(p-٣٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللَّهِ ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ الكُفّارَ قالُوا: يا مُحَمَّدُ إنْ كُنْتَ رَسُولًا فَأْتِنا بِآيَةٍ ومُعْجِزَةٍ قاهِرَةٍ ظاهِرَةٍ مِثْلِ مُعْجِزاتِ مُوسى وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ.
فَأجابَ عَنْ هَذا السُّؤالِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ وبَيانُ كَيْفِيَّةِ هَذا الجَوابِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أنْزَلَ عَلَيْهِ آياتٍ ظاهِرَةً ومُعْجِزاتٍ قاهِرَةً، ولَكِنَّ الإضْلالَ والهِدايَةَ مِنَ اللَّهِ، فَأضَلَّكم عَنْ تِلْكَ الآياتِ القاهِرَةِ الباهِرَةِ، وهَدى أقْوامًا آخَرِينَ إلَيْها، حَتّى عَرَفُوا بِها صِدْقَ مُحَمَّدٍ ﷺ في دَعْوى النُّبُوَّةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَلا فائِدَةَ في تَكْثِيرِ الآياتِ والمُعْجِزاتِ.
وثانِيها: أنَّهُ كَلامٌ يَجْرِي مَجْرى التَّعَجُّبِ مِن قَوْلِهِمْ، وذَلِكَ لِأنَّ الآياتِ الباهِرَةَ المُتَكاثِرَةَ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانَتْ أكْثَرَ مِن أنْ تَصِيرَ مُشْتَبِهَةً عَلى العاقِلِ، فَلَمّا طَلَبُوا بَعْدَها آياتٍ أُخْرى كانَ مَوْضِعًا لِلتَّعَجُّبِ والِاسْتِنْكارِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهم: ما أعْظَمَ عِنادَكم ﴿إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ﴾ مَن كانَ عَلى صِفَتِكم مِنَ التَّصْمِيمِ وشِدَّةِ الشَّكِيمَةِ عَلى الكُفْرِ فَلا سَبِيلَ إلى اهْتِدائِكم وإنْ أُنْزِلَتْ كُلُّ آيَةٍ ﴿ويَهْدِي﴾ مَن كانَ عَلى خِلافِ صِفَتِكم.
وثالِثُها: أنَّهم لَمّا طَلَبُوا سائِرَ الآياتِ والمُعْجِزاتِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهم: لا فائِدَةَ في ظُهُورِ الآياتِ والمُعْجِزاتِ، فَإنَّ الإضْلالَ والهِدايَةَ مِنَ اللَّهِ، فَلَوْ حَصَلَتِ الآياتُ الكَثِيرَةُ ولَمْ تَحْصُلِ الهِدايَةُ فَإنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفاعُ بِها، ولَوْ حَصَلَتْ آيَةٌ واحِدَةٌ فَقَطْ وحَصَلَتِ الهِدايَةُ مِنَ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَحْصُلُ الِانْتِفاعُ بِها، فَلا تَشْتَغِلُوا بِطَلَبِ الآياتِ ولَكِنْ تَضَرَّعُوا إلى اللَّهِ في طَلَبِ الهِداياتِ.
ورابِعُها: قالَ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ: المَعْنى أنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ عَنْ رَحْمَتِهِ وثَوابِهِ عُقُوبَةً لَهُ عَلى كُفْرِهِ، فَلَسْتُمْ مِمَّنْ يُجِيبُهُ اللَّهُ تَعالى إلى ما يَسْألُ لِاسْتِحْقاقِكُمُ العَذابَ الإضْلالَ عَنِ الثَّوابِ ﴿ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ أيْ يَهْدِي إلى جَنَّتِهِ مَن تابَ وآمَنَ، قالَ: وهَذا يُبَيِّنُ أنَّ الهُدى هو الثَّوابُ مِن حَيْثُ إنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿مَن أنابَ﴾ أيْ تابَ والهُدى الَّذِي يَفْعَلُهُ بِالمُؤْمِنِ هو الثَّوابُ؛ لِأنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عَلى إيمانِهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما يُضِلُّ عَنِ الثَّوابِ بِالعِقابِ، لا عَنِ الدِّينِ بِالكُفْرِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ مَن خالَفَنا، هَذا تَمامُ كَلامِ أبِي عَلِيٍّ وقَوْلُهُ: ﴿أنابَ﴾ أيْ أقْبَلَ إلى الحَقِّ، وحَقِيقَتُهُ دَخَلَ في نَوْبَةِ الخَيْرِ.
{"ayah":"وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَنۡ أَنَابَ"}