الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ وذَكِّرْهم بِأيّامِ اللَّهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ أنْجاكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ ويُذَبِّحُونَ أبْناءَكم ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكم وفي ذَلِكم بَلاءٌ مِن رَبِّكم عَظِيمٌ﴾ . (p-٦٦)وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ إنَّما أرْسَلَ مُحَمَّدًا ﷺ إلى النّاسِ لِيُخْرِجَهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وذَكَرَ كَمالَ إنْعامِهِ عَلَيْهِ وعَلى قَوْمِهِ في ذَلِكَ الإرْسالِ وفي تِلْكَ البَعْثَةِ، أتْبَعَ ذَلِكَ بِشَرْحِ بِعْثَةِ سائِرِ الأنْبِياءِ إلى أقْوامِهِمْ وكَيْفِيَّةِ مُعامَلَةِ أقْوامِهِمْ مَعَهم؛ تَصْبِيرًا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى أذى قَوْمِهِ وإرْشادًا لَهُ إلى كَيْفِيَّةِ مُكالَمَتِهِمْ ومُعامَلَتِهِمْ، فَذَكَرَ تَعالى عَلى العادَةِ المَأْلُوفَةِ قَصَصَ بَعْضِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَبَدَأ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالَ: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا﴾ قالَ الأصَمُّ: آياتُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هي: العَصا واليَدُ والجَرادُ والقُمَّلُ والضَّفادِعُ والدَّمُ وفَلْقُ البَحْرِ وانْفِجارُ العُيُونِ مِنَ الحَجَرِ وإظْلالُ الجَبَلِ وإنْزالُ المَنِّ والسَّلْوى. وقالَ الجُبّائِيُّ: أرْسَلَ اللَّهُ تَعالى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلى قَوْمِهِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ بِآياتِهِ وهي دَلالاتُهُ وكُتُبُهُ المُنَزَّلَةُ عَلَيْهِ، وأمَرَهُ أنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الدِّينَ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: إنَّهُ تَعالى قالَ في صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ وقالَ في حَقِّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ والمَقْصُودُ: بَيانُ أنَّ المَقْصُودَ مِنَ البِعْثَةِ واحِدٌ في حَقِّ جَمِيعِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وهو أنْ يَسْعَوْا في إخْراجِ الخَلْقِ مِن ظُلُماتِ الضَّلالاتِ إلى أنْوارِ الهِداياتِ. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: قَوْلُهُ: ﴿أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ﴾ أيْ بِأنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ. ثم قال: ﴿أنْ﴾ هَهُنا تَصْلُحُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً بِمَعْنى أيْ، ويَكُونَ المَعْنى: ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أيْ أخْرِجْ قَوْمَكَ، كَأنَّ المَعْنى قُلْنا لَهُ: أخْرِجْ قَوْمَكَ. ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿وانْطَلَقَ المَلَأُ مِنهم أنِ امْشُوا﴾ [ص: ٦] أيِ امْشُوا، والتَّأْوِيلُ: قِيلَ لَهُمُ امْشُوا، وتَصْلُحُ أيْضًا أنْ تَكُونَ المُخَفَّفَةَ الَّتِي هي لِلْخَبَرِ، والمَعْنى: أرْسَلْناهُ بِأنْ يُخْرِجَ قَوْمَهُ إلّا أنَّ الجارَّ حُذِفَ ووُصِلَتْ [ أنْ ] بِلَفْظِ الأمْرِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُكَ: كَتَبْتُ إلَيْهِ أنْ قُمْ وأمَرْتُهُ أنْ قُمْ، ثُمَّ إنَّ الزَّجّاجَ حَكى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ عَنْ سِيبَوَيْهِ. أما قوله: ﴿وذَكِّرْهم بِأيّامِ اللَّهِ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أمَرَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذا المَقامِ بِشَيْئَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يُخْرِجَهم مِن ظُلُماتِ الكُفْرِ. والثّانِي: أنْ يُذَكِّرَهم بِأيّامِ اللَّهِ، وفِيهِ مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: قالَ الواحِدِيُّ: أيّامٌ جَمْعُ يَوْمٍ، واليَوْمُ هو مِقْدارُ المُدَّةِ مِن طُلُوعِ الشَّمْسِ إلى غُرُوبِها، وكانَتِ الأيّامُ في الأصْلِ ”أيْوامٌ“ فاجْتَمَعَتِ الياءُ والواوُ وسُبِقَتْ إحْداهُما بِالسُّكُونِ، فَأُدْغِمَتْ إحْداهُما في الأُخْرى وغَلَبَتِ الياءُ. المسألة الثّانِيَةُ: أنَّهُ يُعَبَّرُ بِالأيّامِ عَنِ الوَقائِعِ العَظِيمَةِ الَّتِي وقَعَتْ فِيها. يُقالُ: فُلانٌ عالِمٌ بِأيّامِ العَرَبِ ويُرِيدُ وقائِعَها، وفي المَثَلِ: مَن يُرَ يَوْمًا يُرَ لَهُ؛ مَعْناهُ مَن رُئِيَ في يَوْمٍ مَسْرُورًا بِمَصْرَعِ غَيْرِهِ يُرَ في يَوْمٍ آخَرَ حَزِينًا بِمَصْرَعِ نَفْسِهِ، وقالَ تَعالى: ﴿وتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤٠] . إذا عَرَفْتَ هَذا فالمَعْنى: عِظْهم بِالتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ والوَعْدِ والوَعِيدِ، فالتَّرْغِيبُ والوَعْدُ أنْ يُذَكِّرَهم ما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وعَلى مَن قَبْلَهم مِمَّنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ في سائِرِ ما سَلَفَ مِنَ الأيّامِ، والتَّرْهِيبُ والوَعِيدُ: أنْ يُذَكِّرَهم بَأْسَ اللَّهِ وعَذابَهُ وانْتِقامَهُ مِمَّنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ الأُمَمِ فِيما سَلَفَ مِنَ الأيّامِ، مِثْلُ ما نَزَلَ بِعادٍ وثَمُودَ وغَيْرِهِمْ مِنَ العَذابِ، لِيَرْغَبُوا في الوَعْدِ فَيُصَدِّقُوا ويَحْذَرُوا مِنَ الوَعِيدِ فَيَتْرُكُوا التَّكْذِيبَ. واعْلَمْ أنَّ أيّامَ اللَّهِ في حَقِّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنها ما كانَ أيّامَ المِحْنَةِ والبَلاءِ وهي الأيّامُ الَّتِي كانَتْ بَنُو (p-٦٧)إسْرائِيلَ فِيها تَحْتَ قَهْرِ فِرْعَوْنَ، ومِنها ما كانَ أيّامَ الرّاحَةِ والنَّعْماءِ مِثْلَ إنْزالِ المَنِّ والسَّلْوى وانْفِلاقِ البَحْرِ وتَظْلِيلِ الغَمامِ. ثم قال تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ والمَعْنى أنَّ في ذَلِكَ التَّذْكِيرِ والتَّنْبِيهِ دَلائِلَ لِمَن كانَ صَبّارًا شَكُورًا؛ لِأنَّ الحالَ إمّا أنْ يَكُونَ حالَ مِحْنَةٍ وبَلِيَّةٍ أوْ حالَ مِنحَةٍ وعَطِيَّةٍ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ كانَ المُؤْمِنُ صَبّارًا، وإنْ كانَ الثّانِيَ كانَ شَكُورًا. وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ المُؤْمِنَ يَجِبُ أنْ لا يَخْلُوَ زَمانُهُ عَنْ أحَدِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، فَإنْ جَرى الوَقْتُ عَلى ما يُلائِمُ طَبْعَهُ ويُوافِقُ إرادَتَهُ كانَ مَشْغُولًا بِالشُّكْرِ، وإنْ جَرى بِما لا يُلائِمُ طَبْعَهُ كانَ مَشْغُولًا بِالصَّبْرِ. فَإنْ قِيلَ: إنَّ تِلْكَ التَّذْكِيراتِ آياتٌ لِلْكُلِّ، فَلِماذا خَصَّ الصَّبّارَ الشَّكُورَ بِها ؟ قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهم لَمّا كانُوا هُمُ المُنْتَفِعُونَ بِتِلْكَ الآياتِ صارَتْ كَأنَّها لَيْسَتْ آياتٍ إلّا لَهم كَما في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها﴾ [النازعات: ٤٥] . والثّانِي: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: الِانْتِفاعُ بِهَذا النوع مِنَ التَّذْكِيرِ لا يُمْكِنُ حُصُولُهُ إلّا لِمَن كانَ صابِرًا أوْ شاكِرًا. أمّا الَّذِي لا يَكُونُ كَذَلِكَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الآياتِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ أمَرَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ يُذَكِّرَهم بِأيّامِ اللَّهِ تَعالى، حَكى عَنْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ ذَكَّرَهم بِها فَقالَ: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ أنْجاكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿إذْ أنْجاكُمْ﴾ ظَرْفٌ لِلنِّعْمَةِ بِمَعْنى الإنْعامِ، أيِ اذْكُرُوا إنْعامَ اللَّهِ عَلَيْكم في ذَلِكَ الوَقْتِ. * * * بَقِيَ في الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ذُكِرَ في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ [البقرة: ٤٩] وفي سُورَةِ الأعْرافِ: ﴿يُقَتِّلُونَ﴾ [الأعراف: ١٤١] وهَهُنا ﴿ويُذَبِّحُونَ﴾ مَعَ الواوِ فَما الفَرْقُ ؟ والجَوابُ: قالَ تَعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ بِغَيْرِ واوٍ لِأنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿سُوءَ العَذابِ﴾ وفي التَّفْسِيرِ لا يَحْسُنُ ذِكْرُ الواوِ، تَقُولُ: أتانِي القَوْمُ زَيْدٌ وعَمْرٌو. لِأنَّكَ أرَدْتَ أنْ تُفَسِّرَ القَوْمَ بِهِما، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا﴾ ﴿يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ﴾ [الفرقان: ٦٨-٦٩] فالأثامُ لَمّا صارَ مُفَسَّرًا بِمُضاعَفَةِ العَذابِ لا جَرَمَ حُذِفَ عَنْهُ الواوُ. أمّا في هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدْ أدْخَلَ الواوَ فِيهِ؛ لِأنَّ المَعْنى أنَّهم يُعَذِّبُونَهم بِغَيْرِ التَّذْبِيحِ وبِالتَّذْبِيحِ أيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿ويُذَبِّحُونَ﴾ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ العَذابِ لا أنَّهُ تَفْسِيرٌ لِما قَبْلَهُ. السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ كانَ فِعْلُ آلِ فِرْعَوْنَ بَلاءً مِن رَبِّهِمْ ؟ والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ تَمْكِينَ اللَّهِ إيّاهم حَتّى فَعَلُوا ما فَعَلُوا كانَ بَلاءً مِنَ اللَّهِ. والثّانِي: وهو أنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى الإنْجاءِ، وهو بَلاءٌ عَظِيمٌ، والبَلاءُ هو الِابْتِلاءُ، وذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالنِّعْمَةِ تارَةً، وبِالمِحْنَةِ أُخْرى، قالَ تَعالى: ﴿ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] وهَذا الوجه أوْلى لِأنَّهُ يُوافِقُ صَدْرَ الآيَةِ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ . السُّؤالُ الثّالِثُ: هَبْ أنَّ تَذْبِيحَ الأبْناءِ كانَ بَلاءً، أمّا اسْتِحْياءُ النِّساءِ كَيْفَ يَكُونُ بَلاءً ؟ الجَوابُ: كانُوا يَسْتَخْدِمُونَهُنَّ بِالِاسْتِحْياءِ في الخَلاصِ مِنهُ نِعْمَةً، وأيْضًا إبْقاؤُهُنَّ مُنْفَرِداتٍ عَنِ الرِّجالِ فِيهِ أعْظَمُ المَضارِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب