الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ .
فِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ راجِعًا إلى المُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ؛ لِأنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلى الأقْرَبِ أوْلى، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ أنَّهُ تَعالى أقْسَمَ بِنَفْسِهِ أنْ يَسْألَ هَؤُلاءِ المُقْتَسِمِينَ عَمّا كانُوا يَقُولُونَهُ مِنَ اقْتِسامِ القُرْآنِ، وعَنْ سائِرِ المَعاصِي، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ راجِعًا إلى جَمِيعِ المُكَلَّفِينَ؛ لِأنَّ ذِكْرَهم قَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿وقُلْ إنِّي أنا النَّذِيرُ المُبِينُ﴾ أيْ لِجَمِيعِ الخَلْقِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ المُؤْمِنِينَ وذِكْرُ الكافِرِينَ، فَيَعُودُ قَوْلُهُ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ عَلى الكُلِّ، ولا مَعْنى لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ (p-١٧٠)السُّؤالَ إنَّما يَكُونُ عَنِ الكُفْرِ أوْ عَنِ الإيمانِ، بَلِ السُّؤالِ واقِعٌ عَنْهُما وعَنْ جَمِيعِ الأعْمالِ؛ لِأنَّ اللَّفْظَ عامٌّ فَيَتَناوَلُ الكُلَّ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ﴾ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٣٩] أجابُوا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
الوجه الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لا يَسْألُونَ سُؤالَ الِاسْتِفْهامِ؛ لِأنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِكُلِّ أعْمالِهِمْ، وإنَّما يَسْألُونَ سُؤالَ التَّقْرِيعِ يُقالُ لَهم: لِمَ فَعَلْتُمْ كَذا ؟
ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذا الجَوابُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ سُؤالُ الِاسْتِفْهامِ لِما كانَ في تَخْصِيصِ هَذا النَّفْيِ بِقَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ فائِدَةٌ؛ لِأنَّ مِثْلَ هَذا السُّؤالِ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ في كُلِّ الأوْقاتِ.
والوجه الثّانِي: في الجَوابِ أنْ يَصْرِفَ النَّفْيَ إلى بَعْضِ الأوْقاتِ، والإثْباتَ إلى وقْتٍ آخَرَ؛ لِأنَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ.
ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ هَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّهُ لا يَحْصُلُ السُّؤالُ في ذَلِكَ اليَوْمِ، فَلَوْ حَصَلَ السُّؤالُ في جُزْءٍ مِن أجْزاءِ ذَلِكَ اليَوْمِ لَحَصَلَ التَّناقُضُ.
والوجه الثّالِثُ: أنْ نَقُولَ: قَوْلُهُ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٣٩] يُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ وقَوْلُهُ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ عائِدٌ إلى المُقْتَسِمِينَ وهَذا خاصٌّ ولا شَكَّ أنَّ الخاصَّ مُقَدَّمٌ عَلى العامِّ. أما قوله: ﴿فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ﴾ فاعْلَمْ أنَّ مَعْنى الصَّدْعِ في اللُّغَةِ الشَّقُّ والفَصْلُ، وأنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ لِجَرِيرٍ:
؎هَذا الخَلِيفَةُ فارْضَوْا ما قَضى لَكُمُ بِالحَقِّ يَصْدَعُ ما في قَوْلِهِ حَيْفٌ
فَقالَ يَصْدَعُ يَفْصِلُ، وتَصَدَّعَ القَوْمُ إذا تَفَرَّقُوا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ قالَ الفَرّاءُ: يَتَفَرَّقُونَ. والصَّدْعُ في الزُّجاجَةِ الإبانَةُ، أقُولُ: ولَعَلَّ ألَمَ الرَّأْسِ إنَّما سُمِّيَ صُداعًا؛ لِأنَّ قِحْفَ الرَّأْسِ عِنْدَ ذَلِكَ الألَمِ كَأنَّهُ يَنْشَقُّ. قالَ الأزْهَرِيُّ: وسُمِّيَ الصُّبْحُ صَدِيعًا كَما يُسَمّى فَلَقًا. وقَدِ انْصَدَعَ وانْفَلَقَ الفَجْرُ وانْفَطَرَ الصُّبْحُ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَقَوْلُ: ﴿فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ﴾ أيْ: فَرِّقْ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وقالَ الزَّجّاجُ: فاصْدَعْ أظْهِرْ ما تُؤْمَرُ بِهِ يُقالُ: صَدَعَ بِالحُجَّةِ إذا تَكَلَّمَ بِها جِهارًا كَقَوْلِكَ صَرَّحَ بِها، وهَذا في الحَقِيقَةِ يَرْجِعُ أيْضًا إلى الشَّقِّ والتَّفْرِيقِ، أما قوله: ﴿بِما تُؤْمَرُ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ ”ما“ بِمَعْنى الَّذِي أيْ: بِما تُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الشَّرائِعِ، فَحَذَفَ الجارَّ كَقَوْلِهِ:
؎أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ بِهِ
الثّانِي: أنْ تَكُونَ ”ما“ مَصْدَرِيَّةً أيْ: فاصْدَعْ بِأمْرِكَ وشَأْنِكَ. قالُوا: وما زالَ النَّبِيُّ ﷺ مُسْتَخْفِيًا حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
ثم قال تَعالى: ﴿وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ أيْ: لا تُبالِ بِهِمْ، ولا تَلْتَفِتْ إلى لَوْمِهِمْ إيّاكَ عَلى إظْهارِ (p-١٧١)الدَّعْوَةِ. قالَ بَعْضُهم: هَذا مَنسُوخٌ بِآيَةِ القِتالِ وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ مَعْنى هَذا الإعْراضِ تَرْكُ المُبالاةِ بِهِمْ فَلا يَكُونُ مَنسُوخًا.
ثم قال: ﴿إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾ قِيلَ: كانُوا خَمْسَةَ نَفَرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ: الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ والعاصُ بْنُ وائِلٍ وعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ والأسْوَدُ بْنُ المُطَّلِبِ والأسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، قالَ جِبْرِيلُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْتُ أنْ أكْفِيَكَهم، فَأوْمَأ إلى عَقِبِ الوَلِيدِ فَمَرَّ بِنِبالٍ، فَتَعَلَّقَ بِثَوْبِهِ سَهْمٌ فَلَمْ يَنْعَطِفْ تَعَظُّمًا لِأخْذِهِ، فَأصابَ عِرْقًا في عَقِبِهِ فَقَطَعَهُ فَماتَ، وأوْمَأ إلى أخْمَصِ العاصِ بْنِ وائِلٍ فَدَخَلَتْ فِيها شَوْكَةٌ فَقالَ: لُدِغْتُ لُدِغْتُ، وانْتَفَخَتْ رِجْلُهُ حَتّى صارَتْ كالرَّحا وماتَ، وأشارَ إلى عَيْنَيِ الأسْوَدِ بْنِ المُطَّلِبِ فَعَمِيَ، وأشارَ إلى أنْفِ عَدِيِّ بْنِ قَيْسٍ، فامْتَخَطَ قَيْحًا فَماتَ، وأشارَ إلى الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وهو قاعِدٌ في أصْلِ شَجَرَةٍ فَجَعَلَ يَنْطَحُ رَأْسَهُ بِالشَّجَرَةِ ويَضْرِبُ وجْهَهُ بِالشَّوْكِ حَتّى ماتَ.
واعْلَمْ أنَّ المُفَسِّرِينَ قَدِ اخْتَلَفُوا في عَدَدِ هَؤُلاءِ المُسْتَهْزِئِينَ وفي أسْمائِهِمْ وفي كَيْفِيَّةِ طَرِيقِ اسْتِهْزائِهِمْ، ولا حاجَةَ إلى شَيْءٍ مِنها، والقَدْرُ المَعْلُومُ أنَّهم طَبَقَةٌ لَهم قُوَّةٌ وشَوْكَةٌ ورِياسَةٌ؛ لِأنَّ أمْثالَهم هُمُ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلى إظْهارِ مِثْلِ هَذِهِ السَّفاهَةِ مَعَ مِثْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في عُلُوِّ قَدْرِهِ وعِظَمِ مَنصِبِهِ، ودَلَّ القُرْآنُ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى أفْناهم وأبادَهم وأزالَ كَيْدَهم، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":92,"ayahs":["فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ","عَمَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِینَ","إِنَّا كَفَیۡنَـٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِینَ","ٱلَّذِینَ یَجۡعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَۚ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ"],"ayah":"ٱلَّذِینَ یَجۡعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَۚ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق