الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجًا وزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ﴾ ﴿وحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ ﴿إلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أجابَ عَنْ شُبْهَةِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، وكانَ قَدْ ثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ مُفَرَّعٌ عَلى القَوْلِ بِالتَّوْحِيدِ أتْبَعَهُ تَعالى بِدَلائِلِ التَّوْحِيدِ. ولَمّا كانَتْ دَلائِلُ التَّوْحِيدِ مِنها سَماوِيَّةٌ، ومِنها أرْضِيَّةٌ، بَدَأ مِنها بِذِكْرِ الدَّلائِلِ السَّماوِيَّةِ، فَقالَ: ﴿ولَقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجًا وزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ﴾ قالَ اللَّيْثُ: البُرْجُ واحِدٌ مِن بُرُوجِ الفَلَكِ، والبُرُوجُ جَمْعٌ وهي اثْنا عَشَرَ بُرْجًا، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّماءِ بُرُوجًا﴾ (p-١٣٤)[الفُرْقانِ: ٦١] وقالَ: ﴿والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ﴾ [البُرُوجِ: ١] ووَجْهُ دَلالَتِها عَلى وُجُودِ الصّانِعِ المُخْتارِ، هو أنَّ طَبائِعَ هَذِهِ البُرُوجِ مُخْتَلِفَةٌ عَلى ما هو مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أرْبابِ الأحْكامِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فالفَلَكُ مُرَكَّبٌ مِن هَذِهِ الأجْزاءِ المُخْتَلِفَةِ في الماهِيَّةِ والأبْعاضِ المُخْتَلِفَةِ في الحَقِيقَةِ، وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَلا بُدَّ لَهُ مِن مُرَكِّبٍ يُرَكِّبُ تِلْكَ الأجْزاءَ والأبْعاضَ بِحَسَبِ الِاخْتِيارِ والحِكْمَةِ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَ السَّماءِ مُرَكَّبَةً مِنَ البُرُوجِ يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الفاعِلِ المُخْتارِ، وهو المَطْلُوبُ، وأما قوله: ﴿وزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ﴾ ﴿وحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ ﴿إلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ﴾ فَقَدِ اسْتَقْصَيْنا الكَلامَ فِيهِ في سُورَةِ المُلْكِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ﴾ [المُلْكِ: ٥] فَلا نُعِيدُ هَهُنا إلّا القَدْرَ الَّذِي لا بُدَّ مِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وزَيَّنّاها﴾ أيْ: بِالشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ ﴿لِلنّاظِرِينَ﴾ أيْ: لِلْمُعْتَبِرِينَ بِها والمُسْتَدِلِّينَ بِها عَلى تَوْحِيدِ صانِعِها وقَوْلُهُ: ﴿وحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ .
فَإنْ قِيلَ: ما مَعْنى وحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، والشَّيْطانُ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى هَدْمِ السَّماءِ، فَأيُّ حاجَةٍ إلى حِفْظِ السَّماءِ مِنهُ.
قُلْنا: لَمّا مَنَعَهُ مِنَ القُرْبِ مِنها، فَقَدْ حَفِظَ السَّماءَ مِن مُقارَبَةِ الشَّيْطانِ، فَحَفِظَ اللَّهُ السَّماءَ مِنهم كَما قَدْ يَحْفَظُ مَنازِلَنا عَنْ مُتَجَسِّسٍ يُخْشى مِنهُ الفَسادُ ثُمَّ نَقُولُ: مَعْنى الرَّجْمِ في اللُّغَةِ الرَّمْيُ بِالحِجارَةِ. ثُمَّ قِيلَ لِلْقَتِيلِ رُجِمَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالرَّجْمِ بِالحِجارَةِ، والرَّجْمُ أيْضًا السَّبُّ والشَّتْمُ؛ لِأنَّهُ رُمِيَ بِالقَوْلِ القَبِيحِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿لَأرْجُمَنَّكَ﴾ [مَرْيَمَ: ٤٦] أيْ: لَأسُبَّنَّكَ، والرَّجْمُ اسْمٌ لِكُلِّ ما يُرْمى بِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ﴾ [المُلْكِ: ٥] أيْ: مَرامِيَ لَهم، والرَّجْمُ القَوْلُ بِالظَّنِّ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿رَجْمًا بِالغَيْبِ﴾ [الكَهْفِ: ٢٢] لِأنَّهُ يَرْمِيهِ بِذَلِكَ الظَّنِّ، والرَّجْمُ أيْضًا اللَّعْنُ والطَّرْدُ، وقَوْلُهُ الشَّيْطانُ الرَّجِيمُ، قَدْ فَسَّرُوهُ بِكُلِّ هَذِهِ الوُجُوهِ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: كانَتِ الشَّياطِينُ لا تُحْجَبُ عَنِ السَّماواتِ، فَكانُوا يَدْخُلُونَها ويَسْمَعُونَ أخْبارَ الغُيُوبِ مِنَ المَلائِكَةِ فَيُلْقُونَها إلى الكَهَنَةِ، فَلَمّا وُلِدَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ مُنِعُوا مِن ثَلاثَةِ سَماواتٍ، فَلَمّا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُنِعُوا مِنَ السَّماواتِ كُلِّها، فَكُلُّ واحِدٍ مِنهم إذا أرادَ اسْتِراقَ السَّمْعِ رُمِيَ بِشِهابٍ. وقَوْلُهُ: ﴿إلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ لا يُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظَةِ ﴿إلّا﴾ هَهُنا عَلى الِاسْتِثْناءِ، بِدَلِيلِ أنَّ إقْدامَهم عَلى اسْتِراقِ السَّمْعِ لا يُخْرِجُ السَّماءَ مِن أنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً مِنهم إلّا أنَّهم مَمْنُوعُونَ مِن دُخُولِها، وإنَّما يُحاوِلُونَ القُرْبَ مِنها، فَلا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً عَلى التَّحْقِيقِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: لَكِنَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. قالَ الزَّجّاجُ: مَوْضِعُ ﴿مَنِ﴾ نَصْبٌ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ. قالَ: وجائِزٌ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ، والتَّقْدِيرُ: إلّا مِمَّنْ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في قَوْلِهِ: ﴿إلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ يُرِيدُ الخَطْفَةَ اليَسِيرَةَ، وذَلِكَ لِأنَّ المارِدَ مِنَ الشَّياطِينِ يَعْلُو فَيُرْمى بِالشِّهابِ فَيَحْرِقُهُ ولا يَقْتُلُهُ، ومِنهم مَن يُحِيلُهُ فَيَصِيرُ غُولًا يُضِلُّ النّاسَ في البَرارِي. وقَوْلُهُ: ﴿فَأتْبَعَهُ﴾ ذَكَرْنا مَعْناهُ في سُورَةِ الأعْرافِ في قِصَّةِ بُلْعُمِ بْنِ باعُوراءَ في قَوْلِهِ: ﴿فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ﴾ [الأعْرافِ: ١٧٥] مَعْناهُ لَحِقَهُ، والشِّهابُ شُعْلَةُ نارٍ ساطِعٌ، ثُمَّ يُسَمّى الكَوْكَبُ شِهابًا، والسِّنانُ شِهابًا، لِأجْلِ أنَّهُما لِما فِيهِما مِنَ البَرِيقِ يُشْبِهانِ النّارَ.
واعْلَمْ أنَّ في هَذا المَوْضِعِ أبْحاثًا دَقِيقَةً ذَكَرْناها في سُورَةِ المُلْكِ وفي سُورَةِ الجِنِّ، ونَذْكُرُ مِنها هَهُنا إشْكالًا واحِدًا، وهو أنَّ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إذا جَوَّزْتُمْ في الجُمْلَةِ أنْ يَصْعَدَ الشَّيْطانُ إلى السَّماواتِ، ويَخْتَلِطَ بِالمَلائِكَةِ، ويَسْمَعَ أخْبارَ الغُيُوبِ عَنْهم، ثُمَّ إنَّها تَنْزِلُ وتُلْقِي تِلْكَ الغُيُوبَ عَلى الكَهَنَةِ فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ وجَبَ (p-١٣٥)أنْ يَخْرُجَ الإخْبارُ عَنِ المُغَيَّباتِ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا؛ لِأنَّ كُلَّ غَيْبٍ يُخْبِرُ عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ قامَ فِيهِ هَذا الِاحْتِمالُ، وحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا دَلِيلًا عَلى الصِّدْقِ، لا يُقالُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أخْبَرَ أنَّهم عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأنّا نَقُولُ هَذا العَجْزُ لا يُمْكِنُ إثْباتُهُ إلّا بَعْدَ القَطْعِ بِكَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا وكَوْنِ القُرْآنِ حَقًّا، والقَطْعُ بِهَذا لا يُمْكِنُ إلّا بِواسِطَةِ المُعْجِزِ، وكَوْنُ الإخْبارِ عَنِ الغَيْبِ مُعْجِزًا لا يَثْبُتُ إلّا بَعْدَ إبْطالِ هَذا الِاحْتِمالِ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الدَّوْرُ وهو باطِلٌ مُحالٌ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنّا نُثْبِتُ كَوْنَ مُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا بِسائِرِ المُعْجِزاتِ، ثُمَّ بَعْدَ العِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ نَقْطَعُ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أعْجَزَ الشَّياطِينَ عَنْ تَلَقُّفِ الغَيْبِ بِهَذا الطَّرِيقِ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الإخْبارُ عَنِ الغُيُوبِ مُعْجِزًا، وبِهَذا الطَّرِيقِ يَنْدَفِعُ الدَّوْرُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":16,"ayahs":["وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ بُرُوجࣰا وَزَیَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِینَ","وَحَفِظۡنَـٰهَا مِن كُلِّ شَیۡطَـٰنࣲ رَّجِیمٍ","إِلَّا مَنِ ٱسۡتَرَقَ ٱلسَّمۡعَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابࣱ مُّبِینࣱ"],"ayah":"وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ بُرُوجࣰا وَزَیَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق