الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ ووَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِن عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَياةَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَها عِوَجًا أُولَئِكَ في ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ .
(p-٦٠)فِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ [اللَّهُ] مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ وخَبَرُهُ ما بَعْدَهُ، وقِيلَ التَّقْدِيرُ: هو اللَّهُ، والباقُونَ بِالجَرِّ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ وهاهُنا بَحْثٌ، وهو أنَّ جَماعَةً مِنَ المُحَقِّقِينَ ذَهَبُوا إلى أنَّ قَوْلَنا ”اللَّهُ“ جارٍ مَجْرى الِاسْمِ العَلَمِ لِذاتِ اللَّهِ تَعالى، وذَهَبَ قَوْمٌ آخَرُونَ إلى أنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَقٌّ، والحَقُّ عِنْدَنا هو الأوَّلُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ الِاسْمَ المُشْتَقَّ عِبارَةٌ عَنْ شَيْءٍ ما حَصَلَ لَهُ المُشْتَقُّ مِنهُ، فالأسْوَدُ مَفْهُومُهُ شَيْءٌ ما حَصَلَ لَهُ السَّوادُ، والنّاطِقُ مَفْهُومُهُ شَيْءٌ ما حَصَلَ لَهُ النُّطْقُ، فَلَوْ كانَ قَوْلُنا اللَّهُ اسْمًا مُشْتَقًّا مِن مَعْنًى، لَكانَ المَفْهُومُ مِنهُ أنَّهُ شَيْءٌ ما حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ المُشْتَقُّ مِنهُ، وهَذا المَفْهُومُ كُلِّيٌّ لا يَمْتَنِعُ مِن حَيْثُ هو هو عَنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، فَلَوْ كانَ قَوْلُنا اللَّهُ لَفْظًا مُشْتَقًّا لَكانَ مَفْهُومُهُ صالِحًا لِوُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، ولَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَما كانَ قَوْلُنا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ مُوجِبًا لِلتَّوْحِيدِ؛ لِأنَّ المُسْتَثْنى هو قَوْلُنا: اللَّهُ وهو غَيْرُ مانِعٍ مِن وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، ولَمّا اجْتَمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ قَوْلَنا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ يُوجِبُ التَّوْحِيدَ المَحْضَ، عَلِمْنا أنَّ قَوْلَنا اللَّهُ جارٍ مَجْرى الِاسْمِ العَلَمِ.
الثّانِي: أنَّهُ كُلَّما أرَدْنا أنْ نَذْكُرَ سائِرَ الصِّفاتِ والأسْماءِ ذَكَرْنا أوَّلًا قَوْلَنا: اللَّهُ، ثُمَّ وصَفْناهُ بِسائِرِ الصِّفاتِ، كَقَوْلِنا هو اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القُدُّوسُ، ولا يُمْكِنُنا أنْ نَعْكِسَ الأمْرَ، فَنَقُولُ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ اللَّهُ، فَعَلِمْنا أنَّ اللَّهَ هو اسْمُ عَلَمٍ لِلَّذّاتِ المَخْصُوصَةِ، وسائِرُ الألْفاظِ دالَّةٌ عَلى الصِّفاتِ والنُّعُوتِ.
الثّالِثُ: أنَّ ما سِوى قَوْلِنا اللَّهُ كُلُّها دالَّةٌ، إمّا عَلى الصِّفاتِ السَّلْبِيَّةِ، كَقَوْلِنا: القُدُّوسُ السَّلامُ، أوْ عَلى الصِّفاتِ الإضافِيَّةِ، كَقَوْلِنا الخالِقُ الرّازِقُ أوْ عَلى الصِّفاتِ الحَقِيقِيَّةِ، كَقَوْلِنا: العالِمُ القادِرُ، أوْ عَلى ما يَتَرَكَّبُ مِن هَذِهِ الثَّلاثَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنا: اللَّهُ اسْمًا لِلَّذّاتِ المَخْصُوصَةِ لَكانَ جَمِيعُ أسْماءِ اللَّهِ تَعالى ألْفاظًا دالَّةً عَلى صِفاتِهِ، ولَمْ يَحْصُلْ فِيها ما يَدُلُّ عَلى ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ وذَلِكَ بَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ يَبْعُدُ أنْ لا يَكُونَ لَهُ مِن حَيْثُ إنَّهُ هو اسْمٌ مَخْصُوصٌ.
والرّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٦٥] والمُرادُ هَلْ تَعْلَمُ مَنِ اسْمُهُ اللَّهُ غَيْرَ اللَّهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَنا ”اللَّهُ“ اسْمٌ لِذاتِهِ المَخْصُوصَةِ، وإذا ظَهَرَتْ هَذِهِ المُقَدِّمَةُ، فالتَّرْتِيبُ الحَسَنُ أنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ الصِّفاتِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ﴾ [الحَشْرِ: ٢٤] فَأمّا أنْ يُعْكَسَ فَيُقالَ: هو الخالِقُ المُصَوِّرُ البارِئُ اللَّهُ، فَذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: الَّذِينَ قَرَءُوا: (اللَّهُ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ ) بِالرَّفْعِ أرادُوا أنْ يَجْعَلُوا قَوْلَهُ: (اللَّهُ) مُبْتَدَأً ويَجْعَلُوا ما بَعْدَهُ خَبَرًا عَنْهُ، وهَذا هو الحَقُّ الصَّحِيحُ، فَأمّا الَّذِينَ قَرَءُوا: ﴿اللَّهِ﴾ بِالجَرِّ عَطْفًا عَلى: ﴿العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ فَهو مُشْكِلٌ لِما بَيَّنّا أنَّ التَّرْتِيبَ الحَسَنَ أنْ يُقالَ: اللَّهُ الخالِقُ، وأمّا أنْ يُقالَ: الخالِقُ اللَّهُ فَهَذا لا يَحْسُنُ، وعِنْدَ هَذا اخْتَلَفُوا في الجَوابِ عَلى وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: قالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: القِراءَةُ بِالخَفْضِ عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والتَّقْدِيرُ: صِراطِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ.
والثّانِي: أنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يَذْكُرَ الصِّفَةَ أوَّلًا، ثُمَّ يَذْكُرَ الِاسْمَ ثُمَّ يَذْكُرَ الصِّفَةَ مَرَّةً أُخْرى، كَما يُقالُ: مَرَرْتُ بِالإمامِ الأجَلِّ مُحَمَّدٍ الفَقِيهِ، وهو بِعَيْنِهِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ﴾ وتَحْقِيقُ القَوْلِ فِيهِ: أنّا بَيَّنّا أنَّ الصِّراطَ إنَّما يَكُونُ مَمْدُوحًا مَحْمُودًا إذا كانَ صِراطًا لِلْعالِمِ القادِرِ الغَنِيِّ، واللَّهُ تَعالى عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ هَذا المَعْنى وقَعَتِ الشُّبْهَةُ في أنَّ ذَلِكَ العَزِيزَ مَن هُوَ؟ فَعَطَفَ عَلَيْها قَوْلَهُ: ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ إزالَةً لِتِلْكَ الشُّبْهَةِ.
الثّالِثُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: اللَّهُ عَطْفُ بَيانٍ لِلْعَزِيزِ الحَمِيدِ، وتَحْقِيقُ هَذا القَوْلِ ما قَرَّرْناهُ فِيما تَقَدَّمَ.
الرّابِعُ: قَدْ ذَكَرْنا في أوَّلِ هَذا الكِتابِ أنَّ قَوْلَنا: اللَّهُ (p-٦١)فِي أصْلِ الوَضْعِ مُشْتَقٌّ، إلّا أنَّهُ بِالعُرْفِ صارَ جارِيًا مَجْرى الِاسْمِ العَلَمِ، فَحَيْثُ يُبْدَأُ بِذِكْرِهِ ويُعْطَفُ عَلَيْهِ سائِرُ الصِّفاتِ، فَذَلِكَ لِأجْلِ أنَّهُ جُعِلَ اسْمَ عَلَمٍ، وأمّا في هَذِهِ الآيَةِ حَيْثُ جُعِلَ وصْفًا لِلْعَزِيزِ الحَمِيدِ، فَذاكَ لِأجْلِ أنَّهُ حُمِلَ عَلى كَوْنِهِ لَفْظًا مُشْتَقًّا فَلا جَرَمَ بَقِيَ صِفَةً.
الخامِسُ: أنَّ الكُفّارَ رُبَّما وصَفُوا الوَثَنَ بِكَوْنِهِ عَزِيزًا حَمِيدًا، فَلَمّا قالَ: ﴿لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ بَقِيَ في خاطِرِ عَبَدَةِ الأوْثانِ أنَّهُ رُبَّما كانَ ذَلِكَ العَزِيزُ الحَمِيدُ هو الوَثَنَ، فَأزالَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الشُّبْهَةَ، وقالَ: ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ أيِ المُرادُ مِن ذَلِكَ العَزِيزِ الحَمِيدِ هو اللَّهُ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ.
* * *
المسألة الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِجِهَةِ العُلُوِّ البَتَّةَ، وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ ما سَماكَ وعَلاكَ فَهو سَماءٌ، فَلَوْ حَصَلَ ذاتُ اللَّهِ تَعالى في جِهَةِ فَوْقُ، لَكانَ حاصِلًا في السَّماءِ، وهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ كُلَّ ما في السَّماواتِ فَهو مِلْكُهُ، فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ وهو مُحالٌ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الحُصُولِ في جِهَةِ فَوْقُ.
المسألة الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى خالِقٌ لِأعْمالِ العِبادِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ وأعْمالُ العِبادِ حاصِلَةٌ في السَّماواتِ والأرْضِ فَوَجَبَ القَوْلُ بِأنَّ أفْعالَ العِبادِ لَهُ بِمَعْنى كَوْنِها مَمْلُوكَةً لَهُ، والمِلْكُ عِبارَةٌ عَنِ القُدْرَةِ فَوَجَبَ كَوْنُها مَقْدُورَةً لِلَّهِ تَعالى، وإذا ثَبَتَ أنَّها مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعالى وجَبَ وُقُوعُها بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، وإلّا لَكانَ العَبْدُ قَدْ مَنَعَ اللَّهَ تَعالى مِن إيقاعِ مَقْدُورِهِ، وذَلِكَ مُحالٌ.
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، والمَعْنى أنَّ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ لَهُ لا لِغَيْرِهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا مالِكَ إلّا اللَّهُ ولا حاكِمَ إلّا اللَّهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ ذَلِكَ عَطَفَ عَلى الكُفّارِ بِالوَعِيدِ، فَقالَ: ﴿ووَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِن عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ والمَعْنى: أنَّهم لَمّا تَرَكُوا عِبادَةَ اللَّهِ تَعالى الَّذِي هو المالِكُ لِلسَّماواتِ والأرْضِ ولِكُلِّ ما فِيهِما إلى عِبادَةِ ما لا يَمْلِكُ ضَرًّا ولا نَفْعًا ويُخْلَقُ ولا يَخْلُقُ، ولا إدْراكَ لَها ولا فِعْلَ، فالوَيْلُ ثُمَّ الوَيْلُ لِمَن كانَ كَذَلِكَ، وإنَّما خُصَّ هَؤُلاءِ بِالوَيْلِ؛ لِأنَّ المَعْنى: يُوَلْوِلُونَ مِن عَذابٍ شَدِيدٍ ويَصِيحُونَ مِنهُ ويَقُولُونَ يا ويْلاهُ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾ [الفُرْقانِ: ١٣] .
* * *
ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى صِفَةَ هَؤُلاءِ الكافِرِينَ الَّذِينَ تَوَعَّدَهم بِالوَيْلِ الَّذِي يُفِيدُ أعْظَمَ العَذابِ وذَكَرَ مِن صِفاتِهِمْ ثَلاثَةَ أنْواعٍ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَياةَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ ”الَّذِينَ“ صِفَةَ الكافِرِينَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً وجَعَلْتَ الخَبَرَ قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ﴾ وإنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلى الذَّمِّ.
المسألة الثّانِيَةُ: الِاسْتِحْبابُ طَلَبُ مُحِبَّةِ الشَّيْءِ، وأقُولُ: إنَّ الإنْسانَ قَدْ يُحِبُّ الشَّيْءَ ولَكِنَّهُ لا يُحِبُّ كَوْنَهُ مُحِبًّا لِذَلِكَ الشَّيْءِ، مِثْلَ مَن يَمِيلُ طَبْعُهُ إلى الفِسْقِ والفُجُورِ، ولَكِنَّهُ يَكْرَهُ كَوْنَهُ مُحِبًّا لَهُما، أمّا إذا أحَبَّ الشَّيْءَ وطَلَبَ كَوْنَهُ مُحِبًّا لَهُ، وأحَبَّ تِلْكَ المَحَبَّةَ، فَهَذا هو نِهايَةُ المَحَبَّةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِمْ في نِهايَةِ المَحَبَّةِ لِلْحَياةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ولا يَكُونُ الإنْسانُ كَذَلِكَ إلّا إذا كانَ غافِلًا عَنِ الحَياةِ الأُخْرَوِيَّةِ، وعَنْ مَعايِبِ هَذِهِ الحَياةِ العاجِلَةِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ في نِهايَةِ الصِّفاتِ المَذْمُومَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الحَياةَ مَوْصُوفَةٌ بِأنْواعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ العُيُوبِ:
فَأحَدُها: أنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الحَياةِ انْفَتَحَتْ أبْوابُ الآلامِ والأسْقامِ (p-٦٢)والغُمُومِ والهُمُومِ والمَخاوِفِ والأحْزانِ.
وثانِيها: أنَّ هَذِهِ اللَّذّاتِ في الحَقِيقَةِ لا حاصِلَ لَها إلّا دَفْعُ الآلامِ، بِخِلافِ اللَّذّاتِ الرُّوحانِيَّةِ، فَإنَّها في أنْفُسِها لَذّاتٌ وسَعاداتٌ.
وثالِثُها: أنَّ سَعاداتِ هَذِهِ الحَياةِ مُنَغَّصَةٌ بِسَبَبِ الِانْقِطاعِ والِانْقِراضِ والِانْقِضاءِ.
ورابِعُها: أنَّها حَقِيرَةٌ قَلِيلَةٌ، وبِالجُمْلَةِ فَلا يُحِبُّ هَذِهِ الحَياةَ إلّا مَن كانَ غافِلًا عَنْ مَعايِبِها وكانَ غافِلًا عَنْ فَضائِلِ الحَياةِ الرُّوحانِيَّةِ الأُخْرَوِيَّةِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿والآخِرَةُ خَيْرٌ وأبْقى﴾ [الأعْلى: ١٧] فَهَذِهِ الكَلِمَةُ جامِعَةٌ لِكُلِّ ما ذَكَرْناهُ.
* * *
المسألة الثّالِثَةُ: إنَّما قالَ: ﴿يَسْتَحِبُّونَ الحَياةَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ﴾ لِأنَّ فِيهِ إضْمارًا، والتَّقْدِيرُ: يَسْتَحِبُّونَ الحَياةَ الدُّنْيا ويُؤْثِرُونَها عَلى الآخِرَةِ، فَجَمَعَ تَعالى بَيْنَ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أنَّ الِاسْتِحْبابَ لِلدُّنْيا وحْدَهُ لا يَكُونُ مَذْمُومًا إلّا بَعْدَ أنْ يُضافَ إلَيْهِ إيثارُها عَلى الآخِرَةِ، فَأمّا مَن أحَبَّها لِيَصِلَ بِها إلى مَنافِعِ النَّفْسِ وإلى خَيْراتِ الآخِرَةِ، فَإنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ مَذْمُومًا حَتّى إذا آثَرَها عَلى آخِرَتِهِ بِأنِ اخْتارَ مِنها ما يَضُرُّهُ في آخِرَتِهِ، فَهَذِهِ المَحَبَّةُ هي المَحَبَّةُ المَذْمُومَةُ.
النوع الثّانِي: مِنَ الصِّفاتِ الَّتِي وصَفَ اللَّهُ الكُفّارَ بِها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ مَن كانَ مَوْصُوفًا بِاسْتِحْبابِ الدُّنْيا فَهو ضالٌّ، ومَن مَنَعَ الغَيْرَ مِنَ الوُصُولِ إلى سَبِيلِ اللَّهِ ودِينِهِ فَهو مُضِلٌّ، فالمَرْتَبَةُ الأُولى إشارَةٌ إلى كَوْنِهِمْ ضالِّينَ، وهَذِهِ المَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ وهي كَوْنُهم صادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِمْ مُضِلِّينَ.
والنوع الثّالِثُ مِن تِلْكَ الصِّفاتِ قَوْلُهُ: ﴿ويَبْغُونَها عِوَجًا﴾ واعْلَمْ أنَّ الإضْلالَ عَلى مَرْتَبَتَيْنِ:
المَرْتَبَةُ الأُولى: أنَّهُ يَسْعى في صَدِّ الغَيْرِ ومَنعِهِ مِنَ الوُصُولِ إلى المَنهَجِ القَوِيمِ والصِّراطِ المُسْتَقِيمِ.
والمَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ: أنْ يَسْعى في إلْقاءِ الشُّكُوكِ والشُّبَهاتِ في المَذْهَبِ الحَقِّ، ويُحاوِلَ تَقْبِيحَ صِفَتِهِ بِكُلِّ ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الحِيَلِ، وهَذا هو النِّهايَةُ في الضَّلالِ والإضْلالِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ويَبْغُونَها عِوَجًا﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الأصْلُ في الكَلامِ أنْ يُقالَ: ويَبْغُونَ لَها عِوَجًا، فَحُذِفَ الجارُّ وأُوصِلَ الفِعْلُ، ولَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ المَراتِبَ الثَّلاثَةَ لِأحْوالِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ قالَ في صِفَتِهِمْ: ﴿أُولَئِكَ في ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ ] وإنَّما وُصِفَ هَذا الضَّلالُ بِالبُعْدِ لِوُجُوهٍ:
الوجه الأوَّلُ: أنّا بَيَّنّا أنَّ أقْصى مَراتِبِ الضَّلالِ هو الَّذِي وصَفَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ المَرْتَبَةِ، فَهَذِهِ المَرْتَبَةُ في غايَةِ البُعْدِ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ، فَإنَّ شَرْطَ الضِّدَّيْنِ أنْ يَكُونا في غايَةِ التَّباعُدِ، مِثْلَ السَّوادِ والبَياضِ، فَكَذا هاهُنا الضَّلالُ الَّذِي يَكُونُ واقِعًا عَلى هَذا الوجه يَكُونُ في غايَةِ البُعْدِ عَنِ الحَقِّ، فَإنَّهُ لا يُعْقَلُ ضَلالٌ أقْوى وأكْمَلُ مِن هَذا الضَّلالِ.
والوجه الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنْ يَبْعُدَ رَدُّهم عَنْ طَرِيقَةِ الضَّلالِ إلى الهُدى؛ لِأنَّهُ قَدْ تَمَكَّنَ ذَلِكَ في نُفُوسِهِمْ.
والوجه الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الضَّلالِ الهَلاكَ، والتَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ في هَلاكٍ يَطُولُ عَلَيْهِمْ فَلا يَنْقَطِعُ، وأرادَ بِالبُعْدِ امْتِدادَهُ وزَوالَ انْقِطاعِهِ.
{"ayahs_start":2,"ayahs":["ٱللَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَوَیۡلࣱ لِّلۡكَـٰفِرِینَ مِنۡ عَذَابࣲ شَدِیدٍ","ٱلَّذِینَ یَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَیَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلِۭ بَعِیدࣲ"],"ayah":"ٱلَّذِینَ یَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَیَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلِۭ بَعِیدࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق