الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أخِّرْنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِن قَبْلُ ما لَكم مِن زَوالٍ﴾ ﴿وسَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم وتَبَيَّنَ لَكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ﴾ فِيهِ أبْحاثٌ: البحث الأوَّلُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ﴾ مَفْعُولٌ ثانٍ لِقَوْلِهِ: ﴿وأنْذِرِ﴾ وهو يَوْمُ القِيامَةِ. البحث الثّانِي: الألِفُ واللّامُ في لَفْظِ ﴿العَذابُ﴾ لِلْمَعْهُودِ السّابِقِ، يَعْنِي: وأنْذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ (p-١١٣)العَذابُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وهو شُخُوصُ أبْصارِهِمْ، وكَوْنُهم مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ. البحث الثّالِثُ: الإنْذارُ هو التَّخْوِيفُ بِذِكْرِ المَضارِّ، والمُفَسِّرُونَ مُجْمِعُونَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ﴾ هو يَوْمُ القِيامَةِ، وحَمَلَهُ أبُو مُسْلِمٍ عَلى أنَّهُ حالَ المُعايَنَةِ، والظّاهِرُ يَشْهَدُ بِخِلافِهِ؛ لِأنَّهُ تَعالى وصَفَ اليَوْمَ بِأنَّ عَذابَهم يَأْتِي فِيهِ وأنَّهم يَسْألُونَ الرَّجْعَةَ، ويُقالُ لَهم: ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِن قَبْلُ ما لَكم مِن زَوالٍ﴾ ولا يَلِيقُ ذَلِكَ إلّا بِيَوْمِ القِيامَةِ. وحُجَّةُ أبِي مُسْلِمٍ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْفِقُوا مِن ما رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ أحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أخَّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأصَّدَّقَ﴾ [المنافقون: ١٠]، ثُمَّ حَكى اللَّهُ سُبْحانَهُ ما يَقُولُ الكُفّارُ في ذَلِكَ اليَوْمِ، فَقالَ: ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أخِّرْنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿أخِّرْنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾ فَقالَ بَعْضُهم: طَلَبُوا الرَّجْعَةَ إلى الدُّنْيا لِيَتَلافَوْا ما فَرَّطُوا فِيهِ، وقالَ: بَلْ طَلَبُوا الرُّجُوعَ إلى حالِ التَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ . وأمّا عَلى قَوْلِ أبِي مُسْلِمٍ فَتَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ ظاهِرٌ فَقالَ تَعالى مُجِيبًا لَهم: ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِن قَبْلُ ما لَكم مِن زَوالٍ﴾ ومَعْناهُ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨] إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا كانُوا يَذْكُرُونَهُ مِن إنْكارِ المَعادِ فَقَرَّعَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِهَذا القَوْلِ لِأنَّ التَّقْرِيعَ بِهَذا الجِنْسِ أقْوى، ومَعْنى ﴿ما لَكم مِن زَوالٍ﴾ لا شُبْهَةَ في أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ لا زَوالَ لَنا مِن هَذِهِ الحَياةِ إلى حَياةٍ أُخْرى، ومِن هَذِهِ الدّارِ إلى دارِ المُجازاةِ، لا أنَّهم كانُوا يُنْكِرُونَ أنْ يَزُولُوا عَنْ حَياةٍ إلى مَوْتٍ أوْ عَنْ شَبابٍ إلى هَرَمٍ أوْ عَنْ فَقْرٍ إلى غِنًى، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى زادَهم تَقْرِيعًا آخَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿وسَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ يَعْنِي سَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قَبْلَكم، وهم قَوْمُ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ، وظَلَمُوا أنْفُسَهم بِالكُفْرِ والمَعْصِيَةِ؛ لِأنَّ مَن شاهَدَ هَذِهِ الأحْوالَ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَعْتَبِرَ، فَإذا لَمْ يَعْتَبِرْ كانَ مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ والتَّقْرِيعِ. ثم قال: ﴿وتَبَيَّنَ لَكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ﴾ وظَهَرَ لَكم أنَّ عاقِبَتَهم عادَتْ إلى الوَبالِ والخِزْيِ والنَّكالِ. فَإنْ قِيلَ: ولِماذا قِيلَ: ﴿وتَبَيَّنَ لَكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ﴾ ولَمْ يَكُنِ القَوْمُ يُقِرُّونَ بِأنَّهُ تَعالى أهْلَكَهم لِأجْلِ تَكْذِيبِهِمْ ؟ قُلْنا: إنَّهم عَلِمُوا أنَّ أُولَئِكَ المُتَقَدِّمِينَ كانُوا طالِبِينَ لِلدُّنْيا ثُمَّ إنَّهم فَنُوا وانْقَرَضُوا، فَعِنْدَ هَذا يَعْلَمُونَ أنَّهُ لا فائِدَةَ في طَلَبِ الدُّنْيا، والواجِبُ الجِدُّ والِاجْتِهادُ في طَلَبِ الدِّينِ، والواجِبُ عَلى مَن عَرَفَ هَذا أنْ يَكُونَ خائِفًا وجِلًا فَيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لَهُ، هَذا إذا قُرِئَ بِالتّاءِ. أمّا إذا قُرِئَ بِالنُّونِ فَلا شُبْهَةَ فِيهِ لِأنَّ التَّقْدِيرَ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: أوَلَمْ نُبَيِّنْ لَكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ، ولَيْسَ كُلُّ ما بَيَّنَ لَهم تَبَيَّنُوهُ. أما قوله: ﴿وضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ﴾ فالمُرادُ ما أوْرَدَهُ اللَّهُ في القُرْآنِ مِمّا يُعْلَمُ بِهِ أنَّهُ قادِرٌ عَلى الإعادَةِ كَما قَدَرَ عَلى الِابْتِداءِ وقادِرٌ عَلى التَّعْذِيبِ المُؤَجَّلِ كَما يَفْعَلُ الهَلاكَ المُعَجَّلَ، وذَلِكَ في كِتابِ اللَّهِ كَثِيرٌ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب