الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وأحَلُّوا قَوْمَهم دارَ البَوارِ﴾ ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرارُ﴾ ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى عادَ إلى وصْفِ أحْوالِ الكُفّارِ في هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ نَزَلَ في أهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ أسْكَنَهُمُ اللَّهُ تَعالى حَرَمَهُ الآمِنَ وجَعَلَ عَيْشَهم في السَّعَةِ، وبَعَثَ فِيهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ فَلَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنْواعًا مِنَ الأعْمالِ القَبِيحَةِ. النوع الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَّلُوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْرًا؛ لِأنَّهُ لَمّا وجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّكْرُ بِسَبَبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ أتَوْا بِالكُفْرِ، فَكَأنَّهم غَيَّرُوا الشُّكْرَ إلى الكُفْرِ وبَدَّلُوهُ تَبْدِيلًا. والثّانِي: أنَّهم بَدَّلُوا نَفْسَ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْرًا لِأنَّهم لَمّا كَفَرُوا سَلَبَ اللَّهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ عَنْهم فَبَقِيَ الكُفْرُ مَعَهم بَدَلًا مِنَ النِّعْمَةِ. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالرَّسُولِ والقُرْآنِ فاخْتارُوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ. والنوع الثّانِي: مِمّا حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهم قَوْلُهُ: ﴿وأحَلُّوا قَوْمَهم دارَ البَوارِ﴾ وهو الهَلاكُ، يُقالُ: رَجُلٌ بائِرٌ وقَوْمٌ بُورٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح: ١٢] وأرادَ بِدارِ البَوارِ جَهَنَّمَ بِدَلِيلِ أنَّهُ فَسَّرَها بِجَهَنَّمَ فَقالَ: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرارُ﴾ أيِ المَقَرُّ وهو مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ. النوع الثّالِثُ مِن أعْمالِهِمُ القَبِيحَةِ قَوْلُهُ: ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهم أنَّهم بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ذَكَرَ أنَّهم بَعْدَ أنْ كَفَرُوا بِاللَّهِ جَعَلُوا لَهُ أنْدادًا، والمُرادُ مِن هَذا الجَعْلِ الحكم والِاعْتِقادُ والقَوْلُ، والمُرادُ مِنَ الأنْدادِ الأشْباهُ والشُّرَكاءُ، وهَذا الشَّرِيكُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهم جَعَلُوا لِلْأصْنامِ حَظًّا فِيما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: هَذا لِلَّهِ وهَذا لِشُرَكائِنا. وثانِيها؛ أنَّهم شَرِكُوا بَيْنَ الأصْنامِ وبَيْنَ خالِقِ العالَمِ في العُبُودِيَّةِ. وثالِثُها: أنَّهم كانُوا يُصَرِّحُونَ بِإثْباتِ الشُّرَكاءِ لِلَّهِ، وهو قَوْلُهم في الحَجِّ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكٌ هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ. (p-٩٨)المسألة الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: ”لِيَضِلُّوا“ بِفَتْحِ الياءِ مِن ضَلَّ يَضِلُّ والباقُونَ بِضَمِّ الياءِ مِن أضَلَّ غَيْرَهُ يُضِلُّ. المسألة الثّالِثَةُ: اللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ لامُ العاقِبَةِ لِأنَّ عِبادَةَ الأوْثانِ سَبَبٌ يُؤَدِّي إلى الضَّلالِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لامَ كَيْ؛ أيِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الوَثَنَ كَيْ يُضِلُّوا غَيْرَهم، هَذا إذا قُرِئَ بِالضَّمِّ فَإنَّهُ يَحْتَمِلُ الوجه يْنِ، وإذا قُرِئَ بِالنَّصْبِ فَلا يَحْتَمِلُ إلّا لامَ العاقِبَةِ لِأنَّهم لَمْ يُرِيدُوا ضَلالَ أنْفُسِهِمْ. وتَحْقِيقُ القَوْلِ في لامِ العاقِبَةِ: أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الشَّيْءِ لا يَحْصُلُ إلّا في آخِرِ المَراتِبِ كَما قِيلَ: أوَّلُ الفِكْرِ آخِرُ العَمَلِ. وكُلُّ ما حَصَلَ في العاقِبَةِ كانَ شَبِيهًا بِالأمْرِ المَقْصُودِ في هَذا المَعْنى، والمُشابَهَةُ أحَدُ الأُمُورِ المُصَحِّحَةِ لِحُسْنِ المَجازِ، فَلِهَذا السَّبَبِ حَسُنَ ذِكْرُ اللّامِ في العاقِبَةِ. ولَمّا حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهم هَذِهِ الأنْواعَ الثَّلاثَةَ مِنَ الأعْمالِ القَبِيحَةِ قالَ: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ﴾ والمُرادُ أنَّ حالَ الكافِرِ في الدُّنْيا كَيْفَ كانَتْ، فَإنَّها بِالنِّسْبَةِ إلى ما سَيَصِلُ إلَيْهِ مِنَ العِقابِ في الآخِرَةِ تَمَتُّعٌ ونَعِيمٌ، فَلِهَذا المَعْنى قالَ: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ﴾ . وأيْضًا إنَّ هَذا الخِطابَ مَعَ الَّذِينَ حَكى اللَّهُ عَنْهم أنَّهم بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا فَأُولَئِكَ كانُوا في الدُّنْيا في نِعَمٍ كَثِيرَةٍ فَلا جَرَمَ حَسُنَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ﴾ وهَذا الأمْرُ يُسَمّى أمْرَ التَّهْدِيدِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] وكَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِن أصْحابِ النّارِ﴾ [الزمر: ٨] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب