الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهم ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ واخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا صَبَّرَهُ عَلى أذى قَوْمِهِ، وأمَرَهُ بِأنْ يَصْفَحَ الصَّفْحَ الجَمِيلَ أتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ النِّعَمِ العَظِيمَةِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ تَعالى مُحَمَّدًا ﷺ بِها؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا تَذَكَّرَ كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الصَّفْحُ والتَّجاوُزُ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿آتَيْناكَ سَبْعًا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ الآياتِ، وأنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ السُّوَرِ، وأنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ الفَوائِدِ. ولَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى التَّعْيِينِ. وأمّا المَثانِي: فَهو صِيغَةُ جَمْعٍ، واحِدُهُ مُثَنّاةٌ، والمُثَنّاةُ كُلُّ شَيْءٍ يُثَنّى، أيْ: يُجْعَلُ اثْنَيْنِ مِن قَوْلِكَ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إذا عَطَفْتَهُ أوْ ضَمَمْتَ إلَيْهِ آخَرَ، ومِنهُ يُقالُ: لِرُكْبَتَيِ الدّابَّةِ ومِرْفَقَيْها مَثانِيَ؛ لِأنَّها تُثْنى بِالفَخِذِ والعَضُدِ، ومَثانِي الوادِي مَعاطِفُهُ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: سَبْعًا مِنَ المَثانِي مَفْهُومُهُ سَبْعَةُ أشْياءَ مِن جِنْسِ الأشْياءِ الَّتِي تُثَنّى ولا شَكَّ أنَّ هَذا القَدْرَ مُجْمَلٌ، ولا سَبِيلَ إلى تَعْيِينِهِ إلّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ولِلنّاسِ فِيهِ أقْوالٌ:
الأوَّلُ: وهو قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ: إنَّهُ فاتِحَةُ الكِتابِ وهو قَوْلُ عُمَرَ وعَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي هُرَيْرَةَ والحَسَنِ وأبِي العالِيَةِ ومُجاهِدٍ والضَّحّاكِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقَتادَةَ، ورُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ الفاتِحَةَ، وقالَ: هي السَّبْعُ المَثانِي» رَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ، والسَّبَبُ في وُقُوعِ هَذا الِاسْمِ عَلى الفاتِحَةِ أنَّها سَبْعُ آياتٍ، وأمّا السَّبَبُ في تَسْمِيَتِها بِالمَثانِي فَوُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّها تُثَنّى في كُلِّ صَلاةٍ بِمَعْنى أنَّها تُقْرَأُ في كُلِّ رَكْعَةٍ.
والثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: سُمِّيَتْ مَثانِيَ؛ لِأنَّها يُثَنّى بَعْدَها ما يُقْرَأُ مَعَها.
الثّالِثُ: سُمِّيَتْ آياتُ الفاتِحَةِ مَثانِيَ؛ لِأنَّها قُسِّمَتْ قِسْمَيْنِ اثْنَيْنِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» “ والحَدِيثُ مَشْهُورٌ.
الرّابِعُ: سُمِّيَتْ مَثانِيَ؛ لِأنَّها قِسْمانِ ثَناءٌ ودُعاءٌ، وأيْضًا النِّصْفُ الأوَّلُ مِنها حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ وهو الثَّناءُ، والنِّصْفُ الثّانِي حَقُّ العُبُودِيَّةِ وهو الدُّعاءُ.
الخامِسُ: سُمِّيَتِ الفاتِحَةُ بِالمَثانِي؛ لِأنَّها نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِمَكَّةَ في أوائِلِ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ ومَرَّةً بِالمَدِينَةِ.
السّادِسُ: سُمِّيَتْ بِالمَثانِي؛ لِأنَّ كَلِماتِها مُثَنّاةٌ مِثْلُ: ”الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ“ وفي قِراءَةِ عُمَرَ: ”غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وغَيْرِ الضّالِّينَ“ .
(p-١٦٥)السّابِعُ: قالَ الزَّجّاجُ: سُمِّيَتِ الفاتِحَةُ بِالمَثانِي؛ لِاشْتِمالِها عَلى الثَّناءِ عَلى اللَّهِ تَعالى وهو حَمْدُ اللَّهِ وتَوْحِيدُهُ ومُلْكُهُ.
* * *
واعْلَمْ أنّا إذا حَمَلْنا قَوْلَهُ: ﴿سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾ عَلى سُورَةِ الفاتِحَةِ فَهَهُنا أحْكامٌ:
(الحكم الأوَّلُ)
نَقَلَ القاضِي عَنْ أبِي بَكْرٍ الأصَمِّ أنَّهُ قالَ: كانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَكْتُبُ في مُصْحَفِهِ فاتِحَةَ الكِتابِ رَأى أنَّها لَيْسَتْ مِنَ القُرْآنِ. وأقُولُ: لَعَلَّ حُجَّتَهُ فِيهِ أنَّ السَّبْعَ المَثانِيَ لَمّا ثَبَتَ أنَّهُ هو الفاتِحَةُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَطَفَ السَّبْعَ المَثانِيَ عَلى القُرْآنِ، والمَعْطُوفُ مُغايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وجَبَ أنْ يَكُونَ السَّبْعُ المَثانِي غَيْرَ القُرْآنِ، إلّا أنَّ هَذا يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ﴾ [الأحْزابِ: ٧] وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [البَقَرَةِ: ٩٨] ولِلْخَصْمِ أنْ يُجِيبَ بِأنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يَذْكُرَ الكُلَّ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ ذِكْرَ بَعْضِ أجْزائِهِ وأقْسامِهِ لِكَوْنِهِ أشْرَفَ الأقْسامِ. أمّا إذا ذُكِرَ شَيْءٌ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ كانَ المَذْكُورُ أوَّلًا مُغايِرًا لِلْمَذْكُورِ ثانِيًا، وهَهُنا ذَكَرَ السَّبْعَ المَثانِيَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ القُرْآنَ العَظِيمَ، فَوَجَبَ حُصُولُ المُغايَرَةِ.
والجَوابُ الصَّحِيحُ: أنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ مُغايِرٌ لِمَجْمُوعِهِ، فَلِمَ لا يَكْفِي هَذا القَدْرُ مِنَ المُغايَرَةِ في حُسْنِ العَطْفِ ؟ واللَّهُ أعْلَمُ.
(الحكم الثّانِي)
أنَّهُ لَمّا كانَ المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾ هو الفاتِحَةُ، دَلَّ عَلى أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أفْضَلُ سُوَرِ القُرْآنِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ إفْرادَها بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِها جُزْءًا مِن أجْزاءِ القُرْآنِ، لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِاخْتِصاصِها بِمَزِيدِ الشَّرَفِ والفَضِيلَةِ.
والثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا أنْزَلَها مَرَّتَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى زِيادَةِ فَضْلِها وشَرَفِها.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَمّا رَأيْنا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ واظَبَ عَلى قِراءَتِها في جَمِيعِ الصَّلَواتِ طُولَ عُمْرِهِ، وما أقامَ سُورَةً أُخْرى مَقامَها في شَيْءٍ مِنَ الصَّلَواتِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى المُكَلَّفِ أنْ يَقْرَأها في صِلاتِهِ وأنْ لا يُقِيمَ سائِرَ آياتِ القُرْآنِ مَقامَها، وأنْ يَحْتَرِزَ عَنْ هَذا الإبْدالِ فَإنَّ فِيهِ خَطَرًا عَظِيمًا واللَّهُ أعْلَمُ.
القَوْلُ الثّانِي في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ﴿سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾: أنَّها السَّبْعُ الطِّوالُ وهَذا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في بَعْضِ الرِّواياتِ ومُجاهِدٍ وهي: البَقَرَةُ، وآلُ عِمْرانَ، والنِّساءُ، والمائِدَةُ، والأنْعامُ، والأعْرافُ، والأنْفالُ، والتَّوْبَةُ مَعًا. قالُوا: وسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّوَرُ مَثانِيَ؛ لِأنَّ الفَرائِضَ والحُدُودَ والأمْثالَ والعِبَرَ ثُنِّيَتْ فِيها وأنْكَرَ الرَّبِيعُ هَذا القَوْلَ وقالَ: هَذِهِ الآيَةُ مَكِّيَّةٌ وأكْثَرُ هَذِهِ السُّوَرِ السَّبْعَةِ مَدَنِيَّةٌ، وما نَزَلَ شَيْءٌ مِنها في مَكَّةَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الآيَةِ عَلَيْها.
وأجابَ قَوْمٌ عَنْ هَذا الإشْكالِ: بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَ القُرْآنَ كُلَّهُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، ثُمَّ أنْزَلَهُ عَلى نَبِيِّهِ مِنها نُجُومًا، فَلَمّا أنْزَلَهُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، وحَكَمَ بِإنْزالِهِ عَلَيْهِ، فَهو مِن جُمْلَةِ ما آتاهُ، وإنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ بَعْدُ.
ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّهُ تَعالى قالَ ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾ وهَذا الكَلامُ إنَّما يَصْدُقُ إذا وصَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ . فَأمّا الَّذِي أنْزَلَهُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا وهو لَمْ يَصِلْ بَعْدُ إلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَهَذا الكَلامُ لا يَصْدُقُ فِيهِ. وأما قوله بِأنَّهُ لَمّا حَكَمَ اللَّهُ تَعالى بِإنْزالِهِ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ كانَ ذَلِكَ جارِيًا مَجْرى ما نَزَلَ (p-١٦٦)عَلَيْهِ فَهَذا أيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ إقامَةَ ما لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ مَقامَ النّازِلِ عَلَيْهِ مُخالِفٌ لِلظّاهِرِ.
والقَوْلُ الثّالِثُ في تَفْسِيرِ السَّبْعِ المَثانِي: أنَّها هي السُّوَرُ الَّتِي هي دُونَ الطِّوالِ والمِئِينَ وفَوْقَ المُفَصَّلِ، واخْتارَ هَذا القَوْلَ قَوْمٌ واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِما رَوى ثَوْبانُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”«إنَّ اللَّهَ أعْطانِي السَّبْعَ الطِّوالَ مَكانَ التَّوْراةِ، وأعْطانِي المِئِينَ مَكانَ الإنْجِيلِ، وأعْطانِي المَثانِيَ مَكانَ الزَّبُورِ، وفَضَّلَنِي رَبِّي بِالمُفَصَّلِ» “ . قالَ الواحِدِيُّ: والقَوْلُ في تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّوَرِ مَثانِي كالقَوْلِ في تَسْمِيَةِ الطِّوالِ مَثانِي.
وأقُولُ: إنْ صَحَّ هَذا التَّفْسِيرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلا غُبارَ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَصِحَّ فَهَذا القَوْلُ مُشْكِلٌ؛ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ المُسَمّى بِالسَّبْعِ المَثانِي يَجِبُ أنْ يَكُونَ أفْضَلَ مِن سائِرِ السُّوَرِ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ هَذِهِ السُّوَرَ الَّتِي سَمُّوها بِالمَثانِي لَيْسَتْ أفْضَلَ مِن غَيْرِها، فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ السَّبْعِ المَثانِي عَلى تِلْكَ السُّوَرِ.
والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ السَّبْعَ المَثانِيَ هو القُرْآنُ كُلُّهُ، وهو مَنقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في بَعْضِ الرِّواياتِ وقَوْلِ طاوُسٍ قالُوا: ودَلِيلُ هَذا القَوْلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٣] فَوَصَفَ كُلَّ القُرْآنِ بِكَوْنِهِ مَثانِيَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ في أنَّهُ ما المُرادُ بِالسَّبْعِ ؟ وما المُرادُ بِالمَثانِي ؟ أمّا السَّبْعُ فَذَكَرَ فِيهِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ القُرْآنَ سَبْعَةُ أسْباعٍ.
وثانِيها: أنَّ القُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلى سَبْعَةِ أنْواعٍ مِنَ العُلُومِ: التَّوْحِيدُ، والنُّبُوَّةُ، والمَعادُ، والقَضاءُ، والقَدَرُ، وأحْوالُ العالَمِ، والقَصَصُ، والتَّكالِيفُ.
وثالِثُها: أنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلى الأمْرِ والنَّهْيِ، والخَبَرِ والِاسْتِخْبارِ، والنِّداءِ، والقَسَمِ، والأمْثالِ. وأمّا وصْفُ كُلِّ القُرْآنِ بِالمَثانِي؛ فَلِأنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والتَّكالِيفِ. وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ أيْضًا؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ بِالسَّبْعِ المَثانِي القُرْآنَ، لَكانَ قَوْلُهُ: ﴿والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلى نَفْسِهِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ.
وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّهُ حَسُنَ إدْخالُ حَرْفِ العَطْفِ فِيهِ؛ لِاخْتِلافِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمِ
واعْلَمْ أنَّ هَذا وإنْ كانَ جائِزًا لِأجْلِ وُرُودِهِ في هَذا البَيْتِ، إلّا أنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّ الأصْلَ خِلافُهُ.
والقَوْلُ الخامِسُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالسَّبْعِ الفاتِحَةَ؛ لِأنَّها سَبْعُ آياتٍ، ويَكُونُ المُرادُ بِالمَثانِي كُلَّ القُرْآنِ ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعَ آياتٍ هي الفاتِحَةُ وهي مِن جُمْلَةِ المَثانِي الَّذِي هو القُرْآنُ وهَذا القَوْلُ عَيْنُ الأوَّلِ، والتَّفاوُتُ لَيْسَ إلّا بِقَلِيلٍ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المسألة الثّانِيَةُ: لَفْظَةُ ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾ قالَ الزَّجّاجُ فِيها وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ مِنَ القُرْآنِ أيْ: ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعَ آياتٍ مِن جُمْلَةِ الآياتِ الَّتِي يُثْنى بِها عَلى اللَّهِ تَعالى، وآتَيْناكَ القُرْآنَ العَظِيمَ قالَ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِن صِلَةً، والمَعْنى: آتَيْناكَ سَبْعًا هي المَثانِي كَما قالَ ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحَجِّ: ٣٠] المَعْنى: اجْتَنِبُوا الأوْثانَ، لا أنَّ بَعْضَها رِجْسٌ واللَّهُ أعْلَمُ.
أما قوله تَعالى ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهُمْ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا عَرَّفَ رَسُولَهُ عِظَمَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وهو أنَّهُ آتاهُ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ، نَهاهُ عَنِ الرَّغْبَةِ في الدُّنْيا فَحَظَرَ عَلَيْهِ أنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إلَيْها رَغْبَةً فِيها. وفي مَدِّ العَيْنِ أقْوالٌ:
القَوْلُ الأوَّلُ: كَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّكَ أُوتِيتَ القُرْآنَ العَظِيمَ فَلا تَشْغَلْ سِرَّكَ وخاطِرَكَ بِالِالتِفاتِ إلى الدُّنْيا ومِنهُ (p-١٦٧)الحَدِيثُ ”«لَيْسَ مِنّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ» “ وقالَ أبُو بَكْرٍ: مَن أُوتِيَ القُرْآنَ فَرَأى أنَّ أحَدًا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيا أفْضَلَ مِمّا أُوتِيَ فَقَدْ صَغَّرَ عَظِيمًا وعَظَّمَ صَغِيرًا، وقِيلَ: وافَتْ مِن بَعْضِ البِلادِ سَبْعُ قَوافِلَ لِيَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، فِيها أنْواعُ البَزِّ والطِّيبِ والجَواهِرِ وسائِرِ الأمْتِعَةِ، فَقالَ المُسْلِمُونَ: لَوْ كانَتْ هَذِهِ الأمْوالُ لَنا لَتَقَوَّيْنا بِها، ولَأنْفَقْناها في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: لَقَدْ أعْطَيْتُكم سَبْعَ آياتٍ هي خَيْرٌ مِن هَذِهِ القَوافِلِ السَّبْعِ.
القَوْلُ الثّانِي: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ”لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ“ أيْ: لا تَتَمَنَّ ما فَضَّلْنا بِهِ أحَدًا مِن مَتاعِ الدُّنْيا، وقَرَّرَ الواحِدِيُّ هَذا المَعْنى فَقالَ: إنَّما يَكُونُ مادًّا عَيْنَيْهِ إلى الشَّيْءِ إذا أدامَ النَّظَرَ نَحْوَهُ، وإدامَةُ النَّظَرِ إلى الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلى اسْتِحْسانِهِ وتَمَنِّيهِ، وكانَ ﷺ لا يَنْظُرُ إلى ما يُسْتَحْسَنُ مِن مَتاعِ الدُّنْيا، ورُوِيَ أنَّهُ نَظَرَ إلى نَعَمِ بَنِي المُصْطَلَقِ، وقَدْ عَبَسَتْ في أبْوالِها وأبْعارِها، فَتَقَنَّعَ في ثَوْبِهِ وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ. وقَوْلُهُ عَبَسَتْ في أبْوالِها وأبْعارِها هو أنْ تَجِفَّ أبْوالُها وأبْعارُها عَلى أفْخاذِها إذا تُرِكَتْ مِنَ العَمَلِ أيّامَ الرَّبِيعِ، فَتَكْثُرُ شُحُومُها ولُحُومُها وهي أحْسَنُ ما تَكُونُ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: قالَ بَعْضُهم ”ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ“ أيْ: لا تَحْسُدَنَّ أحَدًا عَلى ما أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيا قالَ القاضِي: هَذا بَعِيدٌ؛ لِأنَّ الحَسَدَ مِن كُلِّ أحَدٍ قَبِيحٌ؛ لِأنَّهُ إرادَةٌ لِزَوالِ نِعَمِ الغَيْرِ عَنْهُ، وذَلِكَ يَجْرِي مَجْرى الِاعْتِراضِ عَلى اللَّهِ تَعالى والِاسْتِقْباحِ لِحُكْمِهِ وقَضائِهِ، وذَلِكَ مِن كُلِّ أحَدٍ قَبِيحٌ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ تَخْصِيصُ الرَّسُولِ ﷺ بِهِ ؟
أما قوله تَعالى: ﴿أزْواجًا مِنهُمْ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أيْ أصْنافًا مِنَ الكُفّارِ، والزَّوْجُ في اللُّغَةِ الصِّنْفُ، ثم قال: ﴿ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَيَقْوى بِمَكانِهِمُ الإسْلامُ ويَنْتَعِشُ بِهِمُ المُؤْمِنُونَ. والحاصِلُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهُمْ﴾ نَهْيٌ لَهُ عَنِ الِالتِفاتِ إلى أمْوالِهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ نَهْيٌ لَهُ عَنِ الِالتِفاتِ إلَيْهِمْ، وأنْ يَحْصُلَ لَهم في قَلْبِهِ قَدْرٌ ووَزْنٌ.
ثم قال: ﴿واخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الخَفْضُ: مَعْناهُ في اللُّغَةِ نَقِيضُ الرَّفْعِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى في صِفَةِ القِيامَةِ: ﴿خافِضَةٌ رافِعَةٌ﴾ [الواقِعَةِ: ٣] أيْ: أنَّها تَخْفِضُ أهْلَ المَعاصِي، وتَرْفَعُ أهْلَ الطّاعاتِ، فالخَفْضُ مَعْناهُ الوَضْعُ. وجَناحُ الإنْسانِ يَدُهُ، قالَ اللَّيْثُ: يَدا الإنْسانِ جَناحاهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿واضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ [القَصَصِ: ٣٢] وخَفْضُ الجَناحِ كِنايَةٌ عَنِ اللِّينِ والرِّفْقِ والتَّواضُعِ، والمَقْصُودُ أنَّهُ تَعالى لَمّا نَهاهُ عَنِ الِالتِفاتِ إلى أُولَئِكَ الأغْنِياءِ مِنَ الكُفّارِ أمَرَهُ بِالتَّواضُعِ لِفُقَراءِ المُسْلِمِينَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ [المائِدَةِ: ٥٤] وقالَ في صِفَةِ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفَتْحِ: ٢٩] .
{"ayahs_start":87,"ayahs":["وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَـٰكَ سَبۡعࣰا مِّنَ ٱلۡمَثَانِی وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِیمَ","لَا تَمُدَّنَّ عَیۡنَیۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦۤ أَزۡوَ ٰجࣰا مِّنۡهُمۡ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَیۡهِمۡ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِینَ","وَقُلۡ إِنِّیۤ أَنَا ٱلنَّذِیرُ ٱلۡمُبِینُ"],"ayah":"وَقُلۡ إِنِّیۤ أَنَا ٱلنَّذِیرُ ٱلۡمُبِینُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق