِنُكَ أنْ تَعْرِفَ هَذِهِ الأسْرارَ الَّتِي لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ، وكَيْفَ صِرْتَ بِحَيْثُ تَعْرِفُ أسْرارَ اللَّهِ وأحْكامَهُ في مُلْكِهِ ومَلَكُوتِهِ ؟ فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ أنْ أنْذِرُوا أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاتَّقُونِ﴾ وتَقْرِيرُ هَذا الجَوابِ أنَّهُ تَعالى يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ عَلى مَن يَشاءُ مِن عَبِيدِهِ، ويَأْمُرُ ذَلِكَ العَبْدَ بِأنْ يُبَلِّغَ إلى سائِرِ الخَلْقِ أنَّ إلَهَ العالَمِ واحِدٌ كَلَّفَهم بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ والعِبادَةِ، وبَيَّنَ أنَّهم إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فازُوا بِخَيْرَيِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ تَمَرَّدُوا وقَعُوا في شَرِّ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَبِهَذا الطَّرِيقِ صارَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ المَعارِفِ مِن دُونِ سائِرِ الخَلْقِ، وظَهَرَ بِهَذا التَّرْتِيبِ الَّذِي لَخَّصْناهُ أنَّ هَذِهِ الآياتِ مُنْتَظِمَةٌ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ واللَّهُ أعْلَمُ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قَرَأ نافِعٌ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (يُنَزِّلُ) بِالياءِ وكَسْرِ الزّايِ وتَشْدِيدِها، والمَلائِكَةَ بِالنَّصْبِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو (يُنْزِلُ) بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ وتَخْفِيفِها، والأوَّلُ مِنَ التَّفْعِيلِ، والثّانِي مِنَ (p-١٧٥)الإفْعالِ، وهُما لُغَتانِ: المسألة الثّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: يُرِيدُ بِالمَلائِكَةِ جِبْرِيلَ وحْدَهُ. قالَ الواحِدِيُّ: وتَسْمِيَةُ الواحِدِ بِاسْمِ الجَمْعِ إذا كانَ ذَلِكَ الواحِدُ رَئِيسًا مُقَدَّمًا جائِزٌ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ﴾ . [نُوحٍ: ١] و﴿إنّا أنْزَلْناهُ﴾ [القَدْرِ: ١] . و﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ﴾ [الحِجْرِ: ٩] وفي حَقِّ النّاسِ كَقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٧٣] وفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ سَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وقَوْلُهُ: ﴿بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنَ الرُّوحِ الوَحْيُ وهو كَلامُ اللَّهِ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشُّورى: ٥٢] وقَوْلُهُ: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [غافِرٍ: ١٥] قالَ أهْلُ التَّحْقِيقِ: الجَسَدُ مَواتٌ كَثِيفٌ مُظْلِمٌ، فَإذا اتَّصَلَ بِهِ الرُّوحُ صارَ حَيًّا لَطِيفًا نُورانِيًّا. فَظَهَرَتْ آثارُ النُّورِ في الحَواسِّ الخَمْسِ، ثُمَّ الرُّوحُ أيْضًا ظَلْمانِيَّةٌ جاهِلَةٌ، فَإذا اتَّصَلَ العَقْلُ بِها صارَتْ مُشْرِقَةً نُورانِيَّةً، كَما قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ﴾ [النَّحْلِ: ٧٨] ثُمَّ العَقْلُ أيْضًا لَيْسَ بِكامِلِ النُّورانِيَّةِ والصَّفاءِ والإشْراقِ حَتّى يُسْتَكْمَلَ بِمَعْرِفَةِ ذاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ ومَعْرِفَةِ أحْوالِ عالَمِ الأرْواحِ والأجْسادِ، وعالَمِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ المَعارِفَ الشَّرِيفَةَ الإلَهِيَّةَ لا تَكْمُلُ، ولا تَصْفُو إلّا بِنُورِ الوَحْيِ والقُرْآنِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: القُرْآنُ والوَحْيُ بِهِ تَكْمُلُ المَعارِفُ الإلَهِيَّةُ، والمُكاشَفاتُ الرَّبّانِيَّةُ وهَذِهِ المَعارِفُ بِها يُشْرِقُ العَقْلُ ويَصْفُو ويَكْمُلُ، والعَقْلُ بِهِ يَكْمُلُ جَوْهَرُ الرُّوحِ، والرُّوحُ بِهِ يَكْمُلُ حالُ الجَسَدِ، وعِنْدَ هَذا يَظْهَرُ أنَّ الرُّوحَ الأصْلِيَّ الحَقِيقِيَّ هو الوَحْيُ والقُرْآنُ؛ لِأنَّ بِهِ يَحْصُلُ الخَلاصُ مِن رَقْدَةِ الجَهالَةِ، ونَوْمِ الغَفْلَةِ، وبِهِ يَحْصُلُ الِانْتِقالُ مِن حَضِيضِ البَهِيمِيَّةِ إلى أوْجِ المَلَكِيَّةِ، فَظَهَرَ أنَّ إطْلاقَ لَفْظِ الرُّوحِ عَلى الوَحْيِ في غايَةِ المُناسَبَةِ والمُشاكَلَةِ، ومِمّا يُقَوِّي ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى أطْلَقَ لَفْظَ الرُّوحِ عَلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٩٣] وعَلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: ﴿رَوْحِ اللَّهِ﴾ [يُوسُفَ: ٨٧] وإنَّما حَسُنَ هَذا الإطْلاقُ؛ لِأنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ وُجُودِهِما حَياةُ القَلْبِ وهي الهِدايَةُ والمَعارِفُ، فَلَمّا حَسُنَ إطْلاقُ اسْمِ الرُّوحِ عَلَيْهِما لِهَذا المَعْنى؛ فَلَأنْ يَحْسُنَ إطْلاقُ لَفْظِ الرُّوحِ عَلى الوَحْيِ والتَّنْزِيلِ كانَ ذَلِكَ أوْلى. والقَوْلُ الثّانِي في هَذِهِ الآيَةِ وهو قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ: إنَّ الرُّوحَ هَهُنا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، والباءُ في قَوْلِهِ: ﴿بِالرُّوحِ﴾ بِمَعْنى مَعَ كَقَوْلِهِمْ خَرَجَ فُلانٌ بِثِيابِهِ، أيْ: مَعَ ثِيابِهِ ورَكِبَ الأمِيرُ بِسِلاحِهِ أيْ: مَعَ سِلاحِهِ، فَيَكُونُ المَعْنى: يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ مَعَ الرُّوحِ وهو جِبْرِيلُ، والأوَّلُ أقْرَبُ، وتَقْرِيرُ هَذا الوجه: أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ما أنْزَلَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ جِبْرِيلَ وحْدَهُ، بَلْ في أكْثَرِ الأحْوالِ كانَ يُنَزِّلُ مَعَ جِبْرِيلَ أفْواجًا مِنَ المَلائِكَةِ، ألا تَرى أنَّ في يَوْمِ بَدْرٍ وفي كَثِيرٍ مِنَ الغَزَواتِ كانَ يَنْزِلُ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أقْوامٌ مِنَ المَلائِكَةِ، وكانَ يَنْزِلُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تارَةً مَلَكُ الجِبالِ، وتارَةً مَلَكُ البِحارِ، وتارَةً رِضْوانُ، وتارَةً غَيْرُهم، وقَوْلُهُ: ﴿مِن أمْرِهِ﴾ يَعْنِي: أنَّ ذَلِكَ التَّنْزِيلَ والنُّزُولَ لا يَكُونُ إلّا بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما نَتَنَزَّلُ إلّا بِأمْرِ رَبِّكَ﴾ [مَرْيَمَ: ٦٤] وقَوْلُهُ: ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٧] وقَوْلُهُ: ﴿وهم مِن خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٨] (p-١٧٦)وقَوْلُهُ: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٥٠] وقَوْلُهُ: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [التَّحْرِيمِ: ٦] فَكُلُّ هَذِهِ الآياتِ دالَّةٌ عَلى أنَّهم لا يُقْدِمُونَ عَلى عَمَلٍ مِنَ الأعْمالِ إلّا بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى وإذْنِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [ غافِرٍ: ١٥] يُرِيدُ الأنْبِياءَ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعالى بِرِسالَتِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿أنْ أنْذِرُوا﴾ قالَ الزَّجّاجُ: (أنْ) بَدَلٌ مِنَ الرُّوحِ والمَعْنى: يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِأنْ أنْذِرُوا، أيْ: أعْلِمُوا الخَلائِقَ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا، والإنْذارُ هو الإعْلامُ مَعَ التَّخْوِيفِ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: في الآيَةِ فَوائِدُ: الفائِدَةُ الأُولى: أنَّ وُصُولَ الوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعالى إلى الأنْبِياءِ لا يَكُونُ إلّا بِواسِطَةِ المَلائِكَةِ، ومِمّا يُقَوِّي ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى قالَ في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨٥] فَبَدَأ بِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ المَلائِكَةِ؛ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَ الوَحْيَ مِنَ اللَّهِ ابْتِداءً مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، وذَلِكَ الوَحْيُ هو الكُتُبُ، ثُمَّ إنَّ المَلائِكَةَ يُوَصِّلُونَ ذَلِكَ الوَحْيَ إلى الأنْبِياءِ فَلا جَرَمَ كانَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ هو الِابْتِداءُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ بِذِكْرِ المَلائِكَةِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الكُتُبِ وفي الدَّرَجَةِ الرّابِعَةِ بِذِكْرِ الرُّسُلِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إذا أوْحى اللَّهُ تَعالى إلى المَلَكِ فَعِلْمُ ذَلِكَ المَلَكِ بِأنَّ ذَلِكَ الوَحْيَ وحْيُ اللَّهِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ أوِ اسْتِدْلالِيٌّ. وبِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ اسْتِدْلالِيًّا فَكَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْهِ ؟ وأيْضًا المَلَكُ إذا بَلَّغَ ذَلِكَ الوَحْيَ إلى الرَّسُولِ فَعِلْمُ الرَّسُولِ بِكَوْنِهِ مَلَكًا صادِقًا لا شَيْطانًا رَجِيمًا ضَرُورِيٌّ أوِ اسْتِدْلالِيٌّ، فَإنْ كانَ اسْتِدْلالِيًّا فَكَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْهِ ؟ فَهَذِهِ مَقاماتٌ ضَيِّقَةٌ، وتَمامُ العِلْمِ بِها لا يَحْصُلُ إلّا بِالبحث عَنْ حَقِيقَةِ المَلَكِ وكَيْفِيَّةِ وحْيِ اللَّهِ إلَيْهِ، وكَيْفِيَّةِ تَبْلِيغِ المَلَكِ ذَلِكَ الوَحْيَ إلى الرَّسُولِ. فَأمّا إذا أجْرَيْنا هَذِهِ الأُمُورَ عَلى الكَلِماتِ المَأْلُوفَةِ صَعُبَ المَرامُ وزالَ النِّظامُ، وذَلِكَ لِأنَّ آياتِ القُرْآنِ ناطِقَةٌ بِأنَّ هَذا الوَحْيَ والتَّنْزِيلَ إنَّما حَصَلَ مِنَ المَلائِكَةِ أوْ نَقُولُ: هَبْ أنَّ آياتِ القُرْآنِ لَمْ تَدُلَّ عَلى ذَلِكَ إلّا أنَّ احْتِمالَ كَوْنِ الأمْرِ كَذَلِكَ قائِمٌ في بَدِيهَةِ العَقْلِ. وإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: لا نَعْلَمُ كَوْنَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ صادِقًا مَعْصُومًا عَنِ الكَذِبِ والتَّلْبِيسِ إلّا بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وصِحَّةُ الدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلى أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ صادِقٌ، وصِدْقُهُ يَتَوَقَّفُ عَلى أنَّ هَذا القُرْآنَ مُعْجِزٌ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى، لا مِن قِبَلِ شَيْطانٍ خَبِيثٍ، والعِلْمُ بِذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلى العِلْمِ بِأنَّ جِبْرِيلَ صادِقٌ مُحِقٌّ مُبَرَّأٌ عَنِ التَّلْبِيسِ وعَنْ أفْعالِ الشَّيْطانِ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الدَّوْرُ، فَهَذا مَقامٌ صَعْبٌ. أمّا إذا عَرَفْنا حَقِيقَةَ النُّبُوَّةِ وعَرَفْنا حَقِيقَةَ الوَحْيِ زالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِالكُلِّيَّةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب