الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلًا مِن قَبْلِكَ وجَعَلْنا لَهم أزْواجًا وذُرِّيَّةً وما كانَ لِرَسُولٍ أنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ ﴿يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ . اعْلَمْ أنَّ القَوْمَ كانُوا يَذْكُرُونَ أنْواعًا مِنَ الشُّبُهاتِ في إبْطالِ نُبُوَّتِهِ. فالشُّبْهَةُ الأُولى قَوْلُهم: ﴿مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ﴾ [الفُرْقانِ: ٧] وهَذِهِ الشُّبْهَةُ إنَّما ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في سُورَةٍ أُخْرى. والشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهم: الرَّسُولُ الَّذِي يُرْسِلُهُ اللَّهُ إلى الخَلْقِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مِن جِنْسِ المَلائِكَةِ كَما حَكى اللَّهُ عَنْهم في قَوْلِهِ: ﴿لَوْ ما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ﴾ [الحِجْرِ: ٧] وقَوْلِهِ: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنْعامِ: ٨]. فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ هاهُنا بِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلًا مِن قَبْلِكَ وجَعَلْنا لَهم أزْواجًا وذُرِّيَّةً﴾ يَعْنِي أنَّ الأنْبِياءَ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَهُ كانُوا مِن جِنْسِ البَشَرِ لا مِن جِنْسِ المَلائِكَةِ، فَإذا جازَ ذَلِكَ في حَقِّهِمْ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أيْضًا مِثْلُهُ في حَقِّهِ. الشُّبْهَةُ الثّالِثَةُ: عابُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِكَثْرَةِ الزَّوْجاتِ، وقالُوا: لَوْ كانَ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ لَما كانَ مُشْتَغِلًا بِأمْرِ النِّساءِ بَلْ كانَ مُعْرِضًا عَنْهُنَّ مُشْتَغِلًا بِالنُّسُكِ والزُّهْدِ، فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلًا مِن قَبْلِكَ وجَعَلْنا لَهم أزْواجًا وذُرِّيَّةً﴾ وبِالجُمْلَةِ فَهَذا الكَلامُ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ جَوابًا عَنِ الشُّبْهَةِ المُتَقَدِّمَةِ، ويَصْلُحُ أنْ يَكُونَ جَوابًا عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، فَقَدْ كانَ لِسُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثَلاثُمِائَةِ امْرَأةٍ مَهِيرَةٍ وسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ ولِداوُدَ مِائَةُ امْرَأةٍ. والشُّبْهَةُ الرّابِعَةُ: قالُوا لَوْ كانَ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ لَكانَ أيُّ شَيْءٍ طَلَبْنا مِنهُ مِنَ المُعْجِزاتِ أتى بِهِ ولَمْ يَتَوَقَّفْ، ولَمّا لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ، فَأجابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما كانَ لِرَسُولٍ أنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ وتَقْرِيرُهُ: أنَّ المُعْجِزَةَ الواحِدَةَ كافِيَةٌ في إزالَةِ العُذْرِ والعِلَّةِ، وفي إظْهارِ الحُجَّةِ والبَيِّنَةِ، فَأمّا الزّائِدُ عَلَيْها فَهو مُفَوَّضٌ إلى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى إنْ شاءَ أظْهَرَها، وإنْ شاءَ لَمْ يُظْهِرْها ولا اعْتِراضَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ في ذَلِكَ. الشُّبْهَةُ الخامِسَةُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُخَوِّفُهم بِنُزُولِ العَذابِ وظُهُورِ النُّصْرَةِ لَهُ ولِقَوْمِهِ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ المَوْعُودَ كانَ يَتَأخَّرُ، فَلَمّا لَمْ يُشاهِدُوا تِلْكَ الأُمُورَ احْتَجُّوا بِها عَلى الطَّعْنِ في نُبُوَّتِهِ، وقالُوا: لَوْ كانَ نَبِيًّا صادِقًا لَما ظَهَرَ كَذِبُهُ. فَأجابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ يَعْنِي نُزُولَ العَذابِ عَلى الكُفّارِ وظُهُورَ الفَتْحِ والنَّصْرِ لِلْأوْلِياءِ قَضى اللَّهُ بِحُصُولِها في أوْقاتٍ مُعَيَّنَةٍ مَخْصُوصَةٍ، ولِكُلِّ حادِثٍ وقْتٌ مُعَيَّنٌ و﴿لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ فَقَبْلَ حُضُورِ (p-٥١)ذَلِكَ الوَقْتِ لا يَحْدُثُ ذَلِكَ الحادِثُ، فَتَأخُّرُ تِلْكَ المَواعِيدِ لا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ كاذِبًا. الشُّبْهَةُ السّادِسَةُ: قالُوا: لَوْ كانَ في دَعْوى الرِّسالَةِ مُحِقًّا لَما نَسَخَ الأحْكامَ الَّتِي نَصَّ اللَّهُ تَعالى عَلى ثُبُوتِها في الشَّرائِعِ المُتَقَدِّمَةِ نَحْوَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، لَكِنَّهُ نَسَخَها وحَرَّفَها نَحْوَ تَحْرِيفِ القِبْلَةِ، ونَسْخِ أكْثَرِ أحْكامِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ نَبِيًّا حَقًّا. فَأجابَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ ويُمْكِنُ أيْضًا أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ كالمُقَدِّمَةِ لِتَقْرِيرِ هَذا الجَوابِ، وذَلِكَ لِأنّا نُشاهِدُ أنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ حَيَوانًا عَجِيبَ الخِلْقَةِ بَدِيعَ الفِطْرَةِ مِن قَطْرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ، ثُمَّ يُبْقِيهِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً، ثُمَّ يُمِيتُهُ ويُفَرِّقُ أجْزاءَهُ وأبْعاضَهُ، فَلَمّا لَمْ يَمْتَنِعْ أنْ يُحْيِيَ أوَّلًا، ثُمَّ يُمِيتَ ثانِيًا فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ أنْ يُشَرِّعَ الحكم في بَعْضِ الأوْقاتِ، ثُمَّ يَنْسَخُهُ في سائِرِ الأوْقاتِ؟ فَكانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ ما ذَكَرْناهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا قَرَّرَ تِلْكَ المُقَدِّمَةَ قالَ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ والمَعْنى: أنَّهُ يُوجِدُ تارَةً ويُعْدِمُ أُخْرى، ويُحْيِي تارَةً ويُمِيتُ أُخْرى، ويُغْنِي تارَةً ويُفْقِرُ أُخْرى، فَكَذَلِكَ لا يَبْعُدُ أنْ يَشْرَعَ الحكم تارَةً ثُمَّ يَنْسَخَهُ أُخْرى بِحَسَبِ ما اقْتَضَتْهُ المَشِيئَةُ الإلَهِيَّةُ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، أوْ بِحَسِبِ ما اقْتَضَتْهُ رِعايَةُ المَصالِحِ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ، فَهَذا إتْمامُ التَّحْقِيقِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ هاهُنا مَسائِلُ: * * * المسألة الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ فِيهِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ وقْتًا مُقَدَّرًا، فالآياتُ الَّتِي سَألُوها لَها وقْتٌ مُعَيَّنٌ حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وكَتَبَهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، فَلا يَتَغَيَّرُ عَنْ ذَلِكَ الحكم بِسَبَبِ تَحَكُّماتِهِمُ الفاسِدَةِ، ولَوْ أنَّ اللَّهَ أعْطاهم ما التَمَسُوا لَكانَ فِيهِ أعْظَمُ الفَسادِ. الثّانِي: أنَّ لِكُلِّ حادِثٍ وقْتًا مُعَيَّنًا قَضى اللَّهُ حُصُولَهُ فِيهِ كالحَياةِ والمَوْتِ والغِنى والفَقْرِ والسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ، ولا يَتَغَيَّرُ البَتَّةَ عَنْ ذَلِكَ الوَقْتِ. والثّالِثُ: أنَّ هَذا مِنَ المَقْلُوبِ، والمَعْنى: أنَّ لِكُلِّ كِتابٍ مُنَزَّلٍ مِنَ السَّماءِ أجَلًا يُنْزِلُهُ فِيهِ، أيْ لِكُلِّ كِتابٍ وقْتٌ يُعْمَلُ بِهِ، فَوَقْتُ العَمَلِ بِالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ قَدِ انْقَضى ووَقْتُ العَمَلِ بِالقُرْآنِ قَدْ أتى وحَضَرَ. والرّابِعُ: لِكُلِّ أجَلٍ مُعَيَّنٍ كِتابٌ عِنْدَ المَلائِكَةِ الحَفَظَةِ فَلِلْإنْسانِ أحْوالٌ أوَّلُها نُطْفَةٌ ثُمَّ عَلَقَةٌ ثُمَّ مُضْغَةٌ ثُمَّ يَصِيرُ شابًّا ثُمَّ شَيْخًا، وكَذا القَوْلُ في جَمِيعِ الأحْوالِ مِنَ الإيمانِ والكُفْرِ والسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ والحُسْنِ والقُبْحِ. الخامِسُ: كُلُّ وقْتٍ مُعَيَّنٍ مُشْتَمِلٌ عَلى مَصْلَحَةٍ خَفِيَّةٍ ومَنفَعَةٍ لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى، فَإذا جاءَ ذَلِكَ الوَقْتُ حَدَثَ ذَلِكَ الحادِثُ ولا يَجُوزُ حُدُوثُهُ في غَيْرِهِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ صَرِيحَةٌ في أنَّ الكُلَّ بِقَضاءِ اللَّهِ وبِقَدَرِهِ، وأنَّ الأُمُورَ مَرْهُونَةٌ بِأوْقاتِها؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ مَعْناهُ: أنَّ تَحْتَ كُلِّ أجَلٍ حادِثًا مُعَيَّنًا، ويَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ لِأجْلِ خاصِّيَّةِ الوَقْتِ فَإنَّ ذَلِكَ مُحالٌ؛ لِأنَّ الأجْزاءَ المَعْرُوضَةَ في الأوْقاتِ المُتَعاقِبَةِ مُتَساوِيَةٌ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ اخْتِصاصُ كُلِّ وقْتٍ بِالحادِثِ الَّذِي يَحْدُثُ فِيهِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى واخْتِيارِهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعالى وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «جَفَّ القَلَمُ بِما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» . المسألة الثّانِيَةُ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ [ويُثْبِتُ] ساكِنَةَ الثّاءِ خَفِيفَةَ الباءِ مِن أثْبَتَ يُثْبِتُ، والباقُونَ بِفَتْحِ الثّاءِ وتَشْدِيدِ الباءِ مِنَ التَّثْبِيتِ، وحُجَّةُ مَن خَفَّفَ أنَّ ضِدَّ المَحْوِ الإثْباتُ لا التَّثْبِيتُ؛ ولِأنَّ التَّشْدِيدَ لِلتَّكْثِيرِ، ولَيْسَ القَصْدُ بِالمَحْوِ التَّكْثِيرَ، فَكَذَلِكَ ما يَكُونُ في مُقابَلَتِهِ، ومَن شَدَّدَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وأشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النِّساءِ: ٦٦] وقَوْلِهِ: ﴿فَثَبِّتُوا﴾ [الأنْفالِ: ١٢]. (p-٥٢)المسألة الثّالِثَةُ: المَحْوُ ذَهابُ أثَرِ الكِتابَةِ، يُقالُ: مَحاهُ يَمْحُوهُ مَحْوًا إذا أذْهَبَ أثَرَهُ، وقَوْلُهُ: ﴿ويُثْبِتُ﴾ قالَ النَّحْوِيُّونَ: أرادَ ويُثْبِتُهُ إلّا أنَّهُ اسْتَغْنى بِتَعْدِيَةِ الفِعْلِ الأوَّلِ عَنْ تَعْدِيَةِ الثّانِي، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والحافِظِينَ فُرُوجَهم والحافِظاتِ﴾ [الأحْزابِ: ٣٥]. * * * المسألة الرّابِعَةُ: في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّها عامَّةٌ في كُلِّ شَيْءٍ كَما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ. قالُوا: إنَّ اللَّهَ يَمْحُو مِنَ الرِّزْقِ ويَزِيدُ فِيهِ، وكَذا القَوْلُ في الأجَلِ والسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ والإيمانِ والكُفْرِ، وهو مَذْهَبُ عُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ كانُوا يَدْعُونَ ويَتَضَرَّعُونَ إلى اللَّهِ تَعالى في أنْ يَجْعَلَهم سُعَداءَ لا أشْقِياءَ، وهَذا التَّأْوِيلُ رَواهُ جابِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ خاصَّةٌ في بَعْضِ الأشْقِياءِ دُونَ البَعْضِ، وعَلى هَذا التَّقْرِيرِ، فَفي الآيَةِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: المُرادُ مِنَ المَحْوِ والإثْباتِ: نَسْخُ الحكم المُتَقَدِّمِ وإثْباتُ حُكْمٍ آخَرَ بَدَلًا عَنِ الأوَّلِ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى يَمْحُو مِن دِيوانِ الحَفَظَةِ ما لَيْسَ بِحَسَنَةٍ ولا سَيِّئَةٍ؛ لِأنَّهم مَأْمُورُونَ بِكِتابَةِ كُلِّ قَوْلٍ وفِعْلٍ ويُثْبِتُ غَيْرَهُ، وطَعَنَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ فِيهِ، فَقالَ: إنَّهُ تَعالى وصَفَ الكِتابَ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلّا أحْصاها﴾ [الكَهْفِ: ٤٩] وقالَ أيْضًا: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزَّلْزَلَةِ: ٧]. أجابَ القاضِي عَنْهُ: بِأنَّهُ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً مِنَ الذُّنُوبِ، والمُباحِ لا صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً، ولِلْأصَمِّ أنْ يُجِيبَ عَنْ هَذا الجَوابِ فَيَقُولَ: إنَّكم بِاصْطِلاحِكم خَصَّصْتُمُ الصَّغِيرَةَ بِالذَّنَبِ الصَّغِيرِ، والكَبِيرَةَ بِالذَّنَبِ الكَبِيرِ، وهَذا مُجَرَّدُ اصْطِلاحِ المُتَكَلِّمِينَ، أمّا في أصْلِ اللُّغَةِ فالصَّغِيرُ والكَبِيرُ يَتَناوَلانِ كُلَّ فِعْلٍ وعَرَضٍ؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ حَقِيرًا فَهو صَغِيرٌ، وإنْ كانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهو كَبِيرٌ، وعَلى هَذا التَّقْرِيرِ فَقَوْلُهُ: ﴿لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلّا أحْصاها﴾ [الكَهْفِ: ٤٩] يَتَناوَلُ المُباحاتِ أيْضًا. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى أرادَ بِالمَحْوِ أنَّ مَن أذْنَبَ أُثْبِتَ ذَلِكَ الذَّنْبُ في دِيوانِهِ، فَإذا تابَ عَنْهُ مُحِيَ مِن دِيوانِهِ. الرّابِعُ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ وهو مَن جاءَ أجَلُهُ، ويَدَعُ مَن لَمْ يَجِئْ أجَلُهُ ويُثْبِتُهُ. الخامِسُ: أنَّهُ تَعالى يُثْبِتُ في أوَّلِ السَّنَةِ حُكْمَ تِلْكَ السَّنَةِ، فَإذا مَضَتِ السَّنَةُ مُحِيَتْ، وأُثْبِتَ كِتابٌ آخَرُ لِلْمُسْتَقْبَلِ. السّادِسُ: يَمْحُو نُورَ القَمَرِ، ويُثْبِتُ نُورَ الشَّمْسِ. السّابِعُ: يَمْحُو الدُّنْيا ويُثْبِتُ الآخِرَةَ. الثّامِنُ: أنَّهُ في الأرْزاقِ والمِحَنِ والمَصائِبِ يُثْبِتُها في الكِتابِ، ثُمَّ يُزِيلُها بِالدُّعاءِ والصَّدَقَةِ، وفِيهِ حَثٌّ عَلى الِانْقِطاعِ إلى اللَّهِ تَعالى. التّاسِعُ: تَغَيُّرُ أحْوالِ العَبْدِ فَما مَضى مِنها فَهو المَحْوُ، وما حَصَلَ وحَضَرَ فَهو الإثْباتُ. العاشِرُ: يُزِيلُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ ما يَشاءُ مِن حُكْمِهِ لا يُطْلِعُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا فَهو المُنْفَرِدُ بِالحكم كَما يَشاءُ، وهو المُسْتَقِلُّ بِالإيجادِ والإعْدامِ والإحْياءِ والإماتَةِ والإغْناءِ والإفْقارِ بِحَيْثُ لا يَطَّلِعُ عَلى تِلْكَ الغُيُوبِ أحَدٌ مِن خَلْقِهِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا البابَ فِيهِ مَجالٌ عَظِيمٌ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: ألَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أنَّ المَقادِيرَ سابِقَةٌ قَدْ جَفَّ بِها القَلَمُ ولَيْسَ الأمْرُ بِأُنُفٍ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ مَعَ هَذا المَعْنى المَحْوُ والإثْباتُ؟ قُلْنا: ذَلِكَ المَحْوُ والإثْباتُ أيْضًا مِمّا جَفَّ بِهِ القَلَمُ، فَلا يَمْحُو إلّا ما سَبَقَ في عِلْمِهِ وقَضائِهِ مَحْوُهُ. (p-٥٣)المسألة الخامِسَةُ: قالَتِ الرّافِضَةُ: البَداءُ جائِزٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، وهو أنْ يَعْتَقِدَ شَيْئًا، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ أنَّ الأمْرَ بِخِلافِ ما اعْتَقَدَهُ، وتَمَسَّكُوا فِيهِ بِقَوْلِهِ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَذا باطِلٌ؛ لِأنَّ عِلْمَ اللَّهِ مِن لَوازِمِ ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ، وما كانَ كَذَلِكَ كانَ دُخُولُ التَّغَيُّرِ والتَّبَدُّلِ فِيهِ مُحالًا. المسألة السّادِسَةُ: أمّا ﴿أُمُّ الكِتابِ﴾ فالمُرادُ أصْلُ الكِتابِ، والعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ ما يَجْرِي مَجْرى الأصْلِ لِلشَّيْءِ أُمًّا لَهُ، ومِنهُ أُمُّ الرَّأْسِ لِلدِّماغِ، وأُمُّ القُرى لِمَكَّةَ، وكُلُّ مَدِينَةٍ فَهي أُمٌّ لِما حَوْلَها مِنَ القُرى، فَكَذَلِكَ أُمُّ الكِتابِ هو الَّذِي يَكُونُ أصْلًا لِجَمِيعِ الكُتُبِ، وفِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ أُمَّ الكِتابِ هو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، وجَمِيعُ حَوادِثِ العالَمِ العُلْوِيِّ والعالَمِ السُّفْلِيِّ مُثْبَتٌ فِيهِ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «كانَ اللَّهُ ولا شَيْءَ مَعَهُ ثُمَّ خَلَقَ اللَّوْحَ وأثْبَتَ فِيهِ أحْوالَ جَمِيعِ الخَلْقِ إلى قِيامِ السّاعَةِ» قالَ المُتَكَلِّمُونَ: الحِكْمَةُ فِيهِ أنْ يُظْهِرَ لِلْمَلائِكَةِ كَوْنَهُ تَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فَعِنْدَ اللَّهِ كِتابانِ: أحَدُهُما: الكِتابُ الَّذِي يَكْتُبُهُ المَلائِكَةُ عَلى الخَلْقِ، وذَلِكَ الكِتابُ مَحَلُّ المَحْوِ والإثْباتِ. والكِتابُ الثّانِي هو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، وهو الكِتابُ المُشْتَمِلُ عَلى تَعَيُّنِ جَمِيعِ الأحْوالِ العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ، وهو الباقِي، رَوى أبُو الدَّرْداءِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى في ثَلاثِ ساعاتٍ بَقِينَ مِنَ اللَّيْلِ يَنْظُرُ في الكِتابِ الَّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحَدٌ غَيْرُهُ، فَيَمْحُو ما يَشاءُ ويُثْبِتُ ما يَشاءُ» . ولِلْحُكَماءِ في تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الكِتابَيْنِ كَلِماتٌ عَجِيبَةٌ وأسْرارٌ غامِضَةٌ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ أُمَّ الكِتابِ هو عِلْمُ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ مِنَ المَوْجُوداتِ والمَعْدُوماتِ وإنْ تَغَيَّرَتْ، إلّا أنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعالى بِها باقٍ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّغَيُّرِ، فالمُرادُ بِأُمِّ الكِتابِ هو ذاكَ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب