الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهم فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ في أوَّلِ السُّورَةِ: ﴿كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ كانَ هَذا إنْعامًا عَلى الرَّسُولِ مِن حَيْثُ إنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ هَذا المَنصِبَ العَظِيمَ، وإنْعامًا أيْضًا عَلى الخَلْقِ مِن حَيْثُ إنَّهُ أرْسَلَ إلَيْهِمْ مَن خَلَّصَهم مِن ظُلُماتِ الكُفْرِ وأرْشَدَهم إلى نُورِ الإيمانِ، فَذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ ما يَجْرِي مَجْرى تَكْمِيلِ النِّعْمَةِ والإحْسانِ في الوجه يْنِ. أمّا بِالنِّسْبَةِ إلى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَلِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ سائِرَ الأنْبِياءِ كانُوا مَبْعُوثِينَ إلى قَوْمِهِمْ خاصَّةً، وأمّا أنْتَ يا مُحَمَّدُ فَمَبْعُوثٌ إلى عامَّةِ الخَلْقِ، فَكانَ هَذا الإنْعامُ في حَقِّكَ أفْضَلَ وأكْمَلَ، وأمّا بِالنِّسْبَةِ إلى عامَّةِ الخَلْقِ، فَهو أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أنَّهُ ما بَعَثَ رَسُولًا إلى قَوْمٍ إلّا بِلِسانِ أُولَئِكَ القَوْمِ، فَإنَّهُ مَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، كانَ فَهْمُهم لِأسْرارِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ ووُقُوفُهم عَلى حَقائِقِها أسْهَلَ، وعَنِ الغَلَطِ والخَطَأِ أبْعَدَ، فَهَذا هو وجْهُ النَّظْمِ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ النّاسِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ اللُّغاتِ اصْطِلاحِيَّةٌ لا تَوْقِيفِيَّةٌ، قالَ: لِأنَّ التَّوْقِيفَ لا يَحْصُلُ إلّا بِإرْسالِ الرُّسُلِ، وقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ إرْسالَ جَمِيعِ الرُّسُلِ لا يَكُونُ إلّا بِلُغَةِ قَوْمِهِمْ، وذَلِكَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ حُصُولِ اللُّغاتِ عَلى إرْسالِ الرُّسُلِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حُصُولُ تِلْكَ اللُّغاتِ بِالتَّوْقِيفِ، فَوَجَبَ حُصُولُها بِالِاصْطِلاحِ. * * * المسألة الثّالِثَةُ: زَعَمَ طائِفَةٌ مِنَ اليَهُودِ يُقالُ لَهُمُ العِيسَوِيَّةُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَكِنْ إلى العَرَبِ لا إلى سائِرِ الطَّوائِفِ، وتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ القُرْآنَ لَمّا كانَ نازِلًا بِلُغَةِ العَرَبِ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُعْجِزَةً بِسَبَبِ ما فِيهِ مِنَ الفَصاحَةِ إلّا العَرَبُ، وحِينَئِذٍ لا يَكُونُ القُرْآنُ حُجَّةً إلّا عَلى العَرَبِ، ومَن لا يَكُونُ عَرَبِيًّا لَمْ يَكُنِ القُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِ. الثّانِي: قالُوا: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ﴾ المُرادُ بِذَلِكَ اللِّسانِ لِسانُ العَرَبِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يُقالَ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْمٌ سِوى العَرَبِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مَبْعُوثٌ إلى العَرَبِ فَقَطْ. والجَوابُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن ﴿قَوْمِهِ﴾ أهْلَ بَلَدِهِ، ولَيْسَ المُرادُ مِن ﴿قَوْمِهِ﴾ أهْلَ دَعْوَتِهِ، والدَّلِيلُ عَلى عُمُومِ الدَّعْوَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ياأيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم جَمِيعًا﴾ [الأعْرافِ: ١٥٨] بَلْ إلى الثِّقْلَيْنِ؛ لِأنَّ التَّحَدِّيَ كَما وقَعَ مَعَ الإنْسِ فَقَدْ وقَعَ مَعَ الجِنِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسْراءِ: ٨٨]. * * * المسألة الرّابِعَةُ: تَمَسَّكَ أصْحابُنا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ عَلى أنَّ الضَّلالَ والهِدايَةَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، والآيَةُ صَرِيحَةٌ في هَذا المَعْنى، قالَ الأصْحابُ: ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا المَعْنى ما رُوِيَ «أنَّ (p-٦٤)أبا بَكْرٍ وعُمَرَ أقْبَلا في جَماعَةٍ مِنَ النّاسِ وقَدِ ارْتَفَعَتْ أصْواتُهُما، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ ”ما هَذا؟“ فَقالَ بَعْضُهم: يا رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ أبُو بَكْرٍ: الحَسَناتُ مِنَ اللَّهِ والسَّيِّئاتُ مِن أنْفُسِنا، ويَقُولُ عُمَرُ كِلاهُما مِنَ اللَّهِ، وتَبِعَ بَعْضُهم أبا بَكْرٍ وبَعْضُهم عُمَرَ، فَتَعَرَّفَ الرَّسُولُ ﷺ ما قالَهُ أبُو بَكْرٍ، وأعْرَضَ عَنْهُ حَتّى عُرِفَ ذَلِكَ في وجْهِهِ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلى عُمَرَ فَتَعَرَّفَ ما قالَهُ وعُرِفَ البِشْرُ في وجْهِهِ، ثم قال: ”أقْضِي بَيْنَكُما كَما قَضى بِهِ إسْرافِيلُ بَيْنَ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ، قالَ جِبْرِيلُ مِثْلَ مَقالَتِكَ يا عُمَرُ، وقالَ مِيكائِيلُ مِثْلَ مَقالَتِكَ يا أبا بَكْرٍ، فَقَضاءُ إسْرافِيلَ أنَّ القَدَرَ كُلَّهُ خَيْرَهُ وشَرَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وهَذا قَضائِي بَيْنَكُما» “. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ لا يُمْكِنُ إجْراؤُها عَلى ظاهِرِها، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ والمَعْنى: أنّا إنَّما أرْسَلْنا كُلَّ رَسُولٍ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهم تِلْكَ التَّكالِيفَ بِلِسانِهِمْ، فَيَكُونَ إدْراكُهم لِذَلِكَ البَيانِ أسْهَلَ ووُقُوفُهم عَلى المَقْصُودِ والغَرَضِ أكْمَلَ، وهَذا الكَلامُ إنَّما يَصِحُّ لَوْ كانَ مَقْصُودُ اللَّهِ تَعالى مِن إرْسالِ الرُّسُلِ حُصُولَ الإيمانِ لِلْمُكَلَّفِينَ، فَأمّا لَوْ كانَ مَقْصُودُهُ الإضْلالَ وخَلْقَ الكُفْرِ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الكَلامُ مُلائِمًا لِهَذا المَقْصُودِ. والثّانِي: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إذا قالَ لَهم: إنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الكُفْرَ والضَّلالَ فِيكم، فَلَهم أنْ يَقُولُوا لَهُ: فَما الفائِدَةُ في بَيانِكَ، وما المَقْصُودُ مِن إرْسالِكَ، وهَلْ يُمْكِنُنا أنْ نُزِيلَ كُفْرًا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى فِينا عَنْ أنْفُسِنا؟ وحِينَئِذٍ تَبْطُلُ دَعْوَةُ النُّبُوَّةِ وتَفْسُدُ بِعْثَةُ الرُّسُلِ. الثّالِثُ: أنَّهُ إذا كانَ الكُفْرُ حاصِلًا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى ومَشِيئَتِهِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ الرِّضا بِهِ واجِبًا؛ لِأنَّ الرِّضا بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى واجِبٌ، وذَلِكَ لا يَقُولُهُ عاقِلٌ. والرّابِعُ: أنّا قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ مُقَدِّمَةَ هَذِهِ الآيَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ يَدُلُّ عَلى مَذْهَبِ العَدْلِ، وأيْضًا مُؤَخِّرَةُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ فَكَيْفَ يَكُونُ حَكِيمًا مَن كانَ خالِقًا لِلْكُفْرِ والقَبائِحِ ومُرِيدًا لَها؟ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّهُ لا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ عَلى أنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ الكُفْرَ في العَبْدِ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلى التَّأْوِيلِ. وقَدِ اسْتَقْصَيْنا ما في هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البَقَرَةِ: ٢٦] ولا بَأْسَ بِإعادَةِ بَعْضِها: فالأوَّلُ: أنَّ المُرادَ بِالإضْلالِ: هو الحكم بِكَوْنِهِ كافِرًا ضالًّا، كَما يُقالُ: فُلانٌ يُكَفِّرُ فُلانًا ويُضَلِّلُهُ، أيْ يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ كافِرًا ضالًّا. والثّانِي: أنْ يَكُونَ الإضْلالُ عِبارَةً عَنِ الذَّهابِ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ إلى النّارِ، والهِدايَةُ عِبارَةً عَنْ إرْشادِهِمْ إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ. والثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا تَرَكَ الضّالَّ عَلى إضْلالِهِ ولَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ صارَ كَأنَّهُ أضَلَّهُ، والمُهْتَدِي لَمّا أعانَهُ بِالألْطافِ صارَ كَأنَّهُ هو الَّذِي هَداهُ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: المُرادُ بِالإضْلالِ: التَّخْلِيَةُ ومَنعُ الألْطافِ، وبِالهِدايَةِ التَّوْفِيقُ واللُّطْفُ. والجَوابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: أوَّلًا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ لا يَلِيقُ بِهِ أنْ يُضِلَّهم. قُلْنا: قالَ الفَرّاءُ: إذا ذُكِرَ فِعْلٌ وبَعْدَهُ فِعْلٌ آخَرُ، فَإنْ كانَ الفِعْلُ الثّانِي مُشاكِلًا لِلْأوَّلِ نَسَقْتَهُ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُشاكِلًا لَهُ اسْتَأْنَفْتَهُ ورَفَعْتَهُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْواهِهِمْ ويَأْبى اللَّهُ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٢] فَقَوْلُهُ: ﴿ويَأْبى اللَّهُ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٢] في مَوْضِعِ رَفْعٍ لا يَجُوزُ إلّا ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لا يَحْسُنُ أنْ يُقالَ: يُرِيدُونَ أنْ يَأْبى اللَّهُ، فَلَمّا لَمْ يُمْكِنْ وضْعُ الثّانِي مَوْضِعَ الأوَّلِ بَطَلَ العَطْفُ، ونَظِيرُهُ أيْضًا قَوْلُهُ: ﴿لِنُبَيِّنَ لَكم ونُقِرُّ في الأرْحامِ﴾ [الحَجِّ: ٥] ومِن ذَلِكَ قَوْلُهم: أرَدْتُ أنْ أزُورَكَ فَيَمْنَعُنِي المَطَرُ بِالرَّفْعِ غَيْرَ مَنسُوقٍ عَلى ما قَبْلَهُ لِما ذَكَرْناهُ، ومِثْلُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:(p-٦٥) ؎يُرِيدُ أنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: هَهُنا قالَ تَعالى: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ ثم قال: ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ﴾ ذَكَرَ فَيُضِلُّ بِالرَّفْعِ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ مَذْكُورٌ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِئْنافِ وأنَّهُ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلى ما قَبْلَهُ، وأقُولُ: تَقْرِيرُ هَذا الكَلامِ مِن حَيْثُ المَعْنى، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ؛ لِيَكُونَ بَيانُهُ لَهم تِلْكَ الشَّرائِعَ بِلِسانِهِمُ الَّذِي ألِفُوهُ واعْتادُوهُ، ثم قال: ومَعَ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ تَعالى يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ، والغَرَضُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ تَقْوِيَةَ البَيانِ لا تُوجِبُ حُصُولَ الهِدايَةِ فَرُبَّما قَوِيَ البَيانُ ولا تَحْصُلُ الهِدايَةُ، ورُبَّما ضَعُفَ البَيانُ وحَصَلَتِ الهِدايَةُ، وإنَّما كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لِأجْلِ أنَّ الهِدايَةَ والضَّلالَ لا يَحْصُلانِ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى. أما قوله ثانِيًا: لَوْ كانَ الضَّلالُ حاصِلًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى لَكانَ لِلْكافِرِ أنْ يَقُولَ لَهُ: ما الفائِدَةُ في بَيانِكَ ودَعْوَتِكَ ؟ فَنَقُولُ: يُعارِضُهُ أنَّ الخَصْمَ يُسَلِّمُ أنَّ هَذِهِ الآياتِ إخْبارٌ عَنْ كَوْنِهِ ضالًّا، فَيَقُولُ لَهُ الكافِرُ: لَمّا أخْبَرَ إلَهُكَ عَنْ كَوْنِي كافِرًا فَإنْ آمَنتُ صارَ إلَهُكَ كاذِبًا، فَهَلْ أقْدِرُ عَلى جَعْلِ إلَهِكَ كاذِبًا ؟ وهَلْ أقْدِرُ عَلى جَعْلِ عِلْمِهِ جَهْلًا ؟ وإذا لَمْ أقْدِرْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَأْمُرُنِي بِهَذا الإيمانِ ؟ فَثَبَتَ أنَّ هَذا السُّؤالَ الَّذِي أوْرَدَهُ الخَصْمُ عَلَيْنا هو أيْضًا وارِدٌ عَلَيْهِ. وأما قوله ثالِثًا: يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الرِّضا بِالكُفْرِ واجِبًا؛ لِأنَّ الرِّضا بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى واجِبٌ وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلّا بِهِ فَهو واجِبٌ. قُلْنا: ويَلْزَمُكَ أيْضًا عَلى مَذْهَبِكَ أنَّهُ يَجِبُ عَلى العَبْدِ السَّعْيُ في تَكْذِيبِ اللَّهِ وفي تَجْهِيلِهِ، وهَذا أشَدُّ اسْتِحالَةً مِمّا ألْزَمْتَهُ عَلَيْنا؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنْ كُفْرِهِ وعَلِمَ كُفْرَهُ فَإزالَةُ الكُفْرِ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ قَلْبَ عِلْمِهِ جَهْلًا وخَبَرِهِ الصِّدْقِ كَذِبًا. وأما قوله رابِعًا: إنَّ مُقَدِّمَةَ الآيَةِ وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ الِاعْتِزالِ؛ فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ﴾ يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ. وأما قوله خامِسًا: أنَّهُ تَعالى وصَفَ نَفْسَهُ في آخِرِ الآيَةِ بِكَوْنِهِ حَكِيمًا وذَلِكَ يُنافِي كَوْنَهُ تَعالى خالِقًا لِلْكُفْرِ مُرِيدًا لَهُ. فَنَقُولُ: وقَدْ وصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ عَزِيزًا والعَزِيزُ هو الغالِبُ القاهِرُ، فَلَوْ أرادَ الإيمانَ مِنَ الكافِرِ مَعَ أنَّهُ لا يَحْصُلُ أوْ أرادَ عَمَلَ الكُفْرِ مِنهم وقَدْ حَصَلَ، لَما بَقِيَ عَزِيزًا غالِبًا. فَثَبَتَ أنَّ الوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوها ضَعِيفَةٌ، وأمّا التَّأْوِيلاتُ الثَّلاثَةُ الَّتِي ذَكَرُوها فَقَدْ مَرَّ إبْطالُها في هَذا الكِتابِ مِرارًا فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب