الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجاءَ أهْلُ المَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ﴿قالَ إنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ﴾ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِ﴾ ﴿قالُوا أوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالَمِينَ﴾ ﴿قالَ هَؤُلاءِ بَناتِي إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ ﴿لَعَمْرُكَ إنَّهم لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ﴿فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ﴾ ﴿فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ ﴿وإنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ المُرادَ بِأهْلِ المَدِينَةِ قَوْمُ لُوطٍ، ولَيْسَ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى المَكانِ الَّذِي جاءُوهُ إلّا أنَّ القِصَّةَ تَدُلُّ (p-١٦١)عَلى أنَّهم جاءُوا دارَ لُوطٍ. قِيلَ: إنَّ المَلائِكَةَ لَمّا كانُوا في غايَةِ الحُسْنِ اشْتُهِرَ خَبَرُهم حَتّى وصَلَ إلى قَوْمِ لُوطٍ، وقِيلَ: امْرَأةُ لُوطٍ أخْبَرَتْهم بِذَلِكَ، وبِالجُمْلَةِ فالقَوْمُ قالُوا: نَزَلَ بِلُوطٍ ثَلاثَةٌ مِنَ المُرْدِ ما رَأيْنا قَطُّ أصْبَحَ وجْهًا، ولا أحْسَنَ شَكْلًا مِنهم، فَذَهَبُوا إلى دارِ لُوطٍ طَلَبًا مِنهم لِأُولَئِكَ المُرْدِ، والِاسْتِبْشارُ إظْهارُ السُّرُورِ، فَقالَ لَهم لُوطٌ لَمّا قَصَدُوا أضْيافَهُ كَلامَيْنِ: الكَلامُ الأوَّلُ: قالَ: ﴿إنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ﴾ يُقالُ: فَضَحَهُ يَفْضَحُهُ فَضْحًا وفَضِيحَةً إذا أظْهَرَ مِن أمْرِهِ ما يَلْزَمُهُ بِهِ العارُ، والمَعْنى أنَّ الضَّيْفَ يَجِبُ إكْرامُهُ، فَإذا قَصَدْتُمُوهم بِالسُّوءِ كانَ ذَلِكَ إهانَةً بِي، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِ﴾ فَأجابُوهُ بِقَوْلِهِمْ: ﴿أوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالَمِينَ﴾ والمَعْنى: ألَسْنا قَدْ نَهَيْناكَ أنْ تُكَلِّمَنا في أحَدٍ مِنَ النّاسِ إذا قَصَدْناهُ بِالفاحِشَةِ. والكَلامُ الثّانِي: مِمّا قالَهُ لُوطٌ قَوْلُهُ: ﴿هَؤُلاءِ بَناتِي إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ قِيلَ: المُرادُ بَناتُهُ مِن صُلْبِهِ، وقِيلَ: المُرادُ نِساءُ قَوْمِهِ؛ لِأنَّ رَسُولَ الأُمَّةِ يَكُونُ كالأبِ لَهم وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾ [الأحْزابِ: ٦] وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ وهو أبٌ لَهم، والكَلامُ في هَذِهِ المَباحِثِ قَدْ مَرَّ بِالِاسْتِقْصاءِ في سُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلامُ. أما قوله: ﴿لَعَمْرُكَ إنَّهم لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: العَمْرُ والعُمْرُ واحِدٌ وسُمِّيَ الرَّجُلُ عُمَرًا تَفاؤُلًا أنْ يَبْقى، ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ أحْمَرَ: ؎ذَهَبَ الشَّبابُ وأخْلَقَ العُمْرُ وعَمَّرَ الرَّجُلُ يُعَمِّرُ عَمْرًا وعُمْرًا، فَإذا أقْسَمُوا بِهِ قالُوا: لَعَمْرُكَ وعَمْرُكَ فَتَحُوا العَيْنَ لا غَيْرَ. قالَ الزَّجّاجُ: لِأنَّ الفَتْحَ أخَفُّ عَلَيْهِمْ وهم يُكْثِرُونَ القَسَمَ بِلَعَمْرِي ولَعَمْرُكَ فالتَزَمُوا الأخَفَّ. المسألة الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿لَعَمْرُكَ إنَّهم لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ أنَّ المَلائِكَةَ قالَتْ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿لَعَمْرُكَ إنَّهم لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أيْ: في غَوايَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، أيْ: يَتَحَيَّرُونَ فَكَيْفَ يَقْبَلُونَ قَوْلَكَ، ويَلْتَفِتُونَ إلى نَصِيحَتِكَ. والثّانِي: أنَّ الخِطابَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأنَّهُ تَعالى أقْسَمَ بِحَياتِهِ وما أقْسَمَ بِحَياةِ أحَدٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أكْرَمُ الخَلْقِ عَلى اللَّهِ تَعالى قالَ النَّحْوِيُّونَ: ارْتَفَعَ قَوْلُهُ: ﴿لَعَمْرُكَ﴾ بِالِابْتِداءِ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، والمَعْنى: لَعَمْرُكَ قَسَمِي وحُذِفَ الخَبَرُ، لِأنَّ في الكَلامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ وبابُ القَسَمِ يُحْذَفُ مِنهُ الفِعْلُ نَحْوَ: بِاللَّهِ لِأفْعَلَنَّ، والمَعْنى: أحْلِفُ بِاللَّهِ فَيُحْذَفُ لِعِلْمِ المُخاطَبِ بِأنَّكَ حالِفٌ. ثم قال تَعالى: ﴿فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ أيْ: صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ أهْلُ المَعانِي: لَيْسَ في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ قَوِيٍّ قِيلَ بِهِ، وإلّا فَلَيْسَ في الآيَةِ دَلالَةٌ إلّا عَلى أنَّهُ جاءَتْهم صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ مُهْلِكَةٌ. وقَوْلُهُ: ﴿مُشْرِقِينَ﴾ يُقالُ: شَرَّقَ الشّارِقُ يُشَرِّقُ شُرُوقًا لِكُلِّ ما طَلَعَ مِن جانِبِ الشَّرْقِ، ومِنهُ قَوْلُهم: ما ذَرَّ شارِقٌ أيْ: طَلَعَ طالِعٌ فَقَوْلُهُ: ﴿مُشْرِقِينَ﴾ أيْ: داخِلِينَ في الشُّرُوقِ، يُقالُ: أشْرَقَ الرَّجُلُ إذا دَخَلَ في الشُّرُوقِ، وهو بُزُوغُ الشَّمْسِ. واعْلَمْ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى عَذَّبَهم بِثَلاثَةِ أنْواعٍ مِنَ العَذابِ: أحَدُها: الصَّيْحَةُ الهائِلَةُ المُنْكَرَةُ. وثانِيها: أنَّهُ جَعَلَ عالِيَها سافِلَها. وثالِثُها: أنَّهُ أمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ، وكُلُّ هَذِهِ الأحْوالِ قَدْ مَرَّ (p-١٦٢)تَفْسِيرُها في سُورَةِ هُودٍ. ثم قال تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ يُقالُ: تَوَسَّمْتُ في فُلانٍ خَيْرًا أيْ: رَأيْتُ فِيهِ أثَرًا مِنهُ وتَفَرَّسْتُهُ فِيهِ، واخْتَلَفَتْ عِباراتُ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ المُتَوَسِّمِينَ قِيلَ: المُتَفَرِّسِينَ، وقِيلَ: النّاظِرِينَ، وقِيلَ: المُتَفَكِّرِينَ، وقِيلَ: المُعْتَبِرِينَ، وقِيلَ: المُتَبَصِّرِينَ. قالَ الزَّجّاجُ: حَقِيقَةُ المُتَوَسِّمِينَ في اللُّغَةِ المُتَثَبِّتُونَ في نَظَرِهِمْ حَتّى يَعْرِفُوا سِمَةَ الشَّيْءِ وصِفَتَهُ وعَلامَتَهُ، والمُتَوَسِّمُ النّاظِرُ في السِّمَةِ الدّالَّةِ تَقُولُ: تَوَسَّمْتُ في فُلانٍ كَذا أيْ: عَرَفْتُ وسْمَ ذَلِكَ وسَمْتَهُ فِيهِ. ثم قال: ﴿وإنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿وإنَّها﴾ عائِدٌ إلى مَدِينَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وقَدْ سَبَقَ ذِكْرُها في قَوْلِهِ: ﴿وجاءَ أهْلُ المَدِينَةِ﴾ [الحِجْرِ: ٦٧] وقَوْلُهُ: ﴿لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ أيْ: هَذِهِ القُرى وما ظَهَرَ فِيها مِن آثارِ قَهْرِ اللَّهِ وغَضَبِهِ لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابِتٍ لَمْ يَنْدَرِسْ ولَمْ يُخْفَ، والَّذِينَ يَمُرُّونَ مِنَ الحِجازِ إلى الشّامِ يُشاهِدُونَها. ثم قال: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ أيْ: كُلُّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وصَدَّقَ الأنْبِياءَ والرُّسُلَ عَرَفَ أنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ لِأجْلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى انْتَقَمَ لِأنْبِيائِهِ مِن أُولَئِكَ الجُهّالِ، أمّا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَإنَّهم يَحْمِلُونَهُ عَلى حَوادِثِ العالَمِ ووَقائِعِهِ، وعَلى حُصُولِ القِراناتِ الكَوْكَبِيَّةِ والِاتِّصالاتِ الفَلَكِيَّةِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب