الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَتْ رُسُلُهم أفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ يَدْعُوكم لِيَغْفِرَ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُؤَخِّرَكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إنْ أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ لَمّا قالُوا لِلرُّسُلِ: ﴿وإنّا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ . قالَتْ رُسُلُهم: وهَلْ تَشُكُّونَ في اللَّهِ، وفي كَوْنِهِ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ وفاطِرًا لِأنْفُسِنا وأرْواحِنا وأرْزاقِنا وجَمِيعِ مَصالِحِنا ؟ وإنّا لا نَدْعُوكم إلّا إلى عِبادَةِ هَذا الإلَهِ المُنْعِمِ، ولا نَمْنَعُكم إلّا عَنْ عِبادَةِ غَيْرِهِ. وهَذِهِ المَعانِي يَشْهَدُ صَرِيحُ العَقْلِ بِصِحَّتِها، فَكَيْفَ قُلْتُمْ: ﴿وإنّا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ ؟ وهَذا النَّظْمُ في غايَةِ الحُسْنِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿أفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، فَلَمّا ذَكَرَ هَذا المَعْنى أرْدَفَهُ بِالدَّلالَةِ الدّالَّةِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ المُخْتارِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا في هَذا الكِتابِ أنَّ وُجُودَ السَّماواتِ والأرْضِ كَيْفَ يَدُلُّ عَلى احْتِياجِهِ إلى الصّانِعِ المُخْتارِ الحَكِيمِ مِرارًا وأطْوارًا فَلا نُعِيدُها هَهُنا.
المسألة الثّانِيَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: أُدْخِلَتْ هَمْزَةُ الإنْكارِ عَلى الظَّرْفِ؛ لِأنَّ الكَلامَ لَيْسَ في الشَّكِّ إنَّما هو في أنَّ وُجُودَ اللَّهِ تَعالى لا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ، وأقُولُ: مِنَ النّاسِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ قَبْلَ الوُقُوفِ عَلى الدَّلائِلِ الدَّقِيقَةِ فالفِطْرَةُ شاهِدَةٌ بِوُجُودِ الصّانِعِ المُخْتارِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ الفِطْرَةَ الأوَّلِيَّةَ شاهِدَةٌ بِذَلِكَ وُجُوهٌ:
الوجه الأوَّلُ: قالَ بَعْضُ العُقَلاءِ: إنَّ مَن لَطَمَ عَلى وجْهِ صَبِيٍّ لَطْمَةً فَتِلْكَ اللَّطْمَةُ تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الصّانِعِ وعَلى حُصُولِ التَّكْلِيفِ وعَلى وُجُوبِ دارِ الجَزاءِ وعَلى وُجُوبِ النَّبِيِّ، أمّا دَلالَتُها عَلى وُجُودِ (p-٧٣)الصّانِعِ المُخْتارِ، فَلِأنَّ الصَّبِيَّ العاقِلَ إذا وقَعَتِ اللَّطْمَةُ عَلى وجْهِهِ يَصِيحُ ويَقُولُ: مَنِ الَّذِي ضَرَبَنِي ؟ وما ذاكَ إلّا أنَّ شَهادَةَ فِطْرَتِهِ تَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّطْمَةَ لَمّا حَدَثَتْ بَعْدَ عَدَمِها وجَبَ أنْ يَكُونَ حُدُوثُها لِأجْلِ فاعِلٍ فَعَلَها، ولِأجْلِ مُخْتارٍ أدْخَلَها في الوُجُودِ فَلَمّا شَهِدَتِ الفِطْرَةُ الأصْلِيَّةُ بِافْتِقارِ ذَلِكَ الحادِثِ مَعَ قِلَّتِهِ وحَقارَتِهِ إلى الفاعِلِ فَبِأنْ تَشْهَدَ بِافْتِقارِ جَمِيعِ حَوادِثِ العالَمِ إلى الفاعِلِ كانَ أوْلى، وأمّا دَلالَتُها عَلى وُجُوبِ التَّكْلِيفِ، فَلِأنَّ ذَلِكَ الصَّبِيَّ يُنادِي ويَصِيحُ ويَقُولُ: لِمَ ضَرَبَنِي ذَلِكَ الضّارِبُ ؟ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ فِطْرَتَهُ شَهِدَتْ بِأنَّ الأفْعالَ الإنْسانِيَّةَ داخِلَةٌ تَحْتَ الأمْرِ والنَّهْيِ ومُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وأنَّ الإنْسانَ ما خُلِقَ حَتّى يَفْعَلَ أيَّ فِعْلٍ شاءَ واشْتَهى، وأمّا دَلالَتُها عَلى وُجُوبِ حُصُولِ دارِ الجَزاءِ فَهو أنَّ ذَلِكَ الصَّبِيَّ يَطْلُبُ الجَزاءَ عَلى تِلْكَ اللَّطْمَةِ وما دامَ يُمْكِنُهُ طَلَبُ ذَلِكَ الجَزاءِ فَإنَّهُ لا يَتْرُكُهُ، فَلَمّا شَهِدَتِ الفِطْرَةُ الأصْلِيَّةُ بِوُجُوبِ الجَزاءِ عَلى ذَلِكَ العَمَلِ القَلِيلِ فَبِأنْ تَشْهَدَ عَلى وُجُوبِ الجَزاءِ عَلى جَمِيعِ الأعْمالِ كانَ أوْلى، وأمّا دَلالَتُها عَلى وُجُوبِ النُّبُوَّةِ فَلِأنَّهم يَحْتاجُونَ إلى إنْسانٍ يُبَيِّنُ لَهم أنَّ العُقُوبَةَ الواجِبَةَ عَلى ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ الجِنايَةِ كَمْ هي ؟ ولا مَعْنى لِلنَّبِيِّ إلّا الإنْسانُ الَّذِي يُقَدِّرُ هَذِهِ الأُمُورَ ويُبَيِّنُ لَهم هَذِهِ الأحْكامَ، فَثَبَتَ أنَّ فِطْرَةَ العَقْلِ حاكِمَةٌ بِأنَّ الإنْسانَ لا بُدَّ لَهُ مِن هَذِهِ الأُمُورِ الأرْبَعَةِ.
الوجه الثّانِي: في التَّنْبِيهِ عَلى أنَّ الإقْرارَ بِوُجُودِ الصّانِعِ بَدِيهِيٌّ هو أنَّ الفِطْرَةَ شاهِدٌ بِأنَّ حُدُوثَ دارٍ مَنقُوشَةٍ بِالنُّقُوشِ العَجِيبَةِ، مَبْنِيَّةٍ عَلى التَّرْكِيباتِ اللَّطِيفَةِ المُوافِقَةِ لِلْحُكْمِ والمَصْلَحَةِ يَسْتَحِيلُ إلّا عِنْدَ وُجُودِ نَقّاشٍ عالِمٍ، وبانٍ حَكِيمٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ آثارَ الحِكْمَةِ في العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ أكْثَرُ مِن آثارِ الحِكْمَةِ في تِلْكَ الدّارِ المُخْتَصَرَةِ، فَلَمّا شَهِدَتِ الفِطْرَةُ الأصْلِيَّةُ بِافْتِقارِ النَّقْشِ إلى النَّقّاشِ، والبِناءِ إلى البانِي، فَبِأنْ تَشْهَدَ بِافْتِقارِ كُلِّ هَذا العالَمِ إلى الفاعِلِ المُخْتارِ الحَكِيمِ كانَ أوْلى.
الوجه الثّالِثُ: أنَّ الإنْسانَ إذا وقَعَ في مِحْنَةٍ شَدِيدَةٍ وبَلِيَّةٍ قَوِيَّةٍ لا يَبْقى في ظَنِّهِ رَجاءُ المُعاوَنَةِ مَن أحَدٍ، فَكَأنَّهُ بِأصْلِ خِلْقَتِهِ ومُقْتَضى جِبِلَّتِهِ يَتَضَرَّعُ إلى مَن يُخَلِّصُهُ مِنها ويُخْرِجُهُ عَنْ عَلائِقِها وحَبائِلِها، وما ذاكَ إلّا شَهادَةُ الفِطْرَةِ بِالِافْتِقارِ إلى الصّانِعِ المُدَبِّرِ.
الوجه الرّابِعُ: أنَّ المَوْجُودَ إمّا أنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنِ المُؤَثِّرِ أوْ لا يَكُونَ، فَإنْ كانَ غَنِيًّا عَنِ المُؤَثِّرِ فَهو المَوْجُودُ الواجِبُ لِذاتِهِ، فَإنَّهُ لا مَعْنى لِلْواجِبِ لِذاتِهِ إلّا المَوْجُودُ الَّذِي لا حاجَةَ بِهِ إلى غَيْرِهِ. وإنْ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا عَنِ المُؤَثِّرِ فَهو مُحْتاجٌ، والمُحْتاجُ لا بُدَّ لَهُ مِنَ المُحْتاجِ إلَيْهِ وذَلِكَ هو الصّانِعُ المُخْتارُ.
الوجه الخامِسُ: أنَّ الِاعْتِرافَ بِوُجُودِ الإلَهِ المُخْتارِ المُكَلِّفِ، وبِوُجُودِ المَعادِ أحْوَطُ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ فَهَذِهِ مَراتِبُ أرْبَعَةٌ:
أوَّلُها: أنَّ الإقْرارَ بِوُجُودِ الإلَهِ أحْوَطُ، لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَلا ضَرَرَ في الإقْرارِ بِوُجُودِهِ وإنْ كانَ مَوْجُودًا فَفي إنْكارِهِ أعْظَمُ المَضارِّ.
وثانِيها: الإقْرارُ بِكَوْنِهِ فاعِلًا مُخْتارًا لِأنَّهُ لَوْ كانَ مُوجَبًا فَلا ضَرَرَ في الإقْرارِ بِكَوْنِهِ مُخْتارًا. أمّا لَوْ كانَ مُخْتارًا فَفي إنْكارِ كَوْنِهِ مُخْتارًا أعْظَمُ المَضارِّ.
وثالِثُها: الإقْرارُ بِأنَّهُ كَلَّفَ عِبادَهُ، لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يُكَلِّفْ أحَدًا مِن عَبِيدِهِ شَيْئًا فَلا ضَرَرَ في اعْتِقادِ أنَّهُ كَلَّفَ العِبادَ، أما إنَّهُ لَوْ كَلَّفَ فَفي إنْكارِ تِلْكَ التَّكالِيفِ أعْظَمُ المَضارِّ.
ورابِعُها: الإقْرارُ بِوُجُودِ المَعادِ فَإنَّهُ إنْ كانَ الحَقُّ أنَّهُ لا مَعادَ فَلا ضَرَرَ في الإقْرارِ بِوُجُودِهِ، لِأنَّهُ لا يَفُوتُ إلّا هَذِهِ اللَّذّاتُ الجُسْمانِيَّةُ وهي حَقِيرَةٌ ومَنقُوصَةٌ وإنْ كانَ الحَقُّ هو وُجُوبَ المَعادِ فَفي إنْكارِهِ أعْظَمُ المَضارِّ. فَظَهَرَ أنَّ الإقْرارَ بِهَذِهِ المَقاماتِ أحْوَطُ فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ؛ لِأنَّ بَدِيهَةَ العَقْلِ حاكِمَةٌ بِأنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ بِقَدْرِ الإمْكانِ.
(p-٧٤)
* * *
المسألة الثّالِثَةُ: لَمّا أقامَ الدَّلالَةَ عَلى وُجُودِ الإلَهِ بِدَلِيلِ كَوْنِهِ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ وصَفَهُ بِكَمالِ الرَّحْمَةِ والكَرَمِ والجُودِ وبَيَّنَ ذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿يَدْعُوكم لِيَغْفِرَ لَكم مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: لَوْ قالَ قائِلٌ: ما مَعْنى التَّبْعِيضِ في قَوْلِهِ ﴿مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ ؟ ثُمَّ أجابَ فَقالَ: ما جاءَ هَكَذا إلّا في خِطابِ الكافِرِينَ، كَقَوْلِهِ: ﴿أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وأطِيعُونِ﴾ ﴿يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ [نوح: ٣] . ﴿ياقَوْمَنا أجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٣١] وقالَ في خِطابِ المُؤْمِنِينَ: ﴿هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الصف: ١٠] إلى أنْ قالَ: ﴿يَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكُمْ﴾ [الصف: ١٢] والِاسْتِقْراءُ يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْناهُ، ثم قال: وكَأنَّ ذَلِكَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الخِطابَيْنِ، ولِئَلّا يُسَوّى بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ في المَعادِ، وقِيلَ: إنَّهُ أرادَ أنَّهُ يَغْفِرُ لَهم ما بَيْنَهم وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى بِخِلافِ ما بَيْنَهم وبَيْنَ العِبادِ مِنَ المَظالِمِ. هَذا كَلامُ هَذا الرَّجُلِ.
وقالَ الواحِدِيُّ في ”البَسِيطِ“: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ [ مِن ] زائِدَةٌ، وأنْكَرَ سِيبَوَيْهِ زِيادَتَها في الواجِبِ، وإذا قُلْنا: إنَّها لَيْسَتْ زائِدَةً فَهَهُنا وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ ذُكِرَ البَعْضُ هَهُنا وأُرِيدَ بِهِ الجَمِيعُ تَوَسُّعًا.
والثّانِي: أنَّ ”مِن“ هَهُنا لِلْبَدَلِ والمَعْنى لِتَكُونَ المَغْفِرَةُ بَدَلًا مِنَ الذُّنُوبِ فَدَخَلَتْ ”مِن“ لِتَضَمُّنِ المَغْفِرَةِ مَعْنى البَدَلِ مِنَ السَّيِّئَةِ، وقالَ القاضِي: ذَكَرَ الأصَمُّ أنَّ كَلِمَةَ ”مِن“ هَهُنا تُفِيدُ التَّبْعِيضَ، والمَعْنى أنَّكم إذا تُبْتُمْ فَإنَّهُ يَغْفِرُ لَكُمُ الذُّنُوبَ الَّتِي هي مِنَ الكَبائِرِ، فَأمّا الَّتِي تَكُونُ مِن بابِ الصَّغائِرِ فَلا حاجَةَ إلى غُفْرانِها لِأنَّها في أنْفُسِها مَغْفُورَةٌ، قالَ القاضِي: وقَدْ أبْعَدَ في هَذا التَّأْوِيلِ؛ لِأنَّ الكُفّارَ صَغائِرُهم كَكَبائِرِهِمْ في أنَّها لا تُغْفَرُ إلّا بِالتَّوْبَةِ وإنَّما تَكُونُ الصَّغِيرَةُ مَغْفُورَةً مِنَ المُؤْمِنِينَ المُوَحِّدِينَ مِن حَيْثُ يَزِيدُ ثَوابُهم عَلى عِقابِها، فَأمّا مَن لا ثَوابَ لَهُ أصْلًا فَلا يَكُونُ شَيْءٌ مِن ذُنُوبِهِ صَغِيرًا ولا يَكُونُ شَيْءٌ مِنها مَغْفُورًا. ثم قال: وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ الكافِرَ قَدْ يَنْسى بَعْضَ ذُنُوبِهِ في حالِ تَوْبَتِهِ وإنابَتِهِ فَلا يَكُونُ المَغْفُورُ مِنها إلّا ما ذَكَرَهُ وتابَ مِنهُ، فَهَذا جُمْلَةُ أقْوالِ النّاسِ في هَذِهِ الكَلِمَةِ.
* * *
المسألة الرّابِعَةُ: أقُولُ هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى قَدْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ مِن غَيْرِ تَوْبَةٍ في حَقِّ أهْلِ الإيمانِ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ قالَ: ﴿يَدْعُوكم لِيَغْفِرَ لَكم مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ وعَدَ بِغُفْرانِ بَعْضِ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا مِن غَيْرِ اشْتِراطِ التَّوْبَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَغْفِرَ بَعْضَ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا مِن غَيْرِ التَّوْبَةِ وذَلِكَ البَعْضُ لَيْسَ هو الكُفْرَ لِانْعِقادِ الإجْماعِ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يَغْفِرُ الكُفْرَ إلّا بِالتَّوْبَةِ عَنْهُ والدُّخُولِ في الإيمانِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ البَعْضُ الَّذِي يَغْفِرُ لَهُ مِن غَيْرِ التَّوْبَةِ هو ما عَدا الكُفْرَ مِنَ الذُّنُوبِ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ كَلِمَةُ ”مِن“ صِلَةٌ عَلى ما قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ أوْ نَقُولَ: المُرادُ مِنَ البَعْضِ هَهُنا هو الكُلُّ عَلى ما قالَهُ الواحِدِيُّ، أوْ نَقُولَ: المُرادُ مِنها إبْدالُ السَّيِّئَةِ بِالحَسَنَةِ عَلى ما قالَهُ الواحِدِيُّ أيْضًا أوْ نَقُولَ: المُرادُ مِنهُ تَمْيِيزُ المُؤْمِنِ عَنِ الكافِرِ في الخِطابِ عَلى ما قالَهُ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ . أوْ نَقُولَ: المُرادُ مِنهُ تَخْصِيصُ هَذا الغُفْرانِ بِالكَبائِرِ عَلى ما قالَهُ الأصَمُّ. أوْ نَقُولَ: المُرادُ مِنهُ الذُّنُوبُ الَّتِي يَذْكُرُها الكافِرُ عِنْدَ الدُّخُولِ في الإيمانِ عَلى ما قالَهُ القاضِي ؟ فَنَقُولُ: هَذِهِ الوُجُوهُ بِأسْرِها ضَعِيفَةٌ: أما قوله: إنَّها صِلَةٌ فَمَعْناهُ الحكم عَلى كَلِمَةٍ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى بِأنَّها حَشْوٌ ضائِعٌ فاسِدٌ، والعاقِلُ لا يُجَوِّزُ المَصِيرَ إلَيْهِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَأمّا قَوْلُ الواحِدِيِّ: المُرادُ مِن كَلِمَةِ ”مِن“ هَهُنا هو الكُلُّ فَهو عَيْنُ ما قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ؛ لِأنَّ حاصِلَهُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكم مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ هو أنَّهُ يَغْفِرُ لَكم ذُنُوبَكم وهَذا عَيْنُ ما نَقَلَهُ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ، وحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ إنْكارُهُ، وأمّا (p-٧٥)قَوْلُهُ: المُرادُ مِنهُ إبْدالُ السَّيِّئَةِ بِالحَسَنَةِ فَلَيْسَ في اللُّغَةِ أنَّ كَلِمَةَ ”مِن“ تُفِيدُ الإبْدالَ، وأمّا قَوْلُ صاحِبِ ”الكَشّافِ“: المُرادُ تَمْيِيزُ خِطابِ المُؤْمِنِ عَنْ خِطابِ الكافِرِ بِمَزِيدِ التَّشْرِيفِ فَهو مِن بابِ الطّامّاتِ؛ لِأنَّ هَذا التَّبْعِيضَ إنْ حَصَلَ فَلا حاجَةَ إلى ذِكْرِ هَذا الجَوابِ، وإنْ لَمْ يَحْصُلْ كانَ هَذا الجَوابُ فاسِدًا، وأمّا قَوْلُ الأصَمِّ فَقَدْ سَبَقَ إبْطالُهُ، وأمّا قَوْلُ القاضِي فَجَوابُهُ: أنَّ الكافِرَ إذا أسْلَمَ صارَتْ ذُنُوبُهُ بِأسْرِها مَغْفُورَةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«التّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ» “ فَثَبَتَ أنَّ جَمِيعَ ما ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلاتِ تَعَسُّفٌ ساقِطٌ بَلِ المُرادُ ما ذَكَرْنا أنَّهُ تَعالى يَغْفِرُ بَعْضَ ذُنُوبِهِ مِن غَيْرِ تَوْبَةٍ وهو ما عَدا الكُفْرَ، وأمّا الكُفْرُ فَهو أيْضًا مِنَ الذُّنُوبِ وأنَّهُ تَعالى لا يَغْفِرُهُ إلّا بِالتَّوْبَةِ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى يَغْفِرُ كَبائِرَ كافِرٍ مِن غَيْرِ تَوْبَةٍ بِشَرْطِ أنْ يَأْتِيَ بِالإيمانِ فَبِأنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الحالَةُ لِلْمُؤْمِنِ كانَ أوْلى، هَذا ما خَطَرَ بِالبالِ عَلى سَبِيلِ الِارْتِجالِ. واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ.
النوع الثّانِي: مِمّا وعَدَ اللَّهُ تَعالى بِهِ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿ويُؤَخِّرَكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: المَعْنى أنَّكم إنْ آمَنتُمْ أخَّرَ اللَّهُ مَوْتَكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى وإلّا عاجَلَكم بِعَذابِ الِاسْتِئْصالِ.
الثّانِي: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَعْنى يُمَتِّعَكم في الدُّنْيا بِالطَّيِّباتِ واللَّذّاتِ إلى المَوْتِ.
فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَإذا جاءَ أجَلُهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤] فَكَيْفَ قالَ هَهُنا: ﴿ويُؤَخِّرَكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ ؟
قُلْنا: قَدْ تَكَلَّمْنا في هَذِهِ المسألة في سُورَةِ الأنْعامِ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ قَضى أجَلًا وأجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢] ثُمَّ حَكى تَعالى أنَّ الرُّسُلَ لَمّا ذَكَرُوا هَذِهِ الأشْياءَ لِأُولَئِكَ الكُفّارِ قالُوا: ﴿إنْ أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ مُشْتَمِلٌ عَلى ثَلاثَةِ أنْواعٍ مِنَ الشُّبَهِ:
فالشُّبْهَةُ الأُولى: أنَّ الأشْخاصَ الإنْسانِيَّةَ مُتَساوِيَةٌ في تَمامِ الماهِيَّةِ، فَيَمْتَنِعُ أنْ يَبْلُغَ التَّفاوُتُ بَيْنَ تِلْكَ الأشْخاصِ إلى هَذا الحَدِّ، وهو أنْ يَكُونَ الواحِدُ مِنهم رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ مُطَّلِعًا عَلى الغَيْبِ مُخالِطًا لِزُمْرَةِ المَلائِكَةِ والباقُونَ يَكُونُونَ غافِلِينَ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الأحْوالِ، أيْضًا كانُوا يَقُولُونَ: إنْ كُنْتَ قَدْ فارَقْتَنا في هَذِهِ الأحْوالِ العالِيَةِ الإلَهِيَّةِ الشَّرِيفَةِ وجَبَ أنْ تُفارِقَنا في الأحْوالِ الخَسِيسَةِ، وفي الحاجَةِ إلى الأكْلِ والشُّرْبِ والحَدَثِ والوِقاعِ، وهَذِهِ الشُّبْهَةُ هي المُرادُ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿إنْ أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ .
والشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ التَّقْلِيدِ، وهي أنَّهم وجَدُوا آباءَهم وعُلَماءَهم وكُبَراءَهم مُطْبِقِينَ مُتَّفِقِينَ عَلى عِبادَةِ الأوْثانِ. قالُوا: ويَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّ أُولَئِكَ القُدَماءَ عَلى كَثْرَتِهِمْ وقُوَّةِ خَواطِرِهِمْ لَمْ يَعْرِفُوا بُطْلانَ هَذا الدِّينِ، وأنَّ الرَّجُلَ الواحِدَ عَرَفَ فَسادَهُ ووَقَفَ عَلى بُطْلانِهِ، والعَوامُّ رُبَّما زادُوا في هَذا البابِ كَلامًا آخَرَ، وذَلِكَ أنَّ الرَّجُلَ العالِمَ إذا بَيَّنَ ضَعْفَ كَلامِ بَعْضِ المُتَقَدِّمِينَ قالُوا لَهُ: إنَّ كَلامَكَ إنَّما يَظْهَرُ صِحَّتُهُ لَوْ كانَ المُتَقَدِّمُونَ حاضِرِينَ، أمّا المُناظَرَةُ مَعَ المَيِّتِ فَسَهْلَةٌ، فَهَذا كَلامٌ يَذْكُرُهُ الحَمْقى والرَّعاعُ وأُولَئِكَ الكُفّارُ أيْضًا ذَكَرُوهُ، وهَذِهِ الشُّبْهَةُ هي المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿تُرِيدُونَ أنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ .
والشُّبْهَةُ الثّالِثَةُ: أنْ قالُوا المُعْجِزُ لا يَدُلُّ عَلى الصِّدْقِ أصْلًا، وإنْ كانُوا سَلَّمُوا عَلى أنَّ المُعْجِزَ يَدُلُّ عَلى الصِّدْقِ، إلّا أنَّ الَّذِي جاءَ بِهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ طَعَنُوا فِيهِ وزَعَمُوا أنَّها أُمُورٌ مُعْتادَةٌ، وأنَّها لَيْسَتْ مِن بابِ (p-٧٦)المُعْجِزاتِ الخارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ البَشَرِ، وإلى هَذا النوع مِنَ الشُّبْهَةِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ فَهَذا تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِحَسَبِ الوُسْعِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"۞ قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِی ٱللَّهِ شَكࣱّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یَدۡعُوكُمۡ لِیَغۡفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَیُؤَخِّرَكُمۡ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ قَالُوۤا۟ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا تُرِیدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُنَا فَأۡتُونَا بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق