الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا تاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وإنْ كُنّا لَخاطِئِينَ﴾ ﴿قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكم وهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَألْقُوهُ عَلى وجْهِ أبِي يَأْتِ بَصِيرًا وأْتُونِي بِأهْلِكم أجْمَعِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ذَكَرَ لِإخْوَتِهِ أنَّ اللَّهَ تَعالى مَنَّ عَلَيْهِ، وأنَّ مَن يَتَّقِ المَعاصِيَ ويَصْبِرْ عَلى أذى النّاسِ فَإنَّهُ لا يُضَيِّعُهُ اللَّهُ صَدَّقُوهُ فِيهِ، واعْتَرَفُوا لَهُ بِالفَضْلِ والمَزِيَّةِ ﴿قالُوا تاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وإنْ كُنّا لَخاطِئِينَ﴾ قالَ الأصْمَعِيُّ: يُقالُ: آثَرَكَ إيثارًا، أيْ: فَضَّلَكَ اللَّهُ، وفُلانٌ آثَرَ عَبْدَ فُلانٍ؛ إذا كانَ يُؤْثِرُهُ بِفَضْلِهِ وصِلَتِهِ، والمَعْنى: لَقَدْ فَضَّلَكَ اللَّهُ عَلَيْنا بِالعِلْمِ والحِلْمِ والعَقْلِ والفَضْلِ والحُسْنِ والمُلْكِ، واحْتَجَّ بَعْضُهم بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ إخْوَتَهُ ما كانُوا أنْبِياءَ، لِأنَّ جَمِيعَ المَناصِبِ الَّتِي تَكُونُ مُغايِرَةً لِمَنصِبِ النُّبُوَّةِ كالعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، فَلَوْ شارَكُوهُ في مَنصِبِ النُّبُوَّةِ لَما قالُوا: ﴿تاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا﴾ وبِهَذا التَّقْدِيرِ يَذْهَبُ سُؤالُ مَن يَقُولُ لَعَلَّ المُرادَ كَوْنُهُ زائِدًا عَلَيْهِمْ في المُلْكِ وأحْوالِ الدُّنْيا، وإنْ شارَكُوهُ في النُّبُوَّةِ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ أحْوالَ الدُّنْيا لا يُعْبَأُ بِها في جَنْبِ مَنصِبِ النُّبُوَّةِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وإنْ كُنّا لَخاطِئِينَ﴾ قِيلَ: الخاطِئُ هو الَّذِي أتى بِالخَطِيئَةِ عَمْدًا، وفُرِّقَ بَيْنَ الخاطِئِ والمُخْطِئِ، فَلِهَذا الفَرْقِ يُقالُ لِمَن يَجْتَهِدُ في الأحْكامِ فَلا يُصِيبُ إنَّهُ مُخْطِئٌ، ولا يُقالُ: إنَّهُ خاطِئٌ، وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ الَّذِي اعْتَذَرُوا مِنهُ هو إقْدامُهم عَلى إلْقائِهِ في الجُبِّ وبَيْعِهِ وتَبْعِيدِهِ عَنِ البَيْتِ والأبِ، وقالَ (p-١٦٤)أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ: إنَّهم لَمْ يَعْتَذِرُوا إلَيْهِ مِن ذَلِكَ، لِأنَّ ذَلِكَ وقَعَ مِنهم قَبْلَ البُلُوغِ فَلا يَكُونُ ذَنْبًا فَلا يُعْتَذَرُ مِنهُ، وإنَّما اعْتَذَرُوا مِن حَيْثُ إنَّهم أخْطَئُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأنْ لَمْ يُظْهِرُوا لِأبِيهِمْ ما فَعَلُوهُ، لِيَعْلَمَ أنَّهُ حَيٌّ وأنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ، وهَذا الكَلامُ ضَعِيفٌ مِن وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنّا بَيَّنّا أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهم أقْدَمُوا عَلى تِلْكَ الأعْمالِ في زَمَنِ الصِّبا لِأنَّهُ مِنَ البَعِيدِ في مِثْلِ يَعْقُوبَ أنْ يَبْعَثَ جَمْعًا مِنَ الصِّبْيانِ غَيْرِ البالِغِينَ مِن غَيْرِ أنْ يَبْعَثَ مَعَهم رَجُلًا عاقِلًا يَمْنَعُهم عَمّا لا يَنْبَغِي ويَحْمِلُهم عَلى ما يَنْبَغِي. الوَجْهُ الثّانِي: هَبْ أنَّ الأمْرَ عَلى ما ذَكَرَهُ الجُبّائِيُّ إلّا أنّا نَقُولُ: غايَةُ ما في البابِ أنَّهُ لا يَجِبُ الِاعْتِذارُ عَنْ ذَلِكَ إلّا أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ يَحْسُنُ الِاعْتِذارُ عَنْهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ المُذْنِبَ إذا تابَ زالَ عِقابُهُ، ثُمَّ قَدْ يُعِيدُ التَّوْبَةَ والِاعْتِذارَ مَرَّةً أُخْرى، فَعَلِمْنا أنَّ الإنْسانَ أيْضًا قَدْ يَتُوبُ عِنْدَما لا تَكُونُ التَّوْبَةُ واجِبَةً عَلَيْهِ. واعْلَمْ أنَّهم لَمّا اعْتَرَفُوا بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وبِكَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ خاطِئِينَ قالَ يُوسُفُ: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: التَّثْرِيبُ التَّوْبِيخُ، ومِنهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكم؛ فَلْيَضْرِبْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْها» أيْ: ولا يُعَيِّرْها بِالزِّنا، فَقَوْلُهُ: ﴿لا تَثْرِيبَ﴾ أيْ لا تَوْبِيخَ ولا عَيْبَ، وأصْلُ التَّثْرِيبِ مِنَ الثَّرْبِ وهو الشَّحْمُ الَّذِي هو غاشِيَةُ الكِرْشِ. ومَعْناهُ إزالَةُ الثَّرْبِ كَما أنَّ التَّجْلِيدَ إزالَةُ الجِلْدِ، قالَ عَطاءٌ الخُراسانِيُّ: طَلَبُ الحَوائِجِ إلى الشَّبابِ أسْهَلُ مِنها إلى الشُّيُوخِ؛ ألا تَرى إلى قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِإخْوَتِهِ: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾ وقَوْلِ يَعْقُوبَ: ﴿سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي﴾ (يُوسُفَ: ٩٨) ؟ البَحْثُ الثّانِي: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿اليَوْمَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِماذا، وفِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَثْرِيبَ﴾ أيْ لا أُثَرِّبُكُمُ اليَوْمَ، وهو اليَوْمُ الَّذِي هو مَظِنَّةُ التَّثْرِيبِ، فَما ظَنُّكم بِسائِرِ الأيّامَ، وفِيهِ احْتِمالٌ آخَرُ وهو أنِّي حَكَمْتُ في هَذا اليَوْمِ بِأنْ لا تَثْرِيبَ مُطْلَقًا لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تَثْرِيبَ﴾ نَفْيٌ لِلْماهِيَّةِ، ونَفْيُ الماهِيَّةِ يَقْتَضِي انْتِفاءَ جَمِيعِ أفْرادِ الماهِيَّةِ، فَكانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلنَّفْيِ المُتَناوِلِ لِكُلِّ الأوْقاتِ والأحْوالِ، فَتَقْدِيرُ الكَلامِ: اليَوْمَ حَكَمْتُ بِهَذا الحُكْمِ العامِّ المُتَناوِلِ لِكُلِّ الأوْقاتِ والأحْوالِ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا بَيَّنَّ لَهم أنَّهُ أزالَ عَنْهم مَلامَةَ الدُّنْيا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أنْ يُزِيلَ عَنْهم عِقابَ الآخِرَةِ، فَقالَ: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾، والمُرادُ مِنهُ الدُّعاءُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿اليَوْمَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ كَأنَّهُ لَمّا نَفى التَّثْرِيبَ مُطْلَقًا بَشَّرَهم بِأنَّ اللَّهَ غَفَرَ ذَنْبَهم في هَذا اليَوْمِ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا انْكَسَرُوا وخَجِلُوا واعْتَرَفُوا وتابُوا فاللَّهُ قَبِلَ تَوْبَتَهم وغَفَرَ ذَنْبَهم، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ رُوِيَ أنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «أخَذَ بِعِضادَتَيْ بابِ الكَعْبَةِ يَوْمَ الفَتْحِ، وقالَ لِقُرَيْشٍ: ”ما تَرَوْنِي فاعِلًا بِكُمْ“ فَقالُوا: نَظُنُّ خَيْرًا أخٌ كَرِيمٌ وابْنُ أخٍ كَرِيمٍ وقَدْ قَدَرْتَ، فَقالَ: ”أقُولُ ما قالَ أخِي يُوسُفُ: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ﴾“» ورُوِيَ «أنَّ أبا سُفْيانَ لَمّا جاءَ لِيُسَلِّمَ قالَ لَهُ العَبّاسُ: إذا أتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ- فاتْلُ عَلَيْهِ: ﴿قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ﴾ فَفَعَلَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ولِمَن عَلَّمَكَ“»، ورُوِيَ أنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمّا عَرَفُوهُ أرْسَلُوا إلَيْهِ: إنَّكَ تُحْضِرُنا في مائِدَتِكَ بُكْرَةً وعَشِيًّا، ونَحْنُ نَسْتَحِي مِنكَ (p-١٦٥)لِما صَدَرَ مِنّا مِنَ الإساءَةِ إلَيْكَ، فَقالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ: إنَّ أهْلَ مِصْرَ وإنْ مُلِّكْتُ فِيهِمْ فَإنَّهم يَنْظُرُونِي بِالعَيْنِ الأُولى، ويَقُولُونَ: سُبْحانَ مَن بَلَّغَ عَبْدًا بِيعَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا ما بَلَغَ، ولَقَدْ شَرُفْتُ الآنَ بِإتْيانِكم، وعَظُمْتُ في العُيُونِ لَمّا جِئْتُمْ وعَلِمَ النّاسُ أنَّكم إخْوَتِي، وأنِّي مِن حَفَدَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. ثُمَّ قالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَألْقُوهُ عَلى وجْهِ أبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا عَرَفَهم يُوسُفُ سَألَهم عَنْ أبِيهِ فَقالُوا: ذَهَبَتْ عَيْناهُ، فَأعْطاهم قَمِيصَهُ، قالَ المُحَقِّقُونَ: إنَّما عَرَفَ أنَّ إلْقاءَ ذَلِكَ القَمِيصِ عَلى وجْهِهِ يُوجِبُ قُوَّةَ البَصَرِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ولَوْلا الوَحْيُ لَما عَرَفَ ذَلِكَ، لِأنَّ العَقْلَ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: لَعَلَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلِمَ أنَّ أباهُ ما صارَ أعْمى، إلّا أنَّهُ مِن كَثْرَةِ البُكاءِ وضِيقِ القَلْبِ ضَعُفَ بَصَرُهُ، فَإذا أُلْقِيَ عَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَلا بُدَّ أنْ يَنْشَرِحَ صَدْرُهُ، وأنْ يَحْصُلَ في قَلْبِهِ الفَرَحُ الشَّدِيدُ، وذَلِكَ يُقَوِّي الرُّوحَ ويُزِيلُ الضَّعْفَ عَنِ القُوى، فَحِينَئِذٍ يَقْوى بَصَرُهُ، ويَزُولُ عَنْهُ ذَلِكَ النُّقْصانُ، فَهَذا القَدْرُ مِمّا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالقَلْبِ، فَإنَّ القَوانِينَ الطِّبِّيَّةَ تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا المَعْنى. وقَوْلُهُ: ﴿يَأْتِ بَصِيرًا﴾ أيْ يَصِيرُ بَصِيرًا، ويَشْهَدُ لَهُ ﴿فارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ (يُوسُفَ: ٩٦) ويُقالُ: المُرادُ يَأْتِ إلَيَّ وهو بَصِيرٌ، وإنَّما أفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ، وقالَ في الباقِينَ: ﴿وأْتُونِي بِأهْلِكم أجْمَعِينَ﴾، قالَ الكَلْبِيُّ: كانَ أهْلُهُ نَحْوًا مِن سَبْعِينَ إنْسانًا، وقالَ مَسْرُوقٌ: دَخَلَ قَوْمُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِصْرَ، وهم ثَلاثَةٌ وتِسْعُونَ مِن بَيْنِ رَجُلٍ وامْرَأةٍ، ورُوِيَ أنَّ يَهُودا حَمَلَ الكِتابَ وقالَ: أنا أحْزَنْتُهُ بِحَمْلِ القَمِيصِ المُلَطَّخِ بِالدَّمِ إلَيْهِ؛ فَأُفْرِحُهُ كَما أحْزَنْتُهُ، وقِيلَ: حَمَلَهُ وهو حافٍ وحاسِرٌ مِن مِصْرَ إلى كَنْعانَ، وبَيْنَهُما مَسِيرَةُ ثَمانِينَ فَرْسَخًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب