الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهم أئِذا كُنّا تُرابًا أئِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وأُولَئِكَ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ . فِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الدَّلائِلَ القاهِرَةَ عَلى ما يُحْتاجُ إلَيْهِ في مَعْرِفَةِ المَبْدَأِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَسْألَةَ المَعادِ، فَقالَ: ﴿وإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ وفِيهِ أقْوالٌ: القَوْلُ الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: إنْ تَعْجَبْ مِن تَكْذِيبِهِمْ إيّاكَ بَعْدَ ما كانُوا قَدْ حَكَمُوا عَلَيْكَ أنَّكَ مِنَ الصّادِقِينَ فَهَذا عَجَبٌ. والثّانِي: إنْ تَعْجَبْ يا مُحَمَّدُ مِن عِبادَتِهِمْ ما لا يَمْلِكُ لَهم نَفْعًا ولا ضُرًّا بَعْدَما عَرَفُوا الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى التَّوْحِيدِ فَهَذا عَجَبٌ. والثّالِثُ: تَقْدِيرُ الكَلامِ إنْ تَعْجَبْ يا مُحَمَّدُ فَقَدْ عَجِبْتَ في مَوْضِعِ العَجَبِ؛ لِأنَّهم لَمّا اعْتَرَفُوا بِأنَّهُ تَعالى مُدَبِّرُ السَّماواتِ والأرْضِ وخالِقُ الخَلائِقِ أجْمَعِينَ، وأنَّهُ هو الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وهو الَّذِي سَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ عَلى وفْقِ مَصالِحِ العِبادِ، وهو الَّذِي أظْهَرَ في العالَمِ أنْواعَ العَجائِبِ والغَرائِبِ، فَمَن كانَتْ قُدْرَتُهُ وافِيَةً بِهَذِهِ الأشْياءِ العَظِيمَةِ كَيْفَ لا تَكُونُ وافِيَةً بِإعادَةِ الإنْسانِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأنَّ القادِرَ عَلى الأقْوى الأكْمَلِ، فَأنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى الأقَلِّ الأضْعَفِ أوْلى، فَهَذا تَقْرِيرُ مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى هَذا الكَلامَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِثَلاثَةِ أشْياءَ: أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ مَن أنْكَرَ البَعْثَ والقِيامَةَ فَهو كافِرٌ، وإنَّما لَزِمَ مِن إنْكارِ البَعْثِ الكُفْرُ بِرَبِّهِمْ مِن حَيْثُ إنَّ إنْكارَ البَعْثِ لا يَتِمُّ إلّا بِإنْكارِ القُدْرَةِ والعِلْمِ والصِّدْقِ، أمّا إنْكارُ القُدْرَةِ، فَكَما إذا قِيلَ: إنَّ إلَهَ العالَمِ مُوجِبٌ بِالذّاتِ لا فاعِلٌ بِالِاخْتِيارِ، فَلا يَقْدِرُ عَلى الإعادَةِ، أوْ قِيلَ: إنَّهُ وإنْ كانَ قادِرًا لَكِنَّهُ لَيْسَ تامَّ القُدْرَةِ، فَلا يُمْكِنُهُ إيجادُ الحَيَوانِ إلّا بِواسِطَةِ الأبَوَيْنِ وتَأْثِيراتِ الطَّبائِعِ والأفْلاكِ. وأمّا إنْكارُ العِلْمِ فَكَما إذا قِيلَ: إنَّهُ تَعالى غَيْرُ عالِمٍ بِالجُزْئِيّاتِ، فَلا يُمْكِنُهُ تَمْيِيزُ هَذا المُطِيعِ عَنِ العاصِي، وأمّا إنْكارُ الصِّدْقِ فَكَما إذا قِيلَ: إنَّهُ وإنْ أخْبَرَ عَنْهُ لَكِنَّهُ لا يَفْعَلُ؛ لِأنَّ الكَذِبَ جائِزٌ عَلَيْهِ، ولَمّا كانَ كُلُّ هَذِهِ الأشْياءِ كُفْرًا ثَبَتَ أنَّ إنْكارَ البَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وأُولَئِكَ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: قالَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ: المُرادُ بِالأغْلالِ: كُفْرُهم وذِلَّتُهم وانْقِيادُهم لِلْأصْنامِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالًا﴾ [يس: ٨] قالَ الشّاعِرُ: ؎لَهم عَنِ الرُّشْدِ أغْلالٌ وأقْيادُ ويُقالُ لِلرَّجُلِ: هَذا غُلٌّ في عُنُقِكَ لِلْعَمَلِ الرَّدِيءِ، مَعْناهُ: أنَّهُ لازِمٌ لَكَ وأنَّكَ مُجازًى عَلَيْهِ بِالعَذابِ، قالَ القاضِي: هَذا وإنْ كانَ مُحْتَمَلًا إلّا أنَّ حَمْلَ الكَلامِ عَلى الحَقِيقَةِ أوْلى، وأقُولُ: يُمْكِنُ نُصْرَةُ قَوْلِ الأصَمِّ بِأنَّ (p-٩)ظاهِرَ الآيَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الأغْلالِ في أعْناقِهِمْ في الحالِ وذَلِكَ غَيْرُ حاصِلٍ، وأنْتُمْ تَحْمِلُونَ اللَّفْظَ عَلى أنَّهُ سَيَحْصُلُ هَذا المَعْنى، ونَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلى أنَّهُ حاصِلٌ في الحالِ، إلّا أنَّ المُرادَ بِالأغْلالِ ما ذَكَرْناهُ، فَكُلُّ واحِدٍ مِنّا تارِكٌ لِلْحَقِيقَةِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، فَلِمَ كانَ قَوْلُكم أوْلى مِن قَوْلِنا؟ والقَوْلُ الثّانِي: المُرادُ أنَّهُ تَعالى يَجْعَلُ الأغْلالَ في أعْناقِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ والسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ ﴿فِي الحَمِيمِ ثُمَّ في النّارِ يُسْجَرُونَ﴾ [غافِرٍ: ٧١]. والصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ والمُرادُ مِنهُ التَّهْدِيدُ بِالعَذابِ المُخَلَّدِ المُؤَبَّدِ، واحْتَجَّ أصْحابُنا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى عَلى أنَّ العَذابَ المُخَلَّدَ لَيْسَ إلّا لِلْكُفّارِ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا قَوْلُهُ: ﴿هم فِيها خالِدُونَ﴾ يُفِيدُ أنَّهم هُمُ المَوْصُوفُونَ بِالخُلُودِ لا غَيْرُهم، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ أهْلَ الكَبائِرِ لا يُخَلَّدُونَ في النّارِ. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ المُتَكَلِّمُونَ: العَجَبُ هو الَّذِي لا يُعْرَفُ سَبَبُهُ، وذَلِكَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، فَكانَ المُرادُ: وإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ عِنْدَكَ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: قَرَأ بَعْضُهم في الآيَةِ الأُخْرى بِإضافَةِ العَجَبِ إلى نَفْسِهِ تَعالى، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ أمْثالَ هَذِهِ الألْفاظِ يَجِبُ تَنْزِيهُها عَنْ مَبادِئِ الأعْراضِ، ويَجِبُ حَمْلُها عَلى نِهاياتِ الأعْراضِ فَإنَّ الإنْسانَ إذا تَعَجَّبَ مِنَ الشَّيْءِ أنْكَرَهُ، فَكانَ هَذا مَحْمُولًا عَلى الإنْكارِ. المسألة الثّالِثَةُ: اخْتَلَفَ القُرّاءُ في قَوْلِهِ: ﴿أئِذا كُنّا تُرابًا أئِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وأمْثالُهُ إذا كانَ عَلى صُورَةِ الِاسْتِفْهامِ في الأوَّلِ والثّانِي فَمِنهم مَن يَجْمَعُ بَيْنَ الِاسْتِفْهامَيْنِ في الحَرْفَيْنِ وهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ وحَمْزَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاءِ فابْنُ كَثِيرٍ يَسْتَفْهِمُ بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ إلّا أنَّهُ لا يَمُدُّ، وأبُو عَمْرٍو يَسْتَفْهِمُ بِهَمْزَةٍ مُطَوَّلَةٍ يَمُدُّ فِيها، وحَمْزَةُ وعاصِمٌ بِهَمْزَتَيْنِ في كُلِّ القُرْآنِ، ومِنهم مَن لا يَجْمَعُ بَيْنَ الِاسْتِفْهامَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَنافِعٌ وابْنُ عامِرٍ والكِسائِيُّ يَسْتَفْهِمُ في الأوَّلِ، ويَقْرَأُ عَلى الخَبَرِ في الثّانِي، وابْنُ عامِرٍ عَلى الخَبَرِ في الأوَّلِ والِاسْتِفْهامِ في الثّانِي، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاءِ مِن وجْهٍ آخَرَ فَنافِعٌ بِهَمْزَةٍ غَيْرِ مُطَوَّلَةٍ، وابْنُ عامِرٍ والكِسائِيُّ بِهَمْزَتَيْنِ، أمّا نافِعٌ فَكَذَلِكَ إلّا في الصّافّاتِ وكَذَلِكَ ابْنُ عامِرٍ إلّا في الواقِعَةِ، وكَذَلِكَ الكِسائِيُّ إلّا في العَنْكَبُوتِ والصّافّاتِ. المسألة الرّابِعَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: العامِلُ في ﴿أئِذا كُنّا تُرابًا﴾ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أئِذا كُنّا تُرابًا نُبْعَثُ ودَلَّ ما بَعْدَهُ عَلى المَحْذُوفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب