الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهم مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهم يَشْكُرُونَ﴾ ﴿رَبَّنا إنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وما نُعْلِنُ وما يَخْفى عَلى اللَّهِ مِن شَيْءٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وهَبَ لِي عَلى الكِبَرِ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ﴾ ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وتَقَبَّلْ دُعاءِ﴾ ﴿رَبَّنا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى حَكى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذا المَوْضِعِ أنَّهُ طَلَبَ في دُعائِهِ أُمُورًا سَبْعَةً: المَطْلُوبُ الأوَّلُ: طَلَبَ مِنَ اللَّهِ نِعْمَةَ الأمانِ وهو قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ والِابْتِداءُ بِطَلَبِ نِعْمَةِ الأمْنِ في هَذا الدُّعاءِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أعْظَمُ أنْواعِ النِّعَمِ والخَيْراتِ، وأنَّهُ لا يَتِمُّ شَيْءٌ مِن مَصالِحِ الدِّينِ والدُّنْيا إلّا بِهِ، وسُئِلَ بَعْضُ العُلَماءِ: الأمْنُ أفْضَلُ أمِ الصِّحَّةُ ؟ فَقالَ: الأمْنُ أفْضَلُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ شاةً لَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُها فَإنَّها تَصِحُّ بَعْدَ زَمانٍ، ثُمَّ إنَّها تُقْبِلُ عَلى الرَّعْيِ والأكْلِ، ولَوْ أنَّها رُبِطَتْ في مَوْضِعٍ ورُبِطَ بِالقُرْبِ مِنها ذِئْبٌ فَإنَّها تُمْسِكُ عَنِ العَلَفِ ولا تَتَناوَلُهُ إلى أنْ تَمُوتَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الضَّرَرَ الحاصِلَ مِنَ الخَوْفِ أشَدُّ مِنَ الضَّرَرِ الحاصِلِ مِن ألَمِ الجَسَدِ. والمَطْلُوبُ الثّانِي: أنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ التَّوْحِيدَ، ويَصُونَهُ عَنِ الشِّرْكِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ . والمَطْلُوبُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿مِن ذُرِّيَّتِي﴾ أيْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي وهو إسْماعِيلُ ومَن وُلِدَ مِنهُ. ﴿بِوادٍ﴾ هو وادِي مَكَّةَ ﴿غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ أيْ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِن زَرْعٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿قُرْءانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر: ٢٨] بِمَعْنى لا يَحْصُلُ فِيهِ اعْوِجاجٌ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ، وذَكَرُوا في تَسْمِيَتِهِ المُحَرَّمَ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ التَّعَرُّضَ لَهُ والتَّهاوُنَ بِهِ، وجَعَلَ ما حَوْلَهُ حَرَمًا لِمَكانِهِ. الثّانِي: أنَّهُ كانَ لَمْ يَزَلْ مُمْتَنِعًا عَزِيزًا يَهابُهُ كُلُّ جَبّارٍ كالشَّيْءِ المُحَرَّمِ الَّذِي حَقُّهُ أنْ يُجْتَنَبَ. الثّالِثُ: سُمِّيَ مُحَرَّمًا لِأنَّهُ مُحْتَرَمٌ عَظِيمُ الحُرْمَةِ لا يَحِلُّ انْتِهاكُهُ. الرّابِعُ: أنَّهُ حَرُمَ عَلى الطُّوفانِ أيِ امْتَنَعَ مِنهُ، كَما سُمِّيَ عَتِيقًا لِأنَّهُ أُعْتِقَ مِنهُ فَلَمْ يُسْتَعْلَ عَلَيْهِ. الخامِسُ: أمَرَ الصّائِرِينَ إلَيْهِ أنْ يُحَرِّمُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أشْياءَ كانَتْ تَحِلُّ لَهم مِن قَبْلُ. السّادِسُ: حَرَّمَ مَوْضِعَ البَيْتِ حِينَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وحَفَّهُ بِسَبْعَةٍ مِنَ المَلائِكَةِ، وهو مِثْلُ البَيْتِ المَعْمُورِ الَّذِي بَناهُ آدَمُ، فَرُفِعَ إلى السَّماءِ السّابِعَةِ. السّابِعُ: حَرَّمَ عَلى عِبادِهِ أنْ يَقْرَبُوهُ بِالدِّماءِ والأقْذارِ وغَيْرِها. رُوِي أنَّ هاجَرَ كانَتْ أمَةً لِسارَّةَ فَوَهَبَتْها لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَوَلَدَتْ لَهُ (p-١٠٨)إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالَتْ سارَّةُ: كُنْتُ أرْجُو أنْ يَهَبَ اللَّهُ لِي ولَدًا مِن خَلِيلِهِ فَمَنَعْنِيهِ ورَزَقَهُ خادِمَتِي، وقالَتْ لِإبْراهِيمَ: أبْعِدْهُما مِنِّي فَنَقَلَهُما إلى مَكَّةَ وإسْماعِيلُ رَضِيعٌ ثُمَّ رَجَعَ، فَقالَتْ هاجَرُ: إلى مَن تَكِلُنا ؟ فَقالَ: إلى اللَّهِ. ثُمَّ دَعا اللَّهَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوادٍ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ ثُمَّ إنَّها عَطِشَتْ وعَطِشَ الصَّبِيُّ فانْتَهَتْ بِالصَّبِيِّ إلى مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَضَرَبَ بِقَدَمِهِ فَفارَتْ عَيْنًا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”رَحِمَ اللَّهُ أُمَّ إسْماعِيلَ لَوْلا أنَّها عَجِلَتْ لَكانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا“»، ثُمَّ إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عادَ بَعْدَ كِبَرِ إسْماعِيلَ واشْتَغَلَ هو مَعَ إسْماعِيلَ بِرَفْعِ قَواعِدِ البَيْتِ. قالَ القاضِي: أكْثَرُ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الحِكايَةِ بَعِيدَةٌ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَنْقُلَ ولَدَهُ إلى حَيْثُ لا طَعامَ ولا ماءَ مَعَ أنَّهُ كانَ يُمْكِنُهُ أنْ يَنْقُلَهُما إلى بَلْدَةٍ أُخْرى مِن بِلادِ الشّامِ لِأجْلِ قَوْلِ سارَّةَ، إلّا إذا قُلْنا: إنَّ اللَّهَ أعْلَمَهُ أنَّهُ يَحْصُلُ هُناكَ ماءٌ وطَعامٌ. وأقُولُ: أمّا ظُهُورُ ماءِ زَمْزَمَ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إرْهاصًا لِإسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ عِنْدَنا جائِزٌ خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ أنَّهُ مُعْجِزَةٌ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. ثم قال: ﴿رَبَّنا إنِّي أسْكَنْتُ﴾ واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأسْكَنْتُ أيْ أسْكَنْتُ قَوْمًا مِن ذُرِّيَّتِي وهم إسْماعِيلُ وأوْلادُهُ بِهَذا الوادِي الَّذِي لا زَرْعَ فِيهِ لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ. ثم قال: ﴿فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البحث الأوَّلُ: قالَ الأصْمَعِيُّ: هَوِيَ يَهْوِي هَوِيًّا بِالفَتْحِ إذا سَقَطَ مِن عُلْوٍ إلى سُفْلٍ. وقِيلَ: ﴿تَهْوِي إلَيْهِمْ﴾ تُرِيدُهم، وقِيلَ: تُسْرِعُ إلَيْهِمْ. وقِيلَ: تَنْحَطُّ إلَيْهِمْ وتَنْحَدِرُ إلَيْهِمْ وتَنْزِلُ، يُقالُ: هَوِيَ الحَجَرُ مِن رَأسِ الجَبَلِ يَهْوِي إذا انْحَدَرَ وانْصَبَّ، وهَوِيَ الرَّجُلُ إذا انْحَدَرَ مِن رَأسِ الجَبَلِ. البحث الثّانِي: أنَّ هَذا الدُّعاءَ جامِعٌ لِلدِّينِ والدُّنْيا. أمّا الدِّينُ فَلِأنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَيْلُ النّاسِ إلى الذَّهابِ إلى تِلْكَ البَلْدَةِ بِسَبَبِ النُّسُكِ والطّاعَةِ لِلَّهِ تَعالى. وأمّا الدُّنْيا فَلِأنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَيْلُ النّاسِ إلى نَقْلِ المَعاشاتِ إلَيْهِمْ بِسَبَبِ التِّجاراتِ، فَلِأجْلِ هَذا المَيْلِ يَتَّسِعُ عَيْشُهم، ويَكْثُرُ طَعامُهم ولِباسُهم. البحث الثّالِثُ: كَلِمَةُ ﴿مِن﴾ في قَوْلِهِ: ﴿فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ﴾ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ، والمَعْنى: فاجْعَلْ أفْئِدَةَ بَعْضِ النّاسِ مائِلَةً إلَيْهِمْ. قالَ مُجاهِدٌ: لَوْ قالَ: أفْئِدَةَ النّاسِ لازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ فارِسُ والرُّومُ والتُّرْكُ والهِنْدُ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَوْ قالَ: أفْئِدَةَ النّاسِ لَحَجَّتِ اليَهُودُ والنَّصارى والمَجُوسُ، ولَكِنَّهُ قالَ: ﴿أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ﴾ فَهُمُ المُسْلِمُونَ. ثم قال: ﴿وارْزُقْهم مِنَ الثَّمَراتِ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البحث الأوَّلُ: أنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وارْزُقْهُمُ الثَّمَراتِ، بَلْ قالَ: ﴿وارْزُقْهم مِنَ الثَّمَراتِ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَطْلُوبَ بِالدُّعاءِ إيصالُ بَعْضِ الثَّمَراتِ إلَيْهِمْ. البحث الثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِإيصالِ الثَّمَراتِ إلَيْهِمْ إيصالَها إلَيْهِمْ عَلى سَبِيلِ التِّجاراتِ، وإنَّما يَكُونُ المُرادُ عِمارَةَ القُرى بِالقُرْبِ مِنها لِتَحْصِيلِ الثِّمارِ مِنها. ثم قال: ﴿لَعَلَّهم يَشْكُرُونَ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ لِلْعاقِلِ مِن مَنافِعِ الدُّنْيا أنْ يَتَفَرَّغَ لِأداءِ العِباداتِ وإقامَةِ الطّاعاتِ، فَإنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيَّنَ أنَّهُ إنَّما طَلَبَ تَيْسِيرَ المَنافِعِ عَلى أوْلادِهِ لِأجْلِ أنْ (p-١٠٩)يَتَفَرَّغُوا لِإقامَةِ الصَّلَواتِ وأداءِ الواجِباتِ. * * * المَطْلُوبُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا إنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وما نُعْلِنُ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَيْسِيرَ المَنافِعِ لِأوْلادِهِ وتَسْهِيلَها عَلَيْهِمْ، ذَكَرَ أنَّهُ لا يَعْلَمُ عَواقِبَ الأحْوالِ ونِهاياتِ الأُمُورِ في المُسْتَقْبَلِ، وأنَّهُ تَعالى هو العالِمُ بِها المُحِيطُ بِأسْرارِها، فَقالَ: ﴿رَبَّنا إنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وما نُعْلِنُ﴾ والمَعْنى: أنَّكَ أعْلَمُ بِأحْوالِنا ومَصالِحِنا ومَفاسِدِنا مِنّا، قِيلَ: ما نُخْفِي مِنَ الوَجْدِ بِسَبَبِ حُصُولِ الفُرْقَةِ بَيْنِي وبَيْنَ إسْماعِيلَ، وما نُعْلِنُ مِنَ البُكاءِ، وقِيلَ: ما نُخْفِي مِنَ الحُزْنِ المُتَمَكِّنِ في القَلْبِ، وما نُعْلِنُ: يُرِيدُ ما جَرى بَيْنَهُ وبَيْنَ هاجَرَ حَيْثُ قالَتْ لَهُ عِنْدَ الوَداعِ: إلى مَن تَكِلُنا ؟ فَقالَ: إلى اللَّهِ أكِلُكم، قالَتْ: آللَّهُ أمَرَكَ بِهَذا ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا نَخْشى. ثم قال: ﴿وما يَخْفى عَلى اللَّهِ مِن شَيْءٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ كَلامُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ تَصْدِيقًا لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَقَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤] . والثّانِي: أنَّهُ مِن كَلامِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَعْنِي: وما يَخْفى عَلى الَّذِي هو عالِمُ الغَيْبِ مِن شَيْءٍ في كُلِّ مَكانٍ، ولَفْظُ ”مِن“ يُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ كَأنَّهُ قِيلَ: وما يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ ما. ثم قال: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وهَبَ لِي عَلى الكِبَرِ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البحث الأوَّلُ: اعْلَمْ أنَّ القُرْآنَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما أعْطى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ هَذَيْنِ الوَلَدَيْنِ - أعْنِي إسْماعِيلَ وإسْحاقَ - عَلى الكِبَرِ والشَّيْخُوخَةِ، فَأمّا مِقْدارُ ذَلِكَ السِّنِّ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ القُرْآنِ وإنَّما يُرْجَعُ فِيهِ إلى الرِّواياتِ، فَقِيلَ: لَمّا وُلِدَ إسْماعِيلُ كانَ سِنُّ إبْراهِيمَ تِسْعًا وتِسْعِينَ سَنَةً، ولَمّا وُلِدَ إسْحاقُ كانَ سِنُّهُ مِائَةً واثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وقِيلَ: وُلِدَ لَهُ إسْماعِيلُ لِأرْبَعٍ وسِتِّينَ سَنَةً ووُلِدَ إسْحاقُ لِتِسْعِينَ سَنَةً، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَمْ يُولَدْ لِإبْراهِيمَ إلّا بَعْدَ مِائَةٍ وسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وإنَّما ذَكَرَ قَوْلَهُ: ﴿عَلى الكِبَرِ﴾ لِأنَّ المِنَّةَ بِهِبَةِ الوَلَدِ في هَذا السِّنِّ أعْظَمُ مِن حَيْثُ إنَّ هَذا الزَّمانَ زَمانُ وُقُوعِ اليَأْسِ مِنَ الوِلادَةِ، والظَّفَرُ بِالحاجَةِ في وقْتِ اليَأْسِ مِن أعْظَمِ النِّعَمِ، ولِأنَّ الوِلادَةَ في تِلْكَ السِّنِّ العالِيَةِ كانَتْ آيَةً لِإبْراهِيمَ. فَإنْ قِيلَ: إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما ذَكَرَ هَذا الدُّعاءَ عِنْدَما أسْكَنَ إسْماعِيلَ وهاجَرَ أُمَّهُ في ذَلِكَ الوادِي، وفي ذَلِكَ الوَقْتِ ما وُلِدَ لَهُ إسْحاقُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أنْ يَقُولَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وهَبَ لِي عَلى الكِبَرِ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ﴾ ؟ قُلْنا: قالَ القاضِي: هَذا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما ذَكَرَ هَذا الكَلامَ في زَمانٍ آخَرَ لا عَقِيبَ ما تَقَدَّمَ مِنَ الدُّعاءِ. ويُمْكِنُ أيْضًا أنْ يُقالَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما ذَكَرَ هَذا الدُّعاءَ بَعْدَ كِبَرِ إسْماعِيلَ وظُهُورِ إسْحاقَ، وإنْ كانَ ظاهِرُ الرِّواياتِ بِخِلافِهِ. البحث الثّانِي: ”عَلى“ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى الكِبَرِ﴾ بِمَعْنى مَعَ كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎إنِّي عَلى ما تَرَيْنَ مِن كِبَرِي أعْلَمُ مِن حَيْثُ يُؤْكَلُ الكَتِفُ وهُوَ في مَوْضِعِ الحالِ، ومَعْناهُ: وهَبَ لِي في حالِ الكِبَرِ. البحث الثّالِثُ: في المُناسَبَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا إنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وما نُعْلِنُ وما يَخْفى عَلى اللَّهِ مِن شَيْءٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ (p-١١٠)وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وهَبَ لِي عَلى الكِبَرِ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ﴾ وذَلِكَ هو كَأنَّهُ كانَ في قَلْبِهِ أنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ إعانَتَهُما وإعانَةَ ذُرِّيَّتِهِما بَعْدَ مَوْتِهِ ولَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذا المَطْلُوبِ، بَلْ قالَ: ﴿رَبَّنا إنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وما نُعْلِنُ﴾ أيْ إنَّكَ تَعْلَمُ ما في قُلُوبِنا وضَمائِرِنا، ثم قال: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وهَبَ لِي عَلى الكِبَرِ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ ظاهِرًا عَلى أنَّهُما يَبْقَيانِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وأنَّهُ مَشْغُولُ القَلْبِ بِسَبَبِهِما فَكانَ هَذا دُعاءً لَهُما بِالخَيْرِ والمَعُونَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلى سَبِيلِ الرَّمْزِ والتَّعْرِيضِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاشْتِغالَ بِالثَّناءِ عِنْدَ الحاجَةِ إلى الدُّعاءِ أفْضَلُ مِنَ الدُّعاءِ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ حاكِيًا عَنْ رَبِّهِ أنَّهُ قالَ: «”مَن شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطِي السّائِلِينَ“» . ثم قال: ﴿إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ الدُّعاءَ عَلى سَبِيلِ الرَّمْزِ والتَّعْرِيضِ لا عَلى وجْهِ الإيضاحِ والتَّصْرِيحِ قالَ: ﴿إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ﴾ أيْ هو عالِمٌ بِالمَقْصُودِ سَواءً صَرَّحْتُ بِهِ أوْ لَمْ أُصَرِّحْ. وقَوْلُهُ: ”سَمِيعُ الدُّعاءِ“ مِن قَوْلِكَ: سَمِعَ المَلِكُ كَلامَ فُلانٍ إذا اعْتَدَّ بِهِ وقَبِلَهُ، ومِنهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ. * * * المَطْلُوبُ الخامِسُ: قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذا الآيَةِ عَلى أنَّ أفْعالَ العَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى فَقالُوا: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى حِكايَةً عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ تَرْكَ المَنهِيّاتِ لا يَحْصُلُ إلّا مِنَ اللَّهِ، وقَوْلَهُ: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ فِعْلَ المَأْمُوراتِ لا يَحْصُلُ إلّا مِنَ اللَّهِ، وذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مُصِرًّا عَلى أنَّ الكُلَّ مِنَ اللَّهِ. المسألة الثّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي﴾ أيْ واجْعَلْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي كَذَلِكَ؛ لِأنَّ كَلِمَةَ ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِي﴾ لِلتَّبْعِيضِ، وإنَّما ذَكَرَ هَذا التَّبْعِيضَ لِأنَّهُ عَلِمَ بِإعْلامِ اللَّهِ تَعالى أنَّهُ يَكُونُ في ذُرِّيَّتِهِ جَمْعٌ مِنَ الكُفّارِ وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] . المَطْلُوبُ السّادِسُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا دَعا اللَّهَ في المَطالِبِ المَذْكُورَةِ دَعا اللَّهَ تَعالى في أنْ يَقْبَلَ دُعاءَهُ فَقالَ: ﴿رَبَّنا وتَقَبَّلْ دُعاءِ﴾ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ عِبادَتِي بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأعْتَزِلُكم وما تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [مريم: ٤٨] . * * * المَطْلُوبُ السّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: طَلَبُ المَغْفِرَةِ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ سابِقَةِ الذَّنْبِ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ قَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ وإنْ كانَ قاطِعًا بِأنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ، فَكَيْفَ طَلَبَ تَحْصِيلَ ما كانَ قاطِعًا بِحُصُولِهِ ؟ والجَوابُ: المَقْصُودُ مِنهُ الِالتِجاءُ إلى اللَّهِ تَعالى وقَطْعُ الطَّمَعِ إلّا مِن فَضْلِهِ وكَرَمِهِ ورَحْمَتِهِ. المسألة الثّانِيَةُ: إنْ قالَ قائِلٌ: كَيْفَ جازَ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِأبَوَيْهِ وكانا كافِرَيْنِ ؟ فالجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ المَنعَ مِنهُ لا يُعْلَمُ إلّا بِالتَّوْقِيفِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَجِدْ مِنهُ مَنعًا فَظَنَّ كَوْنَهُ جائِزًا. الثّانِي: أرادَ بِوالِدَيْهِ آدَمَ وحَوّاءَ. الثّالِثُ: كانَ ذَلِكَ بِشَرْطِ الإسْلامِ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَما كانَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفارُ باطِلًا ولَوْ لَمْ يَكُنْ لَبَطَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا قَوْلَ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة: ٤]، وقالَ بَعْضُهم: كانَتْ أُمُّهُ مُؤْمِنَةً، ولِهَذا السَّبَبِ خَصَّ أباهُ (p-١١١)بِالذِّكْرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأ مِنهُ﴾ [التوبة: ١١٤] . واللَّهُ أعْلَمُ. وفي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: يَقُومُ أيْ يَثْبُتُ وهو مُسْتَعارٌ مِن قِيامِ القائِمِ عَلى الرِّجْلِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهم: قامَتِ الحَرْبُ عَلى ساقِها، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَرَجَّلَتِ الشَّمْسُ، أيْ أشْرَقَتْ وثَبَتَ ضَوْؤُها كَأنَّها قامَتْ عَلى رِجْلٍ. الثّانِي: أنْ يُسْنَدَ إلى الحِسابِ قِيامُ أهْلِهِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] أيْ أهْلَها. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب