الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنّا كُنّا لَكم تَبَعًا فَهَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا مِن عَذابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانا اللَّهُ لَهَدَيْناكم سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا ما لَنا مِن مَحِيصٍ﴾ . (p-٨٥)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أصْنافَ عَذابِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أنَّ أعْمالَهم تَصِيرُ مُحْبَطَةً باطِلَةً، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ كَيْفِيَّةَ خَجالَتِهِمْ عِنْدَ تَمَسُّكِ أتْباعِهِمْ وكَيْفِيَّةَ افْتِضاحِهِمْ عِنْدَهم. وهَذا إشارَةٌ إلى العَذابِ الرُّوحانِيِّ الحاصِلِ بِسَبَبِ الفَضِيحَةِ والخَجالَةِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: بَرَزَ: مَعْناهُ في اللُّغَةِ ظَهَرَ بَعْدَ الخَفاءِ. ومِنهُ يُقالُ لِلْمَكانِ الواسِعِ: البَرازُ لِظُهُورِهِ، وقِيلَ في قَوْلِهِ: ﴿وتَرى الأرْضَ بارِزَةً﴾ [الكهف: ٤٧] أيْ ظاهِرَةً لا يَسْتُرُها شَيْءٌ، وامْرَأةٌ بَرْزَةٌ إذا كانَتْ تَظْهَرُ لِلنّاسِ. ويُقالُ: بَرَزَ فُلانٌ عَلى أقْرانِهِ إذا فاقَهم وسَبَقَهم، وأصْلُهُ في الخَيْلِ إذا سَبَقَ أحَدُها قِيلَ: بَرَزَ عَلَيْها كَأنَّهُ خَرَجَ مِن غِمارِها فَظَهَرَ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: هَهُنا أبْحاثٌ: البحث الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿وبَرَزُوا﴾ ورَدَ بِلَفْظِ الماضِي وإنْ كانَ مَعْناهُ الِاسْتِقْبالَ؛ لِأنَّ كُلَّ ما أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَهو صِدْقٌ وحَقٌّ، فَصارَ كَأنَّهُ قَدْ حَصَلَ ودَخَلَ في الوُجُودِ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿ونادى أصْحابُ النّارِ أصْحابَ الجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٥٠] . البحث الثّانِي: قَدْ ذَكَرْنا أنَّ البُرُوزَ في اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ الظُّهُورِ بَعْدَ الِاسْتِتارِ وهَذا في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، فَلا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وهو مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهم كانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنَ العُيُونِ عِنْدَ ارْتِكابِ الفَواحِشِ ويَظُنُّونَ أنَّ ذَلِكَ خافٍ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ انْكَشَفُوا لِلَّهِ تَعالى عِنْدَ أنْفُسِهِمْ وعَلِمُوا أنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ. الثّانِي: أنَّهم خَرَجُوا مِن قُبُورِهِمْ فَبَرَزُوا لِحِسابِ اللَّهِ وحُكْمِهِ. الثّالِثُ - وهو تَأْوِيلُ الحُكَماءِ -: أنَّ النَّفْسَ إذا فارَقَتِ الجَسَدَ فَكَأنَّهُ زالَ الغِطاءُ والوِطاءُ وبَقِيَتْ مُتَجَرِّدَةً بِذاتِها عارِيَةً عَنْ كُلِّ ما سِواها وذَلِكَ هو البُرُوزُ لِلَّهِ. البحث الثّالِثُ: قالَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ: قَوْلُهُ: ﴿وبَرَزُوا لِلَّهِ﴾ هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ في الآيَةِ السّابِقَةِ: ﴿ومِن ورائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ﴾ . واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وبَرَزُوا لِلَّهِ﴾ قَرِيبٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ﴾ ﴿فَما لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا ناصِرٍ﴾ [الطارق: ٩، ١٠] وذَلِكَ لِأنَّ البَواطِنَ تَظْهَرُ في ذَلِكَ اليَوْمِ والأحْوالَ الكامِنَةَ تَنْكَشِفُ فَإنْ كانُوا مِنَ السُّعَداءِ بَرَزُوا لِلْحاكِمِ الحَكِيمِ بِصِفاتِهِمُ القُدُسِيَّةِ، وأحْوالِهِمُ العُلْوِيَّةِ، ووُجُوهِهِمُ المُشْرِقَةِ، وأرْواحِهِمُ الصّافِيَةِ المُسْتَنِيرَةِ فَيَتَجَلّى لَها نُورُ الجَلالِ؛ ويَعْظُمُ فِيها إشْراقُ عالَمِ القُدُسِ، فَما أجَلَّ تِلْكَ الأحْوالَ. وإنْ كانُوا مِنَ الأشْقِياءِ بَرَزُوا لِمَوْقِفِ العَظَمَةِ، ومَنازِلِ الكِبْرِياءِ ذَلِيلِينَ مَهِينِينَ خاضِعِينَ خاشِعِينَ واقِعِينَ في خِزْيِ الخَجالَةِ، ومَذَلَّةِ الفَضِيحَةِ، ومَوْقِفِ المَهانَةِ والفَزَعِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنها. ثُمَّ حَكى اللَّهُ تَعالى أنَّ الضُّعَفاءَ يَقُولُونَ لِلرُّؤَساءِ: هَلْ تَقْدِرُونَ عَلى دَفْعِ عَذابِ اللَّهِ عَنّا ؟ والمَعْنى: أنَّهُ إنَّما اتَّبَعْناكم لِهَذا اليَوْمِ، ثُمَّ إنَّ الرُّؤَساءَ يَعْتَرِفُونَ بِالخِزْيِ والعَجْزِ والذُّلِّ، قالُوا: ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا ما لَنا مِن مَحِيصٍ﴾ ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ اعْتِرافَ الرُّؤَساءِ والسّادَةِ والمَتْبُوعِينَ بِمِثْلِ هَذا العَجْزِ والخِزْيِ والنَّكالِ يُوجِبُ الخَجالَةَ العَظِيمَةَ والخِزْيَ الكامِلَ التّامَّ، فَكانَ المَقْصُودُ مَن ذِكْرِ هَذِهِ الآيَةِ: اسْتِيلاءَ عَذابِ الفَضِيحَةِ والخَجالَةِ والخِزْيِ عَلَيْهِمْ مَعَ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن سائِرِ وُجُوهِ أنْواعِ العَذابِ والعِقابِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنها. واللَّهُ أعْلَمُ. (p-٨٦)المسألة الثّانِيَةُ: كَتَبُوا ”الضُّعَفاؤُ“ بِواوٍ قَبْلَ الهَمْزَةِ في بَعْضِ المَصاحِفِ، والسَّبَبُ فِيهِ أنَّهُ كُتِبَ عَلى لَفْظِ مَن يُفَخِّمُ الألِفَ قَبْلَ الهَمْزَةِ فَيُمِيلُها إلى الواوِ، ونَظِيرُهُ ”عُلَماؤُ بَنِي إسْرائِيلَ“ . المسألة الثّالِثَةُ: الضُّعَفاءُ الأتْباعُ والعَوامُّ، والَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هُمُ السّادَةُ والكُبَراءُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُرادُ أكابِرُهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى: ﴿إنّا كُنّا لَكم تَبَعًا﴾ أيْ في الدُّنْيا. قالَ الفَرّاءُ وأكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ: التَّبَعُ تابِعٌ مِثْلُ خادِمٍ وخَدَمٍ وباقِرٍ وبَقَرٍ وحارِسٍ وحَرَسٍ وراصِدٍ ورَصَدٍ. قالَ الزَّجّاجُ: وجائِزٌ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا سُمِّيَ بِهِ، أيْ كُنّا ذَوِي تَبَعٍ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ التَّبَعِيَّةَ يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: المُرادُ مِنها التَّبَعِيَّةُ في الكُفْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنها التَّبَعِيَّةَ في أحْوالِ الدُّنْيا: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا مِن عَذابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ هَلْ يُمْكِنُكم دَفْعُ عَذابِ اللَّهِ عَنّا. فَإنْ قِيلَ: فَما الفَرْقُ بَيْنَ مِن في قَوْلِهِ: ﴿مِن عَذابِ اللَّهِ﴾ وبَيْنَهُ في قَوْلِهِ: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ . قُلْنا: كِلاهُما لِلتَّبْعِيضِ بِمَعْنى: هَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا بَعْضَ شَيْءٍ هو عَذابُ اللَّهِ ؟ أيْ بَعْضُ عَذابِ اللَّهِ، وعِنْدَ هَذا حَكى اللَّهُ تَعالى عَنِ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أنَّهم قالُوا: ﴿لَوْ هَدانا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَعْناهُ لَوْ أرْشَدَنا اللَّهُ لَأرْشَدْناكم، قالَ الواحِدِيُّ: مَعْناهُ أنَّهم إنَّما دَعَوْهم إلى الضَّلالِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أضَلَّهم ولَمْ يَهْدِهِمْ فَدَعَوْا أتْباعَهم إلى الضَّلالِ ولَوْ هَداهم لَدَعَوْهم إلى الهُدى. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: لَعَلَّهم قالُوا ذَلِكَ مَعَ أنَّهم كَذَبُوا فِيهِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنِ المُنافِقِينَ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ [المجادلة: ١٨] . واعْلَمْ أنَّ المُعْتَزِلَةَ لا يُجَوِّزُونَ صُدُورَ الكَذِبِ عَنْ أهْلِ القِيامَةِ فَكانَ هَذا القَوْلُ مِنهُ مُخالِفًا لِأُصُولِ مَشايِخِهِ فَلا يُقْبَلُ مِنهُ. الثّانِي: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لَوْ كُنّا مِن أهْلِ اللُّطْفُ فَلَطَفَ بِنا رَبُّنا واهْتَدَيْنا لَهَدَيْناكم إلى الإيمانِ. وذَكَرَ القاضِي هَذا الوجه وزَيْفَهُ بِأنْ قالَ: لا يَجُوزُ حَمْلُ هَذا عَلى اللُّطْفِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى. والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ المَعْنى لَوْ خَلَّصَنا اللَّهُ مِنَ العِقابِ وهَدانا إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ لَهَدَيْناكم، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الهُدى هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ أنَّ هَذا هو الَّذِي التَمَسُوهُ وطَلَبُوهُ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الهِدايَةِ هَذا المَعْنى. ثم قال: ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا﴾ أيْ مُسْتَوٍ عَلَيْنا الجَزَعُ والصَّبْرُ، والهَمْزَةُ وأمْ لِلتَّسْوِيَةِ، ونَظِيرُهُ: ﴿فاصْبِرُوا أوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الطور: ١٦] ثم قال وا: ﴿ما لَنا مِن مَحِيصٍ﴾ أيْ مَنجًى ومَهْرَبٍ، والمَحِيصُ قَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا كالمَغِيبِ والمَشِيبِ، ومَكانًا كالمَبِيتِ والمَضِيقِ، ويُقالُ: حاصَ عَنْهُ وحاضَ بِمَعْنًى واحِدٍ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب