الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ مُوسى إنْ تَكْفُرُوا أنْتُمْ ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا فَإنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ ﴿ألَمْ يَأْتِكم نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ وقالُوا إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وإنّا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا بَيَّنَ أنَّ الِاشْتِغالَ بِالشُّكْرِ يُوجِبُ تَزايُدَ الخَيْراتِ في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ، والِاشْتِغالَ بِكُفْرانِ النِّعَمِ يُوجِبُ العَذابَ الشَّدِيدَ، وحُصُولَ الآفاتِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، بَيَّنَ بَعْدَهُ أنَّ مَنافِعَ الشُّكْرِ ومَضارَّ الكُفْرانِ لا تَعُودُ إلّا إلى صاحِبِ الشُّكْرِ وصاحِبِ الكُفْرانِ، أمّا المَعْبُودُ والمَشْكُورُ فَإنَّهُ مُتَعالٍ عَنْ أنْ يَنْتَفِعَ بِالشُّكْرِ أوْ يَسْتَضِرَّ بِالكُفْرانِ، فَلا جَرَمَ قالَ تَعالى: ﴿وقالَ مُوسى إنْ تَكْفُرُوا أنْتُمْ ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا فَإنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ والغَرَضُ مِنهُ بَيانُ أنَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَ بِهَذِهِ الطّاعاتِ لِمَنافِعَ عائِدَةٍ إلى العابِدِ لا لِمَنافِعَ عائِدَةٍ إلى المَعْبُودِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ﴾ وتَفْسِيرُهُ أنَّهُ واجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ وواجِبُ الوُجُودِ بِحَسَبِ جَمِيعِ صِفاتِهِ واعْتِباراتِهِ، فَإنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ واجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ، لافْتَقَرَ رُجْحانُ وُجُودِهِ عَلى عَدَمِهِ إلى مُرَجِّحٍ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيًّا، وقَدْ فَرَضْناهُ غَنِيًّا، هَذا خُلْفٌ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا يُوجِبُ كَوْنَهُ واجِبَ الوُجُودِ في ذاتِهِ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ واجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ، كانَ أيْضًا واجِبَ الوُجُودِ بِحَسَبِ جَمِيعِ كَمالاتِهِ، إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ ذاتُهُ كافِيَةً في حُصُولِ ذَلِكَ الكَمالِ، لافْتَقَرَ في حُصُولِ ذَلِكَ الكَمالِ إلى سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ، فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ غَنِيًّا، وقَدْ فَرَضْناهُ غَنِيًّا، هَذا خُلْفٌ، فَثَبَتَ أنَّ ذاتَهُ كافِيَةٌ في حُصُولِ جَمِيعِ كَمالاتِهِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ حَمِيدًا لِذاتِهِ؛ لِأنَّهُ لا مَعْنى لِلْحَمِيدِ إلّا الَّذِي اسْتَحَقَّ الحَمْدَ، فَثَبَتَ بِهَذا التَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْناهُ أنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا حَمِيدًا يَقْتَضِي أنْ لا يَزْدادَ بِشُكْرِ الشّاكِرِينَ، ولا يَنْتَقِصَ بِكُفْرانِ الكافِرِينَ، فَلِهَذا المَعْنى قالَ: ﴿إنْ تَكْفُرُوا أنْتُمْ ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا فَإنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ وهَذِهِ المَعانِي مِن لَطائِفِ الأسْرارِ.
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَنا: ﴿إنْ تَكْفُرُوا أنْتُمْ ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ سَواءٌ حُمِلَ عَلى الكُفْرِ الَّذِي يُقابِلُ الإيمانَ أوْ عَلى الكُفْرانِ الَّذِي يُقابِلُ الشُّكْرَ، فالمَعْنى لا يَتَفاوَتُ البَتَّةَ، فَإنَّهُ تَعالى غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ في كَمالاتِهِ وفي جَمِيعِ نُعُوتِ كِبْرِيائِهِ وجَلالِهِ.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ألَمْ يَأْتِكم نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ﴾ وذَكَرَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطابًا مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِقَوْمِهِ والمَقْصُودُ مِنهُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُخَوِّفُهم بِمِثْلِ هَلاكِ مَن تَقَدَّمَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُخاطَبَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى لِسانِ مُوسى لِقَوْمِهِ يُذَكِّرُهم أمْرَ القُرُونِ الأُولى، والمَقْصُودُ إنَّما هو حُصُولُ العِبْرَةِ بِأحْوالِ المُتَقَدِّمِينَ، وهَذا المَقْصُودُ حاصِلٌ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ إلّا أنَّ الأكْثَرِينَ ذَهَبُوا إلى أنَّهُ ابْتِداءُ مُخاطَبَةٍ لِقَوْمِ الرَّسُولِ ﷺ . (p-٧٠)واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أقْوامًا ثَلاثَةً، وهم: قَوْمُ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ.
ثم قال تَعالى: ﴿والَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ﴾ وذَكَرَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ فِيهِ احْتِمالَيْنِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ﴾ جُمْلَةً مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ وقَعَتِ اعْتِراضًا.
والثّانِي: أنْ يُقالَ: قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ وقَوْلُهُ: ﴿لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ لا يَعْلَمُ كُنْهَ مَقادِيرِهِمْ إلّا اللَّهُ، لِأنَّ المَذْكُورَ في القُرْآنِ جُمْلَةٌ فَأمّا ذِكْرُ العَدَدِ والعُمُرِ والكَيْفِيَّةِ والكَمِّيَّةِ فَغَيْرُ حاصِلٍ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ ذِكْرُ أقْوامٍ ما بَلَغَنا أخْبارُهم أصْلًا كَذَّبُوا رُسُلًا لَمْ نَعْرِفْهم أصْلًا، ولا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ الثّانِي طَعَنُوا في قَوْلِ مَن يَصِلُ الأنْسابَ إلى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذا قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ يَقُولُ: كَذَبَ النَّسّابُونَ يَعْنِي أنَّهم يَدَّعُونَ عِلْمَ الأنْسابِ وقَدْ نَفى اللَّهُ عِلْمَها عَنِ العِبادِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: بَيْنَ عَدْنانَ وبَيْنَ إسْماعِيلَ ثَلاثُونَ أبًا لا يُعْرَفُونَ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨] وقَوْلُهُ: ﴿مِنهم مَن قَصَصْنا عَلَيْكَ ومِنهم مَن لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: ٧٨] وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أنَّهُ كانَ في انْتِسابِهِ لا يُجاوِزُ مَعَدَّ بْنَ عَدْنانَ بْنِ أُدَدٍ. وقالَ: ”«تَعَلَّمُوا مِن أنْسابِكم ما تَصِلُونَ بِهِ أرْحامَكم وتَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ ما تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلى الطَّرِيقِ» “ قالَ القاضِي: وعَلى هَذا الوجه لا يُمْكِنُ القَطْعُ عَلى مِقْدارِ السِّنِينَ مِن لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى هَذا الوَقْتِ؛ لِأنَّهُ إنْ أمْكَنَ ذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ أيْضًا تَحْصِيلُ العِلْمِ بِالأنْسابِ المَوْصُولَةِ.
فَإنْ قِيلَ: أيُّ القَوْلَيْنِ أوْلى ؟
قُلْنا: القَوْلُ الثّانِي عِنْدِي أقْرَبُ، لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ﴾ نَفى العِلْمَ بِهِمْ، وذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ العِلْمِ بِذَواتِهِمْ إذْ لَوْ كانَتْ ذَواتُهم مَعْلُومَةً، وكانَ المَجْهُولُ هو مُدَدَ أعْمارِهِمْ وكَيْفِيَّةَ صِفاتِهِمْ لَما صَحَّ نَفْيُ العِلْمِ بِذَواتِهِمْ، ولَمّا كانَ ظاهِرُ الآيَةِ دَلِيلًا عَلى نَفْيِ العِلْمِ بِذَواتِهِمْ لا جَرَمَ كانَ الأقْرَبُ هو القَوْلَ الثّانِيَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ هَؤُلاءِ الأقْوامِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم أنَّهُ لَمّا جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ والمُعْجِزاتِ أتَوْا بِأُمُورٍ:
أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ﴾ وفي مَعْناهُ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ بِاليَدِ والفَمِ الخارِجَتانِ المَعْلُومَتانِ.
والثّانِي: أنَّ المُرادَ بِهِما شَيْءٌ غَيْرُ هاتَيْنِ الجارِحَتَيْنِ وإنَّما ذَكَرَهُما مَجازًا وتَوَسُّعًا. أمّا مَن قالَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ فَفِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
الوجه الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في ﴿أيْدِيَهُمْ﴾ و﴿أفْواهِهِمْ﴾ عائِدًا إلى الكُفّارِ، وعَلى هَذا فَفِيهِ احْتِمالاتٌ:
الأوَّلُ: أنَّ الكُفّارَ رَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ فَعَضُّوها مِنَ الغَيْظِ والضَّجَرِ مِن شِدَّةِ نَفْرَتِهِمْ عَنْ رُؤْيَةِ الرُّسُلِ واسْتِماعِ كَلامِهِمْ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ﴾ [آل عمران: ١١٩] وهَذا القَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُما اللَّهُ تَعالى، وهو اخْتِيارُ القاضِي.
والثّانِي: أنَّهم لَمّا سَمِعُوا كَلامَ الأنْبِياءِ عَجِبُوا مِنهُ وضَحِكُوا عَلى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ كَما يَفْعَلُ ذَلِكَ مَن غَلَبَهُ الضَّحِكُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلى فِيهِ.
والثّالِثُ: أنَّهم وضَعُوا أيْدِيَهم عَلى أفْواهِهِمْ مُشِيرِينَ بِذَلِكَ إلى الأنْبِياءِ أنْ كُفُّوا عَنْ هَذا الكَلامِ واسْكُتُوا عَنْ ذِكْرِ هَذا الحَدِيثِ، وهَذا مَرْوِيٌّ عَنِ الكَلْبِيِّ.
والرّابِعُ: أنَّهم أشارُوا بِأيْدِيهِمْ إلى ألْسِنَتِهِمْ وإلى ما تَكَلَّمُوا بِهِ مِن قَوْلِهِمْ: إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ؛ أيْ هَذا هو الجَوابُ عِنْدَنا عَمّا ذَكَرْتُمُوهُ، ولَيْسَ (p-٧١)عِنْدَنا غَيْرُهُ إقْناطًا لَهم مِنَ التَّصْدِيقِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ وقالُوا إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ .
الوجه الثّانِي: أنْ يَكُونَ الضَّمِيرانِ راجِعَيْنِ إلى الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الكُفّارَ أخَذُوا أيْدِيَ الرُّسُلِ ووَضَعُوها عَلى أفْواهِهِمْ لِيُسْكِتُوهم ويَقْطَعُوا كَلامَهم.
الثّانِي: أنَّ الرُّسُلَ لَمّا أيِسُوا مِنهم سَكَتُوا ووَضَعُوا أيْدِيَ أنْفُسِهِمْ عَلى أفْواهِ أنْفُسِهِمْ فَإنَّ مَن ذَكَرَ كَلامًا عِنْدَ قَوْمٍ وأنْكَرُوهُ وخافَهم فَذَلِكَ المُتَكَلِّمُ رُبَّما وضَعَ يَدَ نَفْسِهِ عَلى فَمِ نَفْسِهِ وغَرَضُهُ أنْ يُعَرِّفَهم أنَّهُ لا يَعُودُ إلى ذَلِكَ الكَلامِ البَتَّةَ.
الوجه الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في أيْدِيهِمْ يَرْجِعُ إلى الكُفّارِ وفي الأفْواهِ إلى الرُّسُلِ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الكُفّارَ لَمّا سَمِعُوا وعْظَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ونَصائِحَهم وكَلامَهم أشارُوا بِأيْدِيهِمْ إلى أفْواهِ الرُّسُلِ تَكْذِيبًا لَهم ورَدًّا عَلَيْهِمْ.
والثّانِي: أنَّ الكُفّارَ وضَعُوا أيْدِيَهم عَلى أفْواهِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَنعًا لَهم مِنَ الكَلامِ، ومَن بالَغَ في مَنعِ غَيْرِهِ مِنَ الكَلامِ فَقَدْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ. أمّا عَلى القَوْلِ الثّانِي: وهو أنَّ ذِكْرَ اليَدِ والفَمِ تَوَسُّعٌ ومَجازٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
الوجه الأوَّلُ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: المُرادُ بِاليَدِ ما نَطَقَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الحُجَجِ وذَلِكَ لِأنَّ إسْماعَ الحُجَّةِ إنْعامٌ عَظِيمٌ والإنْعامُ يُسَمّى يَدًا. يُقالُ: لِفُلانٍ عِنْدِي يَدٌ إذا أوْلاهُ مَعْرُوفًا، وقَدْ يُذْكَرُ اليَدُ والمُرادُ مِنها صَفْقَةُ البَيْعِ والعَقْدِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠] فالبَيِّناتُ الَّتِي كانَ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ يَذْكُرُونَها ويُقَرِّرُونَها نِعَمٌ وأيادٍ، وأيْضًا العُهُودُ الَّتِي كانُوا يَأْتُونَ بِها مَعَ القَوْمِ أيادٍ، وجَمْعُ اليَدِ في العَدَدِ القَلِيلِ هو الأيْدِي وفي العَدَدِ الكَثِيرِ هو الأيادِي، فَثَبَتَ أنَّ بَيِّناتِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وعُهُودَهم صَحَّ تَسْمِيَتُها بِالأيْدِي، وإذا كانَتِ النَّصائِحُ والعُهُودُ إنَّما تَظْهَرُ مِنَ الفَمِ فَإذا لَمْ تُقْبَلْ صارَتْ مَرْدُودَةً إلى حَيْثُ جاءَتْ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِألْسِنَتِكم وتَقُولُونَ بِأفْواهِكم ما لَيْسَ لَكم بِهِ عِلْمٌ﴾ [النور: ١٥] فَلَمّا كانَ القَبُولُ تَلَقِّيًا بِالأفْواهِ عَنِ الأفْواهِ كانَ الدَّفْعُ رَدًّا في الأفْواهِ، فَهَذا تَمامُ كَلامِ أبِي مُسْلِمٍ في تَقْرِيرِ هَذا الوجه.
الوجه الثّانِي: نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ﴾ أنَّهم سَكَتُوا عَنِ الجَوابِ، يُقالُ لِلرَّجُلِ إذا أمْسَكَ عَنِ الجَوابِ: رَدَّ يَدَهُ في فِيهِ. وتَقُولُ العَرَبُ: كَلَّمْتُ فُلانًا في حاجَةٍ فَرَدَّ يَدَهُ في فِيهِ إذا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْ، ثُمَّ إنَّهُ زَيَّفَ هَذا الوجه وقالَ: إنَّهم أجابُوا بِالتَّكْذِيبِ لِأنَّهم قالُوا: ﴿إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ .
الوجه الثّالِثُ: المُرادُ مِنَ الأيْدِي نِعَمُ اللَّهِ تَعالى عَلى ظاهِرِهِمْ وباطِنِهِمْ ولَمّا كَذَّبُوا الأنْبِياءَ فَقَدْ عَرَّضُوا تِلْكَ النِّعَمَ لِلْإزالَةِ والإبْطالِ، فَقَوْلُهُ: ﴿فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ﴾ أيْ رَدُّوا نِعَمَ اللَّهِ تَعالى عَنْ أنْفُسِهِمْ بِالكَلِماتِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْ أفْواهِهِمْ ولا يَبْعُدُ حَمْلُ ”في“ عَلى مَعْنى الباءِ؛ لِأنَّ حُرُوفَ الجَرِّ لا يَمْتَنِعُ إقامَةُ بَعْضِها مَقامَ بَعْضٍ.
النوع الثّانِي: مِنَ الأشْياءِ الَّتِي حَكاها اللَّهُ تَعالى عَنِ الكُفّارِ قَوْلُهم: ﴿إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ والمَعْنى: إنّا كَفَرْنا بِما زَعَمْتُمْ أنَّ اللَّهَ أرْسَلَكم فِيهِ؛ لِأنَّهم ما أقَرُّوا بِأنَّهم أُرْسِلُوا.
واعْلَمْ أنَّ المَرْتَبَةَ الأُولى هو أنَّهم سَكَتُوا عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وحاوَلُوا إسْكاتَ الأنْبِياءِ (p-٧٢)عَنْ تِلْكَ الدَّعْوى، وهَذِهِ المَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ أنَّهم صَرَّحُوا بِكَوْنِهِمْ كافِرِينَ بِتِلْكَ البَعْثَةِ.
والنوع الثّالِثُ: قَوْلُهم: ﴿وإنّا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وقُرِئَ ”تَدْعُونّا“ بِإدْغامِ النُّونِ. ﴿مُرِيبٍ﴾ مُوقِعٍ في الرِّيبَةِ أوْ ذِي رِيبَةٍ مِن أرابَهُ، والرِّيبَةُ قَلَقُ النَّفْسِ وأنْ لا تَطْمَئِنَّ إلى الأمْرِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا ذَكَرُوا في المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ أنَّهم كافِرُونَ بِرِسالَتِهِمْ كَيْفَ ذَكَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنَهم شاكِّينَ مُرْتابِينَ في صِحَّةِ قَوْلِهِمْ ؟
قُلْنا: كَأنَّهم قالُوا: إمّا أنْ نَكُونَ كافِرِينَ بِرِسالَتِكم أوْ إنْ لَمْ نَدَعْ هَذا الجَزْمَ واليَقِينَ فَلا أقَلَّ مِن أنْ نَكُونَ شاكِّينَ مُرْتابِينَ في صِحَّةِ نُبُوَّتِكم، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَلا سَبِيلَ إلى الِاعْتِرافِ بِنُبُوَّتِكم. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["وَقَالَ مُوسَىٰۤ إِن تَكۡفُرُوۤا۟ أَنتُمۡ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ","أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ نَبَؤُا۟ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحࣲ وَعَادࣲ وَثَمُودَ وَٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا یَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرَدُّوۤا۟ أَیۡدِیَهُمۡ فِیۤ أَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَقَالُوۤا۟ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَاۤ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِی شَكࣲّ مِّمَّا تَدۡعُونَنَاۤ إِلَیۡهِ مُرِیبࣲ"],"ayah":"أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ نَبَؤُا۟ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحࣲ وَعَادࣲ وَثَمُودَ وَٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا یَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرَدُّوۤا۟ أَیۡدِیَهُمۡ فِیۤ أَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَقَالُوۤا۟ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَاۤ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِی شَكࣲّ مِّمَّا تَدۡعُونَنَاۤ إِلَیۡهِ مُرِیبࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق