قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ ﴿والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهم ويَخافُونَ سُوءَ الحِسابِ﴾ ﴿والَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ وأقامُوا الصَّلاةَ وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهم سِرًّا وعَلانِيَةً ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهم عُقْبى الدّارِ﴾ ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ هَلْ هي مُتَعَلِّقَةٌ بِما قَبْلَها أمْ لا؟ فِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِما قَبْلَها وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ، فَفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ صِفَةً لِأُولِي الألْبابِ، والثّانِي: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: ﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ﴾ .
والقَوْلُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ مُبْتَدَأً: ﴿أُولَئِكَ لَهم عُقْبى الدّارِ﴾ خَبَرُهُ كَقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٥]
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها جُمْلَةٌ واحِدَةٌ شَرْطٌ وجَزاءٌ، وشَرْطُها مُشْتَمِلٌ عَلى قُيُودٍ، وجَزاؤُها يَشْتَمِلُ أيْضًا عَلى قُيُودٍ، أمّا القُيُودُ المُعْتَبَرَةُ في الشَّرْطِ فَهي تِسْعَةٌ:
القَيْدُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: يُرِيدُ الَّذِي عاهَدَهم عَلَيْهِ حِينَ كانُوا في صُلْبِ آدَمَ، وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] .
والثّانِي: أنَّ المُرادَ بِعَهْدِ اللَّهِ كُلُّ أمْرٍ قامَ الدَّلِيلُ عَلى صِحَّتِهِ وهو مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: الأشْياءُ الَّتِي أقامَ اللَّهُ عَلَيْها دَلائِلَ عَقْلِيَّةً قاطِعَةً لا تَقْبَلُ النَّسْخَ والتَّغْيِيرَ.
والآخَرُ: الَّتِي أقامَ اللَّهُ عَلَيْها الدَّلائِلَ السَّمْعِيَّةَ وبَيَّنَ لَهم تِلْكَ الأحْكامَ، والحاصِلُ أنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ كُلُّ ما قامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، ويَصِحُّ إطْلاقُ لَفْظِ العَهْدِ عَلى الحُجَّةِ بَلِ الحَقُّ أنَّهُ لا عَهْدَ أوْكَدُ مِنَ الحُجَّةِ، والدَّلالَةُ عَلى ذَلِكَ أنَّ مَن حَلَفَ عَلى الشَّيْءِ، فَإنَّما (p-٣٣)يَلْزَمُهُ الوَفاءُ بِهِ إذا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ وُجُوبُهُ لا بِمُجَرَّدِ اليَمِينِ؛ ولِذَلِكَ رُبَّما يَلْزَمُهُ أنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ إذا كانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ، فَلا عَهْدَ أوْكَدُ مِن إلْزامِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ العَقْلِ أوْ بِدَلِيلِ السَّمْعِ، ولا يَكُونُ العَبْدُ مُوفِيًا لِلْعَهْدِ إلّا بِأنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ تِلْكَ الأشْياءِ، كَما أنَّ الحالِفَ عَلى أشْياءَ كَثِيرَةٍ لا يَكُونُ بارًّا في يَمِينِهِ إلّا إذا فَعَلَ الكُلَّ، ويَدْخُلُ فِيهِ الإتْيانُ بِجَمِيعِ المَأْمُوراتِ والِانْتِهاءُ عَنْ كُلِّ المَنهِيّاتِ، ويَدْخُلُ فِيهِ الوَفاءُ بِالعُقُودِ في المُعامَلاتِ، ويَدْخُلُ فِيهِ أداءُ الأماناتِ، وهَذا القَوْلُ هو المُخْتارُ الصَّحِيحُ في تَأْوِيلِ الآيَةِ.
* * *
القَيْدُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ وفِيهِ أقْوالٌ:
القَوْلُ الأوَّلُ - وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ -: إنَّ هَذا الكَلامَ قَرِيبٌ مِنَ الوَفاءِ بِالعَهْدِ، فَإنَّ الوَفاءَ بِالعَهْدِ قَرِيبٌ مِن عَدَمِ نَقْضِ المِيثاقِ والعَهْدِ، وهَذا مِثْلُ أنْ يَقُولَ: إنَّهُ لَمّا وجَبَ وُجُودُهُ لَزِمَ أنْ يَمْتَنِعَ عَدَمُهُ، فَهَذانِ المَفْهُومانِ مُتَغايِرانِ إلّا أنَّهُما مُتَلازِمانِ فَكَذَلِكَ الوَفاءُ بِالعَهْدِ يَلْزَمُهُ أنْ لا يَنْقُضَ المِيثاقَ.
واعْلَمْ أنَّ الوَفاءَ بِالعَهْدِ مِن أجَلِّ مَراتِبِ السَّعادَةِ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «لا إيمانَ لِمَن لا أمانَةَ لَهُ ولا دِينَ لِمَن لاَ عَهْدَ لَهُ» والآياتُ الوارِدَةُ في هَذا البابِ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المِيثاقَ ما وثَّقَهُ المُكَلَّفُ عَلى نَفْسِهِ، فالحاصِلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ إشارَةٌ إلى ما كَلَّفَ اللَّهُ العَبْدَ بِهِ ابْتِداءً، وقَوْلَهُ: ﴿ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ إشارَةٌ إلى ما التَزَمَهُ العَبْدُ مِن أنْواعِ الطّاعاتِ بِحَسَبِ اخْتِيارِ نَفْسِهِ كالنَّذْرِ بِالطّاعاتِ والخَيْراتِ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ بِالوَفاءِ بِالعَهْدِ: عَهْدُ الرُّبُوبِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ، والمُرادُ بِالمِيثاقِ: المَواثِيقُ المَذْكُورَةُ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ وسائِرِ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ عَلى وُجُوبِ الإيمانِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ عِنْدَ ظُهُورِهِ.
واعْلَمْ أنَّ الوَفاءَ بِالعَهْدِ أمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ في العُقُولِ والشَّرائِعِ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَن عاهَدَ اللَّهَ فَغَدَرَ، كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ» وعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهم يَوْمَ القِيامَةِ ومَن كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ؛ رَجُلٌ أعْطى عَهْدًا ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا اسْتَوْفى عَمَلَهُ وظَلَمَهُ أجْرَهُ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فاسْتَرَقَّ الحُرَّ وأكَلَ ثَمَنَهُ» وقِيلَ: «كانَ بَيْنَ مُعاوِيَةَ ومَلِكِ الرُّومِ عَهْدٌ فَأرادَ أنْ يَذْهَبَ إلَيْهِمْ ويَنْقُضَ العَهْدَ فَإذا رَجُلٌ عَلى فَرَسٍ، يَقُولُ: وفاءٌ بِالعَهْدِ لا غَدْرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَن كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلا يَنْبِذَنَّ إلَيْهِمْ عَهْدَهُ ولا يَحُلَّها حَتّى يَنْقَضِيَ الأمَدُ ويَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، قالَ: مَن هَذا؟ قالُوا: عَمْرُو بْنُ عُيَيْنَةَ فَرَجَعَ مُعاوِيَةُ» .
* * *
القَيْدُ الثّالِثُ: ﴿والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ وهاهُنا سُؤالٌ: وهو أنَّ الوَفاءَ بِالعَهْدِ وتَرْكَ نَقْضِ المِيثاقِ اشْتَمَلَ عَلى وُجُوبِ الإتْيانِ بِجَمِيعِ المَأْمُوراتِ والِاحْتِرازِ عَنْ كُلِّ المَنهِيّاتِ، فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِ هَذِهِ القُيُودِ المَذْكُورَةِ بَعْدَهُما؟
والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ ذُكِرَ لِئَلّا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ ذَلِكَ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى، فَلا جَرَمَ أفْرَدَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ العِبادِ بِالذِّكْرِ. والثّانِي: أنَّهُ تَأْكِيدٌ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: ذَكَرُوا في تَفْسِيرِهِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ صِلَةُ الرَّحِمِ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ثَلاثٌ يَأْتِينَ يَوْمَ القِيامَةِ لَها ذَلَقٌ؛ الرَّحِمُ تَقُولُ: أيْ رَبِّ قُطِعْتُ، والأمانَةُ تَقُولُ: أيْ رَبِّ تُرِكْتُ، والنِّعْمَةُ تَقُولُ: أيْ رَبِّ كُفِرْتُ» .
(p-٣٤)والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ صِلَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ ومُؤازَرَتُهُ ونُصْرَتُهُ في الجِهادِ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: رِعايَةُ جَمِيعِ الحُقُوقِ الواجِبَةِ لِلْعِبادِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ صِلَةُ الرَّحِمِ وصِلَةُ القَرابَةِ الثّابِتَةِ بِسَبَبِ أُخُوَّةِ الإيمانِ، كَما قالَ: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحُجُراتِ: ١٠] ويَدْخُلُ في هَذِهِ الصِّلَةِ إمْدادُهم بِإيصالِ الخَيْراتِ، ودَفْعُ الآفاتِ بِقَدْرِ الإمْكانِ، وعِيادَةُ المَرِيضِ، وشُهُودُ الجَنائِزِ، وإفْشاءُ السَّلامِ عَلى النّاسِ، والتَّبَسُّمُ في وُجُوهِهِمْ، وكَفُّ الأذى عَنْهم، ويَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ حَيَوانٍ حَتّى الهِرَّةُ والدَّجاجَةُ، وعَنِ الفُضَيْلِ بْنِ عِياضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ جَماعَةً دَخَلُوا عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقالَ: مِن أيْنَ أنْتُمْ؟ قالُوا: مِن خُراسانَ، فَقالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مِن حَيْثُ شِئْتُمْ، واعْلَمُوا أنَّ العَبْدَ لَوْ أحْسَنَ كُلَّ الإحْسانِ، وكانَ لَهُ دَجاجَةٌ فَأساءَ إلَيْها لَمْ يَكُنْ مِنَ المُحْسِنِينَ.
وأقُولُ: حاصِلُ الكَلامِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ إشارَةٌ إلى التَّعْظِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ، وقَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ إشارَةٌ إلى الشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ.
* * *
القَيْدُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ والمَعْنى: أنَّهُ وإنْ أتى بِكُلِّ ما قَدَرَ عَلَيْهِ في تَعْظِيمِ أمْرِ اللَّهِ، وفي الشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ إلّا أنَّهُ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ الخَشْيَةُ مِنَ اللَّهِ والخَوْفُ مِنهُ مُسْتَوْلِيًا عَلى قَلْبِهِ، وهَذِهِ الخَشْيَةُ نَوْعانِ:
أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ خائِفًا مِن أنْ يَقَعَ زِيادَةٌ أوْ نُقْصانٌ أوْ خَلَلٌ في عِباداتِهِ وطاعاتِهِ، بِحَيْثُ يُوجِبُ فَسادَ العِبادَةِ أوْ يُوجِبُ نُقْصانَ ثَوابِها.
والثّانِي: وهو خَوْفُ الجَلالِ وذَلِكَ لِأنَّ العَبْدَ إذا حَضَرَ عِنْدَ السُّلْطانِ المَهِيبِ القاهِرِ، فَإنَّهُ وإنْ كانَ في عَيْنِ طاعَتِهِ إلّا أنَّهُ لا يَزُولُ عَنْ قَلْبِهِ مَهابَةُ الجَلالَةِ والرِّفْعَةِ والعَظَمَةِ.
القَيْدُ الخامِسُ: قَوْلُهُ: ﴿ويَخافُونَ سُوءَ الحِسابِ﴾ اعْلَمْ أنَّ القَيْدَ الرّابِعَ إشارَةٌ إلى الخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ، وهَذا القَيْدُ الخامِسُ إشارَةٌ إلى الخَوْفِ والخَشْيَةِ وسُوءِ الحِسابِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ ما ذَكَرْناهُ مِن خَوْفِ الجَلالِ والمَهابَةِ والعَظَمَةِ، وإلّا لَزِمَ التِّكْرارُ.
* * *
القَيْدُ السّادِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ﴾ فَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّبْرُ عَلى فِعْلِ العِباداتِ والصَّبْرُ عَلى ثِقَلِ الأمْراضِ والمَضارِّ والغُمُومِ والأحْزانِ، والصَّبْرُ عَلى تَرْكِ المُشْتَهَياتِ وبِالجُمْلَةِ الصَّبْرُ عَلى تَرْكِ المَعاصِي وعَلى أداءِ الطّاعاتِ، ثُمَّ إنَّ الإنْسانَ قَدْ يُقْدِمُ عَلى الصَّبْرِ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنْ يَصْبِرَ لِيُقالَ ما أكْمَلَ صَبْرَهُ وأشَدَّ قُوَّتَهُ عَلى تَحَمُّلِ النَّوازِلِ.
وثانِيها: أنْ يَصْبِرَ لِئَلّا يُعابَ بِسَبَبِ الجَزَعِ.
وثالِثُها: أنْ يَصْبِرَ لِئَلّا تَحْصُلَ شَماتَةُ الأعْداءِ.
ورابِعُها: أنْ يَصْبِرَ لِعِلْمِهِ بِأنْ لا فائِدَةَ في الجَزَعِ، فالإنْسانُ إذا أتى بِالصَّبْرِ لِأحَدِ هَذِهِ الوُجُوهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ داخِلًا في كَمالِ النَّفْسِ وسَعادَةِ القَلْبِ، أمّا إذا صَبَرَ عَلى البَلاءِ لِعِلْمِهِ بِأنَّ ذَلِكَ البَلاءَ قِسْمَةٌ حَكَمَ بِها القَسّامُ العَلّامُ المُنَزَّهُ عَنِ العَيْبِ والباطِلِ والسَّفَهِ، بَلْ لا بُدَّ أنْ تَكُونَ تِلْكَ القِسْمَةُ مُشْتَمِلَةً عَلى حِكْمَةٍ بالِغَةٍ ومَصْلَحَةٍ راجِحَةٍ، ورَضِيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ تَصَرُّفُ المالِكِ في مِلْكِهِ ولا اعْتِراضَ عَلى المالِكِ في أنْ يَتَصَرَّفَ في مِلْكِهِ، أوْ يَصْبِرَ لِأنَّهُ صارَ مُسْتَغْرِقًا في مُشاهَدَةِ المُبْلِي، فَكانَ اسْتِغْراقُهُ في تَجَلِّي نُورِ المُبْلِي أذْهَلَهُ عَنِ التَّألُّمِ بِالبَلاءِ، وهَذا أعْلى مَقاماتِ الصِّدِّيقِينَ، فَهَذِهِ الوُجُوهُ الثَّلاثَةُ هي الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْها أنَّهُ صَبَرَ ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ، ومَعْناهُ أنَّهُ صَبَرَ لِمُجَرَّدِ ثَوابِهِ وطَلَبِ رِضا اللَّهِ تَعالى.
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ﴾ فِيهِ دَقِيقَةٌ، وهي أنَّ العاشِقَ إذا ضَرَبَهُ مَعْشُوقُهُ، فَرُبَّما نَظَرَ العاشِقُ لِذَلِكَ الضّارِبِ وفَرِحَ بِهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ﴾ مَحْمُولٌ عَلى هَذا المَجازِ، يَعْنِي كَما أنَّ العاشِقَ يَرْضى بِذَلِكَ الضَّرْبِ لِالتِذاذِهِ بِالنَّظَرِ إلى وجْهِ مَعْشُوقِهِ، فَكَذَلِكَ العَبْدُ يَصْبِرُ عَلى البَلاءِ والمِحْنَةِ، ويَرْضى بِهِ (p-٣٥)لِاسْتِغْراقِهِ في مَعْرِفَةِ نُورِ الحَقِّ وهَذِهِ دَقِيقَةٌ لَطِيفَةٌ.
القَيْدُ السّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿وأقامُوا الصَّلاةَ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ، وإنْ كانَتا داخِلَتَيْنِ في الجُمْلَةِ الأُولى، إلّا أنَّهُ تَعالى أفْرَدَها بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلى كَوْنِها أشْرَفَ مِن سائِرِ العِباداتِ، وقَدْ سَبَقَ في هَذا الكِتابِ تَفْسِيرُ إقامَةِ الصَّلاةِ، ولا يَمْتَنِعُ إدْخالُ النَّوافِلِ فِيهِ أيْضًا.
* * *
القَيْدُ الثّامِنُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهم سِرًّا وعَلانِيَةً﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المسألة الأُولى: قالَ الحَسَنُ: المُرادُ الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ، فَإنْ لَمْ يُتَّهَمْ بِتَرْكِ أداءِ الزَّكاةِ، فالأوْلى أداؤُها سِرًّا، وإنِ اتُّهِمَ بِتَرْكِ الزَّكاةِ فالأوْلى أداؤُها في العَلانِيَةِ، وقِيلَ السِّرُّ ما يُؤَدِّيهِ بِنَفْسِهِ والعَلانِيَةُ ما يُؤَدِّيهِ إلى الإمامِ، وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُرادُ الزَّكاةُ الواجِبَةُ والصَّدَقَةُ الَّتِي يُؤْتى بِها عَلى صِفَةِ التَّطَوُّعِ فَقَوْلُهُ: ﴿سِرًّا﴾ يَرْجِعُ إلى التَّطَوُّعِ وقَوْلُهُ: ﴿وعَلانِيَةً﴾ يَرْجِعُ إلى الزَّكاةِ الواجِبَةِ.
المسألة الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إنَّهُ تَعالى رَغَّبَ في الإنْفاقِ مِن كُلِّ ما كانَ رِزْقًا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا رِزْقَ إلّا الحَلالُ؛ إذْ لَوْ كانَ الحَرامُ رِزْقًا لَكانَ قَدْ رَغَّبَ تَعالى في إنْفاقِ الحَرامِ، وإنَّهُ لا يَجُوزُ.
القَيْدُ التّاسِعُ: قَوْلُهُ: ﴿ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهم إذا أتَوْا بِمَعْصِيَةٍ دَرَءُوها ودَفَعُوها بِالتَّوْبَةِ، كَما رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِمُعاذِ بْنِ جَبَلٍ: ”إذا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فاعْمَلْ بِجَنْبِها حَسَنَةً تَمْحُها“».
والثّانِي: أنَّ المُرادَ أنَّهم لا يُقابِلُونَ الشَّرَّ بِالشَّرِّ، بَلْ يُقابِلُونَ الشَّرَّ بِالخَيْرِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا﴾ [الفُرْقانِ: ٧٢] وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لَيْسَ الوَصُولُ مَن وُصِلَ، ثُمَّ وصَلَ، تِلْكَ المُجازاةُ لَكِنَّهُ مَن قُطِعَ ثُمَّ وصَلَ وعَطَفَ عَلى مَن لَمْ يَصِلْهُ، ولَيْسَ الحَلِيمُ مَن ظُلِمَ ثُمَّ حَلُمَ حَتّى إذا هَيَّجَهُ قَوْمٌ اهْتاجَ، لَكِنَّ الحَلِيمَ مَن قَدَرَ ثُمَّ عَفا، وعَنِ الحَسَنِ: هُمُ الَّذِينَ إذا حُرِمُوا أعْطَوْا وإذا ظُلِمُوا عَفَوْا، ويُرْوى أنَّ شَقِيقَ بْنَ إبْراهِيمَ البَلْخِيَّ دَخَلَ عَلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ مُتَنَكِّرًا، فَقالَ: مِن أيْنَ أنْتَ؟ فَقالَ: مِن بَلْخَ، فَقالَ: وهَلْ تَعْرِفُ شَقِيقًا؟ قالَ: نَعَمْ، فَقالَ: كَيْفَ طَرِيقَةُ أصْحابِهِ؟ فَقالَ: إذا مُنِعُوا صَبَرُوا وإنْ أُعْطُوا شَكَرُوا، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: طَرِيقَةُ كِلابِنا هَكَذا، فَقالَ: وكَيْفَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ؟ فَقالَ: الكامِلُونَ هُمُ الَّذِينَ إذا مُنِعُوا شَكَرُوا وإذا أُعْطُوا آثَرُوا.
* * *
واعْلَمْ أنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ القُيُودِ التِّسْعَةِ هي القُيُودُ المَذْكُورَةُ في الشَّرْطِ، أمّا القُيُودُ المَذْكُورَةُ في الجَزاءِ فَهي أرْبَعَةٌ:
القَيْدُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ لَهم عُقْبى الدّارِ﴾ أيْ عاقِبَةُ الدّارِ وهي الجَنَّةُ؛ لِأنَّها هي الَّتِي أرادَ اللَّهُ أنْ تَكُونَ عاقِبَةَ الدُّنْيا ومَرْجِعَ أهْلِها، قالَ الواحِدِيُّ: العُقْبى كالعاقِبَةِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرًا كالشُّورى والقُرْبى والرُّجْعى، وقَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذا أيْضًا عَلى فَعْلى كالنَّجْوى والدَّعْوى، وعَلى فِعْلى كالذِّكْرى والضِّيزى، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْمًا، وهو هاهُنا مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، والمَعْنى: أُولَئِكَ لَهم أنْ تُعْقُبَ أعْمالَهُمُ الدّارُ الَّتِي هي الجَنَّةُ.
القَيْدُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المسألة الأُولى: قالَ الزَّجّاجُ: جَنّاتُ عَدْنٍ بَدَلٌ مِن عُقْبى والكَلامُ في جَنّاتِ عَدْنٍ ذَكَرْناهُ مُسْتَقْصًى عِنْدَ (p-٣٦)قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ﴾ [التوبة: ٧٢]، وذَكَرْنا هُناكَ مَذْهَبَ المُفَسِّرِينَ، ومَذْهَبَ أهْلِ اللُّغَةِ.
المسألة الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو [يُدْخَلُونَها] بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الخاءِ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، والباقُونَ بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الخاءِ عَلى إسْنادِ الدُّخُولِ إلَيْهِمْ.
القَيْدُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قَرَأ ابْنُ عُلَيَّةَ [صَلُحَ] بِضَمِّ اللّامِ، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: والفَتْحُ أفْصَحُ.
المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: مَوْضِعُ ”مَن“ رَفْعٌ؛ لِأجْلِ العَطْفِ عَلى الواوِ في قَوْلِهِ: ﴿يَدْخُلُونَها﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَصْبًا كَما تَقُولُ: قَدْ دَخَلُوا وزَيْدًا أيْ مَعَ زَيْدٍ.
المسألة الثّالِثَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿ومَن صَلَحَ﴾ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ مَن صَدَقَ بِما صَدَقُوا بِهِ، وإنْ لَمْ يَعْمَلْ مِثْلَ أعْمالِهِمْ، وقالَ الزَّجّاجُ: بَيَّنَ تَعالى أنَّ الأنْسابَ لا تَنْفَعُ إذا لَمْ يَحْصُلْ مَعَها أعْمالٌ صالِحَةٌ، بَلِ الآباءُ والأزْواجُ والذُّرِّيّاتُ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إلّا بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ، قالَ الواحِدِيُّ: والصَّحِيحُ ما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ مِن ثَوابِ المُطِيعِ سُرُورَهُ بِحُضُورِ أهْلِهِ مَعَهُ في الجَنَّةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهم يَدْخُلُونَها كَرامَةً لِلْمُطِيعِ الآتِي بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ، ولَوْ دَخَلُوها بِأعْمالِهِمُ الصّالِحَةِ لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ كَرامَةٌ لِلْمُطِيعِ ولا فائِدَةٌ في الوَعْدِ بِهِ، إذْ كُلُّ مَن كانَ مُصْلِحًا في عَمَلِهِ فَهو يَدْخُلُ الجَنَّةَ.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الحُجَّةَ ضَعِيفَةٌ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ بِشارَةُ المُطِيعِ بِكُلِّ ما يَزِيدُهُ سُرُورًا وبَهْجَةً، فَإذا بَشَّرَ اللَّهُ المُكَلَّفَ بِأنَّهُ إذا دَخَلَ الجَنَّةَ فَإنَّهُ يَحْضُرُ مَعَهُ آباؤُهُ وأزْواجُهُ وأوْلادُهُ، فَلا شَكَّ أنَّهُ يَعْظُمُ سُرُورُ المُكَلَّفِ بِذَلِكَ وتَقْوى بَهْجَتُهُ بِهِ، ويُقالُ: إنَّ مِن أعْظَمِ مُوجِباتِ سُرُورِهِمْ أنْ يَجْتَمِعُوا فَيَتَذاكَرُوا أحْوالَهم في الدُّنْيا، ثُمَّ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلى الخَلاصِ مِنها والفَوْزِ بِالجَنَّةِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى في صِفَةِ أهْلِ الجَنَّةِ إنَّهم يَقُولُونَ: ﴿يالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ ﴿بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ﴾ [يس: ٢٧].
المسألة الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وأزْواجِهِمْ﴾ لَيْسَ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى التَّمْيِيزِ بَيْنَ زَوْجَةٍ وزَوْجَةٍ، ولَعَلَّ الأوْلى مَن ماتَ عَنْها أوْ ماتَتْ عَنْهُ، وما رُوِيَ «عَنْ سَوْدَةَ أنَّهُ لَمّا هَمَّ الرَّسُولُ ﷺ بِطَلاقِها قالَتْ: دَعْنِي يا رَسُولَ اللَّهِ أُحْشَرُ في زُمْرَةِ نِسائِكَ»، كالدَّلِيلِ عَلى ما ذَكَرْناهُ.
والقَيْدُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَهم خَيْمَةٌ مِن دُرَّةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُها فَرْسَخٌ وعَرْضُها فَرْسَخٌ، لَها ألْفُ بابٍ مَصارِيعُها مِن ذَهَبٍ، يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ مِن كُلِّ بابٍ يَقُولُونَ لَهم: ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ﴾ عَلى أمْرِ اللَّهِ. وقالَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ: مِن كُلِّ بابٍ مِن أبْوابِ البِرِّ كَبابِ الصَّلاةِ وبابِ الزَّكاةِ وبابِ الصَّبْرِ، ويَقُولُونَ: ونِعْمَ ما أعْقَبَكُمُ اللَّهُ بَعْدَ الدّارِ الأُولى.
واعْلَمْ أنَّ دُخُولَ المَلائِكَةِ إنْ حَمَلْناهُ عَلى الوجه الأوَّلِ فَهو مَرْتَبَةٌ عَظِيمَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أخْبَرَ عَنْ هَؤُلاءِ المُطِيعِينَ أنَّهم يَدْخُلُونَ جَنَّةَ الخُلْدِ، ويَجْتَمِعُونَ بِآبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ عَلى أحْسَنِ وجْهٍ، ثُمَّ إنَّ المَلائِكَةَ مَعَ جَلالَةِ مَراتِبِهِمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ لِأجْلِ التَّحِيَّةِ والإكْرامِ عِنْدَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ يُكْرِمُونَهم بِالتَّحِيَّةِ (p-٣٧)والسَّلامِ ويُبَشِّرُونَهم بِقَوْلِهِمْ: ﴿فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ ولا شَكَّ أنَّ هَذا غَيْرُ ما يَذْكُرُهُ المُتَكَلِّمُونَ مِن أنَّ الثَّوابَ مَنفَعَةٌ خالِصَةٌ دائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالإجْلالِ والتَّعْظِيمِ، «وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ كانَ يَأْتِي قُبُورَ الشُّهَداءِ رَأْسَ كُلِّ حَوْلٍ فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ» والخُلَفاءُ الأرْبَعَةُ هَكَذا كانُوا يَفْعَلُونَ، وأمّا إنْ حَمَلْناهُ عَلى الوجه الثّانِي فَتَفْسِيرُ الآيَةِ أنَّ المَلائِكَةَ طَوائِفُ، مِنهم رُوحانِيُّونَ، ومِنهم كَرُوبِيُّونَ، فالعَبْدُ إذا راضَ نَفْسَهُ بِأنْواعِ الرِّياضاتِ كالصَّبْرِ والشُّكْرِ والمُراقَبَةِ والمُحاسَبَةِ، ولِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِن هَذِهِ المَراتِبِ جَوْهَرٌ قُدُسِيٌّ ورُوحٌ عُلْوِيٌّ يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مَزِيدَ اخْتِصاصٍ؛ فَعِنْدَ المَوْتِ إذا أشْرَقَتْ تِلْكَ الجَواهِرُ القُدُسِيَّةُ تَجَلَّتْ فِيها مِن كُلِّ رُوحٍ مِنَ الأرْواحِ السَّماوِيَّةِ ما يُناسِبُها مِنَ الصِّفَةِ المَخْصُوصَةِ بِها فَيَفِيضُ عَلَيْها مِن مَلائِكَةِ الصَّبْرِ كِمالاتٌ مَخْصُوصَةٌ نَفْسانِيَّةٌ لا تَظْهَرُ إلّا في مَقامِ الصَّبْرِ، ومِن مَلائِكَةِ الشُّكْرِ كِمالاتٌ رُوحانِيَّةٌ لا تَتَجَلّى إلّا مِن مَقامِ الشُّكْرِ وهَكَذا القَوْلُ في جَمِيعِ المَراتِبِ.
* * *
المسألة الثّانِيَةُ: تَمَسَّكَ بَعْضُهم بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المَلَكَ أفْضَلُ مِنَ البَشَرِ، فَقالَ: إنَّهُ سُبْحانَهُ خَتَمَ مَراتِبَ سَعاداتِ البَشَرِ بِدُخُولِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمْ عَلى سَبِيلِ التَّحِيَّةِ والإكْرامِ والتَّعْظِيمِ، فَكانُوا بِهِ أجَلَّ مَرْتَبَةً مِنَ البَشَرِ، ولَوْ كانُوا أقَلَّ مَرْتَبَةً مِنَ البَشَرِ لَما كانَ دُخُولُهم عَلَيْهِمْ لِأجْلِ السَّلامِ والتَّحِيَّةِ مُوجِبًا عُلُوَّ دَرَجاتِهِمْ وشَرَفَ مَراتِبِهِمْ، ألا تَرى أنَّ مَن عادَ مِن سَفَرِهِ إلى بَيْتِهِ، فَإذا قِيلَ في مَعْرِضِ كَمالِ مَرْتَبَتِهِ: إنَّهُ يَزُورُهُ الأمِيرُ والوَزِيرُ والقاضِي والمُفْتِي، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ دَرَجَةَ ذَلِكَ المَزُورِ أقَلُّ وأدْنى مِن دَرَجاتِ الزّائِرِينَ، فَكَذَلِكَ هاهُنا.
المسألة الثّالِثَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: هاهُنا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ المَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ ويَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكم، فَأُضْمِرَ القَوْلُ هاهُنا؛ لِأنَّ في الكَلامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وأما قوله: ﴿بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّلامِ، والمَعْنى: أنَّهُ إنَّما حَصَلَتْ لَكم هَذِهِ السَّلامَةُ بِواسِطَةِ صَبْرِكم عَلى الطّاعاتِ، وتَرْكِ المُحَرَّماتِ.
والثّانِي: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: أنَّ هَذِهِ الكَراماتِ الَّتِي تَرَوْنَها، وهَذِهِ الخَيْراتِ الَّتِي تُشاهِدُونَها إنَّما حَصَلَتْ بِواسِطَةِ ذَلِكَ الصَّبْرِ.
{"ayahs_start":20,"ayahs":["ٱلَّذِینَ یُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا یَنقُضُونَ ٱلۡمِیثَـٰقَ","وَٱلَّذِینَ یَصِلُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَیَخَافُونَ سُوۤءَ ٱلۡحِسَابِ","وَٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ ٱبۡتِغَاۤءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا۟ مِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ سِرࣰّا وَعَلَانِیَةࣰ وَیَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّیِّئَةَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ","جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ یَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَدۡخُلُونَ عَلَیۡهِم مِّن كُلِّ بَابࣲ","سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ یَصِلُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَیَخَافُونَ سُوۤءَ ٱلۡحِسَابِ"}