الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي ومَن عَصانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ بِالدَّلائِلِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّهُ لا مَعْبُودَ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ وأنَّهُ لا يَجُوزُ عِبادَةُ غَيْرِهِ تَعالى (p-١٠٤)البَتَّةَ حَكى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مُبالَغَتَهُ في إنْكارِ عِبادَةِ الأوْثانِ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أشْياءَ:
أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ والمُرادُ: مَكَّةُ، ﴿آمِنًا﴾ ذا أمْنٍ.
فَإنْ قِيلَ: أيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: ١٢٦] وبَيْنِ قَوْلِهِ: ﴿اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ ؟
قُلْنا: سَألَ في الأوَّلِ أنْ يَجْعَلَهُ مِن جُمْلَةِ البِلادِ الَّتِي يَأْمَنُ أهْلُها فَلا يَخافُونَ، وفي الثّانِي: أنْ يُزِيلَ عَنْها الصِّفَةَ الَّتِي كانَتْ حاصِلَةً لَها، وهي الخَوْفُ، ويَحْصُلَ لَها ضِدُّ تِلْكَ الصِّفَةِ وهو الأمْنُ، كَأنَّهُ قالَ هو بَلَدٌ مَخُوفٌ فاجْعَلْهُ آمِنًا، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
* * *
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قُرِئَ ﴿واجْنُبْنِي﴾ وفِيهِ ثَلاثُ لُغاتٍ: جَنَبَهُ وأجْنَبَهُ وجَنَّبَهُ. قالَ الفَرّاءُ: أهْلُ الحِجازِ يَقُولُ: جَنَبَنِي يَجْنُبُنِي بِالتَّخْفِيفِ. وأهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: جَنَّبَنِي شَرَّهُ وأجْنَبَنِي شَرَّهُ، وأصْلُهُ جَعْلُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ عَلى جانِبٍ وناحِيَةٍ.
المسألة الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: الإشْكالُ عَلى هَذِهِ الآيَةِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ دَعا رَبَّهُ أنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ آمِنًا، وما قَبِلَ اللَّهِ دُعاءَهُ، لِأنَّ جَماعَةً خَرَّبُوا الكَعْبَةَ وأغارُوا عَلى مَكَّةَ.
وثانِيها: أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لا يَعْبُدُونَ الوَثَنَ البَتَّةَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: اجْنُبْنِي عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ ؟
وثالِثُها: أنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ لا يَجْعَلَ أبْناءَهُ مِن عَبَدَةِ الأصْنامِ، واللَّهُ تَعالى لَمْ يَقْبَلْ دُعاءَهُ، لِأنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ كانُوا مِن أوْلادِهِ، مَعَ أنَّهم كانُوا يَعْبُدُونَ الأصْنامَ.
فَإنْ قالُوا: إنَّهم ما كانُوا أبْناءَ إبْراهِيمَ وإنَّما كانُوا أبْناءَ أبْنائِهِ، والدُّعاءُ مَخْصُوصٌ بِالأبْناءِ، فَنَقُولُ: فَإذا كانَ المُرادُ مِن أُولَئِكَ الأبْناءِ أبْناءَهُ مِن صُلْبِهِ، وهم ما كانُوا إلّا إسْماعِيلَ وإسْحاقَ، وهُما كانا مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ، وقَدْ عُلِمَ أنَّ الأنْبِياءَ لا يَعْبُدُونَ الصَّنَمَ، فَقَدْ عادَ السُّؤالُ في أنَّهُ ما الفائِدَةُ في ذَلِكَ الدُّعاءِ ؟
والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الأوَّلِ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ نُقِلَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا فَرَغَ مِن بِناءِ الكَعْبَةِ ذَكَرَ هَذا الدُّعاءَ، والمُرادُ مِنهُ: جَعْلُ تِلْكَ البَلْدَةِ آمِنَةً مِنَ الخَرابِ.
والثّانِي: أنَّ المُرادَ جَعْلُ أهْلِها آمِنِينَ، كَقَوْلِهِ: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] أيْ أهْلَ القَرْيَةِ، وهَذا الوجه عَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الوجه الأوَّلُ: ما اخْتَصَّتْ بِهِ مَكَّةُ مِن حُصُولِ مَزِيدٍ مِنَ الأمْنِ، وهو أنَّ الخائِفَ كانَ إذا التَجَأ إلى مَكَّةَ أمِنَ، وكانَ النّاسُ مَعَ شِدَّةِ العَداوَةِ بَيْنَهم يَتَلاقَوْنَ بِمَكَّةَ فَلا يَخافُ بَعْضُهم بَعْضًا، ومِن ذَلِكَ أمْنُ الوَحْشِ فَإنَّهم يَقْرَبُونَ مِنَ النّاسِ إذا كانُوا بِمَكَّةَ، ويَكُونُونَ مُسْتَوْحِشِينَ عَنِ النّاسِ خارِجَ مَكَّةَ، فَهَذا النوع مِنَ الأمْنِ حاصِلٌ في مَكَّةَ فَوَجَبَ حَمْلُ الدُّعاءِ عَلَيْهِ.
والوجه الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ أيْ بِالأمْرِ والحكم بِجَعْلِهِ آمِنًا، وذَلِكَ الأمْرُ والحكم حاصِلٌ لا مَحالَةَ.
والجَوابُ: عَنِ السُّؤالِ الثّانِي قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ ثَبِّتْنِي عَلى اجْتِنابِ عِبادَتِها كَما قالَ: ﴿واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] أيْ ثَبِّتْنا عَلى الإسْلامِ.
ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: السُّؤالُ باقٍ لِأنَّهُ لَمّا كانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ تَعالى يُثَبِّتُ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلى (p-١٠٥)الِاجْتِنابِ مِن عِبادَةِ الأصْنامِ فَما الفائِدَةُ في هَذا السُّؤالِ ؟ والصَّحِيحُ عِنْدِي في الجَوابِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وإنْ كانَ يَعْلَمُ أنَّهُ تَعالى يَعْصِمُهُ مِن عِبادَةِ الأصْنامِ إلّا أنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ هَضْمًا لِلنَّفْسِ وإظْهارًا لِلْحاجَةِ والفاقَةِ إلى فَضْلِ اللَّهِ في كُلِّ المَطالِبِ.
والثّانِي: أنَّ الصُّوفِيَّةَ يَقُولُونَ: إنَّ الشِّرْكَ نَوْعانِ: شِرْكٌ جَلِيٌّ وهو الَّذِي يَقُولُ بِهِ المُشْرِكُونَ، وشِرْكٌ خَفِيٌّ وهو تَعْلِيقُ القَلْبِ بِالوَسايِطِ وبِالأسْبابِ الظّاهِرَةِ، والتَّوْحِيدُ المَحْضُ هو أنْ يَنْقَطِعَ نَظَرُهُ عَنِ الوَسايِطِ ولا يَرى مُتَصَرِّفًا سِوى الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ المُرادُ مِنهُ أنْ يَعْصِمَهُ عَنْ هَذا الشِّرْكِ الخَفِيِّ، واللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ.
والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الثّالِثِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قَوْلُهُ ﴿وبَنِيَّ﴾ أرادَ بَنِيهِ مِن صُلْبِهِ، والفائِدَةُ في هَذا الدُّعاءِ عَيْنُ الفائِدَةِ الَّتِي ذَكَرْناها في قَوْلِهِ: ﴿واجْنُبْنِي﴾ .
والثّانِي: قالَ بَعْضُهم: أرادَ مِن أوْلادِهِ وأوْلادِ أوْلادِهِ كُلَّ مَن كانُوا مَوْجُودِينَ حالَ الدُّعاءِ، ولا شُبْهَةَ أنَّ دَعْوَتَهُ مُجابَةٌ فِيهِمْ.
الثّالِثُ: قالَ مُجاهِدٌ: لَمْ يَعْبُدْ أحَدٌ مِن ولَدِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ صَنَمًا، والصَّنَمُ هو التِّمْثالُ المُصَوَّرُ وما لَيْسَ بِمُصَوَّرٍ فَهو وثَنٌ. وكُفّارُ قُرَيْشٍ ما عَبَدُوا التِّمْثالَ، وإنَّما كانُوا يَعْبُدُونَ أحْجارًا مَخْصُوصَةً وأشْجارًا مَخْصُوصَةً، وهَذا الجَوابُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِهَذا الدُّعاءِ إلّا عِبادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى، والحَجَرُ كالصَّنَمِ في ذَلِكَ.
الرّابِعُ: أنَّ هَذا الدُّعاءَ مُخْتَصٌّ بِالمُؤْمِنِينَ مِن أوْلادِهِ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ قالَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي﴾ وذَلِكَ يُفِيدُ أنَّ مَن لَمْ يَتْبَعْهُ عَلى دِينِهِ فَإنَّهُ لَيْسَ مِنهُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى لِنُوحٍ: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ﴾ [هود: ٤٦] .
والخامِسُ: لَعَلَّهُ وإنْ كانَ عَمَّمَ في الدُّعاءِ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى أجابَ دُعاءَهُ في حَقِّ البَعْضِ دُونَ البَعْضِ، وذَلِكَ لا يُوجِبُ تَحْقِيرَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى في حَقِّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا قالَ ومِن ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] .
المسألة الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِقَوْلِهِ: ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ عَلى أنَّ الكُفْرَ والإيمانَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أنْ يَجْنُبَهُ ويَجْنُبَ أوْلادَهُ مِنَ الكُفْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ التَّبْعِيدَ مِنَ الكُفْرِ والتَّقْرِيبَ مِنَ الإيمانِ لَيْسَ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى، وقَوْلُ المُعْتَزِلَةِ إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى الألْطافِ فاسِدٌ، لِأنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ، ولِأنّا قَدْ ذَكَرْنا وُجُوهًا كَثِيرَةً في إفْسادِ هَذا التَّأْوِيلِ.
ثُمَّ حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ: ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ﴾ واتَّفَقَ كُلُّ الفِرَقِ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أضْلَلْنَ﴾ مَجازٌ لِأنَّها جَماداتٌ، والجَمادُ لا يَفْعَلُ شَيْئًا البَتَّةَ، إلّا أنَّهُ لَمّا حَصَلَ الإضْلالُ عِنْدَ عِبادَتِها أُضِيفَ إلَيْها، كَما تَقُولُ: فَتَنَتْهُمُ الدُّنْيا وغَرَّتْهم أيِ افْتُتِنُوا بِها واغْتَرُّوا بِسَبَبِها.
ثم قال: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي﴾ يَعْنِي مَن تَبِعَنِي في دِينِي واعْتِقادِي فَإنَّهُ مِنِّي، أيْ جارٍ مَجْرى بَعْضِي لِفَرْطِ اخْتِصاصِهِ بِي وقُرْبِهِ مِنِّي، ومَن عَصانِي في غَيْرِ الدِّينِ فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَكَرَ هَذا الكَلامَ، والغَرَضُ مِنهُ الشَّفاعَةُ في حَقِّ أصْحابِ الكَبائِرِ مِن أُمَّتِهِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن عَصانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ صَرِيحٌ في طَلَبِ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ لِأُولَئِكَ العُصاةِ. فَنَقُولُ: أُولَئِكَ العُصاةُ إمّا أنْ يَكُونُوا مِنَ الكُفّارِ أوْ لا يَكُونُوا كَذَلِكَ، والأوَّلُ باطِلٌ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيَّنَ في مُقَدِّمَةِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ مُبَرَّأٌ عَنِ الكُفّارِ وهو قَوْلُهُ: ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ وأيْضًا قَوْلُهُ: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي﴾ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلى أنَّ مَن لَمْ يَتْبَعْهُ عَلى دِينِهِ فَإنَّهُ لَيْسَ مِنهُ ولا يَهْتَمُّ بِإصْلاحِ مُهِمّاتِهِ.
والثّانِي: أنَّ الأُمَّةَ (p-١٠٦)مُجْمِعَةٌ عَلى أنَّ الشَّفاعَةَ في إسْقاطِ عِقابِ الكُفْرِ غَيْرُ جائِزَةٍ، ولَمّا بَطَلَ هَذا ثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن عَصانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ شَفاعَةٌ في العُصاةِ الَّذِينَ لا يَكُونُونَ مِنَ الكُفّارِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: تِلْكَ المَعْصِيَةُ إمّا أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّغائِرِ أوْ مِنَ الكَبائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ أوْ مِنَ الكَبائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، والأوَّلُ والثّانِي باطِلانِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن عَصانِي﴾ اللَّفْظُ فِيهِ مُطْلَقٌ فَتَخْصِيصُهُ بِالصَّغِيرَةِ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ، وأيْضًا فالصَّغائِرُ والكَبائِرُ بَعْدَ التَّوْبَةِ واجِبَةُ الغُفْرانِ عِنْدَ الخُصُومِ فَلا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ شَفاعَةٌ في إسْقاطِ العِقابِ عَنْ أهْلِ الكَبائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وإذا ثَبَتَ حُصُولُ هَذِهِ الشَّفاعَةِ في حَقِّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثَبَتَ حُصُولُها في حَقِّ مُحَمَّدٍ ﷺ لِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ.
والثّانِي: وهو أنَّ هَذا المَنصِبَ أعْلى المَناصِبِ فَلَوْ حَصَلَ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ أنَّهُ غَيْرُ حاصِلٍ لِمُحَمَّدٍ ﷺ لَكانَ ذَلِكَ نُقْصانًا في حَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ.
والثّالِثُ: أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِداءِ بِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠]، وقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ فَهَذا وجْهٌ قَرِيبٌ في إثْباتِ الشَّفاعَةِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وفي إسْقاطِ العِقابِ عَنْ أصْحابِ الكَبائِرِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَلْنَذْكُرْ أقْوالَ المُفَسِّرِينَ: قالَ السُّدِّيُّ: مَعْناهُ ومَن عَصانِي ثُمَّ تابَ، وقِيلَ: إنَّ هَذا الدُّعاءَ إنَّما كانَ قَبْلَ أنْ يَعْلَمَ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَغْفِرُ الشِّرْكَ، وقِيلَ: مَن عَصانِي بِإقامَتِهِ عَلى الكُفْرِ فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَعْنِي أنَّكَ قادِرٌ عَلى أنْ تَغْفِرَ لَهُ وتَرْحَمَهُ بِأنْ تَنْقُلَهُ عَنِ الكُفْرِ إلى الإسْلامِ، وقِيلَ: المُرادُ مِن هَذِهِ المَغْفِرَةِ أنْ لا يُعاجِلَهم بِالعِقابِ بَلْ يُمْهِلُهم حَتّى يَتُوبُوا، أوْ يَكُونُ المُرادُ أنْ لا تُعَجِّلَ اخْتِرامَهم فَتَفُوتَهُمُ التَّوْبَةُ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ ضَعِيفَةٌ.
أمّا الأوَّلُ: وهو حَمْلُ هَذِهِ الشَّفاعَةِ عَلى المَعْصِيَةِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ فَقَدْ أبْطَلْناهُ.
وأمّا الثّانِي: وهو قَوْلُهُ: إنَّ هَذِهِ الشَّفاعَةَ إنَّما كانَتْ قَبْلَ أنْ يَعْلَمَ أنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ الشِّرْكَ فَنَقُولُ: هَذا أيْضًا بَعِيدٌ، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ مُقَدِّمَةَ هَذِهِ الآيَةِ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرادُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن هَذا الدُّعاءِ هو الشَّفاعَةَ في إسْقاطِ عِقابِ الكُفْرِ.
وأمّا الثّالِثُ: وهو قَوْلُهُ المُرادُ مِن كَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا أنْ يَنْقُلَهُ مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ فَهو أيْضًا بَعِيدٌ، لِأنَّ المَغْفِرَةَ والرَّحْمَةَ مُشْعِرَةٌ بِإسْقاطِ العِقابِ ولا إشْعارَ فِيهِما بِالنَّقْلِ مِن صِفَةِ الكُفْرِ إلى صِفَةِ الإيمانِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
وأمّا الرّابِعُ: وهو أنْ تُحْمَلَ المَغْفِرَةُ والرَّحْمَةُ عَلى تَعْجِيلِ العِقابِ أوْ تَرْكِ تَعْجِيلِ الإماتَةِ. فَنَقُولُ: هَذا باطِلٌ؛ لِأنَّ كَفّارَ زَمانِنا هَذا أكْثَرُ مِنهم ولَمْ يُعاجِلْهُمُ اللَّهُ تَعالى بِالعِقابِ ولا بِالمَوْتِ مَعَ أنَّ أهْلَ الإسْلامِ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّهم لَيْسُوا مَغْفُورِينَ ولا مَرْحُومِينَ، فَبَطَلَ تَفْسِيرُ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ عَلى تَرْكِ تَعْجِيلِ العِقابِ بِهَذا الوجه، وظَهَرَ بِما ذَكَرْنا صِحَّةُ ما قَرَّرْناهُ مِنَ الدَّلِيلِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":35,"ayahs":["وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِیمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنࣰا وَٱجۡنُبۡنِی وَبَنِیَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ","رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِی فَإِنَّهُۥ مِنِّیۖ وَمَنۡ عَصَانِی فَإِنَّكَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِی فَإِنَّهُۥ مِنِّیۖ وَمَنۡ عَصَانِی فَإِنَّكَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق