الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَوَلّى عَنْهم وقالَ ياأسَفى عَلى يُوسُفَ وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهو كَظِيمٌ﴾ ﴿قالُوا تاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضًا أوْ تَكُونَ مِنَ الهالِكِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ وأعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿يابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وأخِيهِ ولا تَيْأسُوا مِن رَوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْئَسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الكافِرُونَ﴾ (p-١٥٤) واعْلَمْ أنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا سَمِعَ كَلامَ أبْنائِهِ ضاقَ قَلْبُهُ جِدًّا، وأعْرَضَ عَنْهم وفارَقَهم ثُمَّ بِالآخِرَةِ طَلَبَهم وعادَ إلَيْهِمْ. أمّا المَقامُ الأوَّلُ: وهو أنَّهُ أعْرَضَ عَنْهم، وفَرَّ مِنهم فَهو قَوْلُهُ: ﴿وتَوَلّى عَنْهم وقالَ ياأسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا ضاقَ صَدْرُهُ بِسَبَبِ الكَلامِ الَّذِي سَمِعَهُ مِن أبْنائِهِ في حَقِّ بِنْيامِينَ عَظُمَ أسَفُهُ عَلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وقالَ ياأسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ وإنَّما عَظُمَ حُزْنُهُ عَلى مُفارَقَةِ يُوسُفَ عِنْدَ هَذِهِ الواقِعَةِ لِوُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الحُزْنَ الجَدِيدَ يُقَوِّي الحُزْنَ القَدِيمَ الكامِنَ، والقِدْحُ إذا وقَعَ عَلى القِدْحِ كانَ أوْجَعَ. وقالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ: ؎وقَدْ لامَنِي عِنْدَ القُبُورِ عَلى البُكا رَفِيقِي لِتِذْرافِ الدُّمُوعِ السَّوافِكِ ؎فَقالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأيْتَهُ ∗∗∗ لِقَبْرٍ ثَوى بَيْنَ اللِّوى والدَّكادِكِ ؎فَقُلْتُ لَهُ إنَّ الأسى يَبْعَثُ الأسى ∗∗∗ فَدَعْنِي فَهَذا كُلُّهُ قَبْرُ مالِكِ وذَلِكَ لِأنَّهُ إذا رَأى قَبْرًا فَتَجَدَّدَ حُزْنُهُ عَلى أخِيهِ مالِكٍ فَلامُوهُ عَلَيْهِ، فَأجابَ بِأنَّ الأسى يَبْعَثُ الأسى. وقالَ آخَرُ: ؎فَلَمْ تُنْسِنِي أوْفى المُصِيباتِ بَعْدَهُ ∗∗∗ ولَكِنَّ نَكْءَ القَرْحِ بِالقَرْحِ أوْجَعُ والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ بِنْيامِينَ ويُوسُفَ كانا مِن أُمٍّ واحِدَةٍ، وكانَتِ المُشابَهَةُ بَيْنَهُما في الصُّورَةِ والصِّفَةِ أكْمَلَ، فَكانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَتَسَلّى بِرُؤْيَتِهِ عَنْ رُؤْيَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمّا وقَعَ ما وقَعَ زالَ ما يُوجِبُ السَّلْوَةَ، فَعَظُمَ الألَمُ والوَجْدُ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ المُصِيبَةَ في يُوسُفَ كانَتْ أصْلَ مَصائِبِهِ الَّتِي عَلَيْها تَرَتَّبَ سائِرُ المَصائِبِ والرَّزايا، وكانَ الأسَفُ عَلَيْهِ أسَفًا عَلى الكُلِّ. الرّابِعُ: أنَّ هَذِهِ المَصائِبَ الجَدِيدَةَ كانَتْ أسْبابُها جارِيَةً مَجْرى الأُمُورِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُها والبَحْثُ عَنْها. وأمّا واقِعَةُ يُوسُفَ فَهو عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَعْلَمُ كَذِبَهم في السَّبَبِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وأمّا السَّبَبُ الحَقِيقِيُّ فَما كانَ مَعْلُومًا لَهُ، وأيْضًا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَعْلَمُ أنَّ هَؤُلاءِ في الحَياةِ، وأمّا يُوسُفُ فَما كانَ يَعْلَمُ أنَّهُ حَيٌّ أوْ مَيِّتٌ، فَلِهَذِهِ الأسْبابِ عَظُمَ وجْدُهُ عَلى مُفارَقَتِهِ وقَوِيَتْ مُصِيبَتُهُ عَلى الجَهْلِ بِحالِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مِنَ الجُهّالِ مَن عابَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ياأسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ قالَ: لِأنَّ هَذا إظْهارٌ لِلْجَزَعِ وجارٍ مَجْرى الشِّكايَةِ مِنَ اللَّهِ وأنَّهُ لا يَجُوزُ، والعُلَماءُ بَيَّنُوا أنَّهُ لَيْسَ الأمْرُ كَما ظَنَّهُ هَذا الجاهِلُ، وتَقْرِيرُهُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الكَلِمَةَ ثُمَّ عَظُمَ بُكاؤُهُ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ﴾ ثُمَّ أمْسَكَ لِسانَهُ عَنِ النِّياحَةِ وذِكْرِ ما لا يَنْبَغِي، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ ثُمَّ إنَّهُ ما أظْهَرَ الشِّكايَةَ مَعَ أحَدٍ مِنَ الخَلْقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمّا عَظُمَتْ مُصِيبَتُهُ وقَوِيَتْ مِحْنَتُهُ؛ فَإنَّهُ صَبَرَ وتَجَرَّعَ الغُصَّةَ وما أظْهَرَ الشِّكايَةَ، فَلا جَرَمَ اسْتَوْجَبَ بِهِ المَدْحَ العَظِيمَ والثَّناءَ العَظِيمَ. رُوِيَ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ سَألَ جِبْرِيلَ: هَلْ لَكَ عِلْمٌ بِيَعْقُوبَ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: وكَيْفَ حُزْنُهُ ؟ (p-١٥٥)قالَ: حُزْنُ سَبْعِينَ ثَكْلى، وهي الَّتِي لَها ولَدٌ واحِدٌ ثُمَّ يَمُوتُ. قالَ: فَهَلْ لَهُ فِيهِ أجْرٌ ؟ قالَ: نَعَمْ. أجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ. فَإنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الباقِرِ، قالَ: (مَرَّ بِيَعْقُوبَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقالَ لَهُ: أنْتَ إبْراهِيمُ ؟ فَقالَ: أنا ابْنُ ابْنِهِ، والهُمُومُ غَيَّرَتْنِي وذَهَبَتْ بِحُسْنِي وقُوَّتِي، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ: ”حَتّى مَتى تَشْكُونِي إلى عِبادِي، وعِزَّتِي وجَلالِي لَوْ لَمْ تَشْكُنِي لَأبْدَلْتُكَ لَحْمًا خَيْرًا مِن لَحْمِكَ ودَمًا خَيْرًا مِن دَمِكَ) فَكانَ مِن بَعْدُ يَقُولُ: إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ، وعَنِ النَّبِيِّﷺ أنَّهُ قالَ: «كانَ لِيَعْقُوبَ أخٌ مُواخٍ، فَقالَ لَهُ: ما الَّذِي أذْهَبَ بَصَرَكَ وقَوَّسَ ظَهْرَكَ ؟ فَقالَ: الَّذِي أذْهَبَ بَصَرِي البُكاءُ عَلى يُوسُفَ، وقَوَّسَ ظَهْرِي الحُزْنُ عَلى بِنْيامِينَ، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ: أما تَسْتَحِي تَشْكُونِي إلى غَيْرِي ! فَقالَ: إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ، فَقالَ: يا رَبِّ أما تَرْحَمُ الشَّيْخَ الكَبِيرَ، قَوَّسْتَ ظَهْرِي، وأذْهَبْتَ بَصَرِي، فارْدُدْ عَلَيَّ رَيْحانَتَيَّ يُوسُفَ وبِنْيامِينَ؛ فَأتاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالبُشْرى وقالَ: لَوْ كانا مَيِّتَيْنِ لَنَشَرْتُهُما لَكَ؛ فاصْنَعْ طَعامًا لِلْمَساكِينِ، فَإنَّ أحَبَّ عِبادِي إلَيَّ الأنْبِياءُ والمَساكِينُ، وكانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ إذا أرادَ الغَداءَ نادى مُنادِيهِ: مَن أرادَ الغَداءَ فَلْيَتَغَدَّ مَعَ يَعْقُوبَ، وإذا كانَ صائِمًا نادى مِثْلَهُ عِنْدَ الإفْطارِ» . ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يَرْفَعُ حاجِبَيْهِ بِخِرْقَةٍ مِنَ الكِبَرِ، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ: ما هَذا الَّذِي أراهُ بِكَ ؟ قالَ: طُولُ الزَّمانِ وكَثْرَةُ الأحْزانِ، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: أتَشْكُونِي يا يَعْقُوبُ ؟ فَقالَ: يا رَبِّ خَطِيئَةٌ أخْطَأْتُها؛ فاغْفِرْها لِي. قُلْنا: إنّا قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّهُ لَمْ يَأْتِ إلّا بِالصَّبْرِ والثَّباتِ وتَرْكِ النِّياحَةِ. ورُوِيَ أنَّ مَلَكَ المَوْتِ دَخَلَ عَلى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ لَهُ: جِئْتَ لِتَقْبِضَنِي قَبْلَ أنْ أرى حَبِيبَيَّ ؟ فَقالَ: لا، ولَكِنْ جِئْتُ لِأحْزَنَ لِحُزْنِكَ وأشْجُوَ لَشَجْوِكَ، وأمّا البُكاءُ فَلَيْسَ مِنَ المَعاصِي. ورُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بَكى عَلى ولَدِهِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقالَ: «إنَّ القَلْبَ لَيَحْزَنُ، والعَيْنَ تَدْمَعُ، ولا نَقُولُ ما يُسْخِطُ الرَّبَّ، وإنّا عَلَيْكَ يا إبْراهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» . وأيْضًا فاسْتِيلاءُ الحُزْنِ عَلى الإنْسانِ لَيْسَ بِاخْتِيارِهِ، فَلا يَكُونُ ذَلِكَ داخِلًا تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وأمّا التَّأوُّهُ وإرْسالُ البُكاءِ فَقَدْ يَصِيرُ بِحَيْثُ لا يَقْدِرُ عَلى دَفْعِهِ، وأمّا ما ورَدَ في الرِّواياتِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ فالمُعاتَبَةُ فِيها إنَّما كانَتْ لِأجْلِ أنَّ حَسَناتِ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ. وأيْضًا فَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرى وهي أنَّ الإنْسانَ إذا كانَ في مَوْضِعِ التَّحَيُّرِ والتَّرَدُّدِ لا بُدَّ وأنْ يَرْجِعَ إلى اللَّهِ تَعالى، فَيَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ يَعْلَمُ أنَّ يُوسُفَ بَقِيَ حَيًّا أمْ صارَ مَيِّتًا، فَكانَ مُتَوَقِّفًا فِيهِ وبِسَبَبِ تَوَقُّفِهِ كانَ يُكْثِرُ الرُّجُوعَ إلى اللَّهِ تَعالى ويَنْقَطِعُ قَلْبُهُ عَنِ الِالتِفاتِ عَنْ كُلِّ ما سِوى اللَّهِ تَعالى إلّا في هَذِهِ الواقِعَةِ، وكانَ أحْوالُهُ في هَذِهِ الواقِعَةِ مُخْتَلِفَةً، فَرُبَّما صارَ في بَعْضِ الأوْقاتِ مُسْتَغْرِقَ الهَمِّ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، فانِيًا عَنْ تَذَكُّرِ هَذِهِ الواقِعَةِ، فَكانَ ذِكْرُها كَلا سِواها، فَلِهَذا السَّبَبِ صارَتْ هَذا الواقِعَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ جارِيَةً مَجْرى الإلْقاءِ في النّارِ لِلْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ ومَجْرى الذَّبْحِ لِابْنِهِ الذَّبِيحِ. فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ أنَّ الأوْلى عِنْدَ نُزُولِ المُصِيبَةِ الشَّدِيدَةِ أنْ يَقُولَ: ﴿إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ حَتّى يَسْتَوْجِبَ الثَّوابَ العَظِيمَ المَذْكُورَ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِن رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ (البَقَرَةِ: ١٥٧) . قُلْنا: قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّهُ لَمْ يُعْطِ الِاسْتِرْجاعَ أُمَّةً إلّا هَذِهِ الأُمَّةَ فَأكْرَمَهُمُ اللَّهُ تَعالى إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ. وهَذا عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأنَّ قَوْلَهُ: (إنّا لِلَّهِ) إشارَةٌ إلى أنّا مَمْلُوكُونَ لِلَّهِ وهو الَّذِي خَلَقَنا وأوْجَدَنا، وقَوْلَهُ: ﴿وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الحَشْرِ والقِيامَةِ، ومِنَ المُحالِ أنَّ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ لا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، فَمَن عَرَفَ عِنْدَ نُزُولِ بَعْضِ المَصائِبِ بِهِ أنَّهُ لا بُدَّ في العاقِبَةِ مِن رُجُوعِهِ إلى اللَّهِ تَعالى، فَهُناكَ تَحْصُلُ السَّلْوَةُ التّامَّةُ عِنْدَ (p-١٥٦)تِلْكَ المُصِيبَةِ، ومِنَ المُحالِ أنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ بِاللَّهِ غَيْرَ عارِفٍ بِذَلِكَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ياأسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ نِداءُ الأسَفِ وهو كَقَوْلِهِ:“يا عَجَبًا”والتَّقْدِيرُ كَأنَّهُ يُنادِي الأسَفَ ويَقُولُ: هَذا وقْتُ حُصُولِكَ وأوانُ مَجِيئِكَ وقَدْ قَرَّرْنا هَذا المَعْنى في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِنها في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿حاشَ لِلَّهِ﴾ (يُوسُفَ: ٣١) والأسَفُ الحُزْنُ عَلى ما فاتَ. قالَ اللَّيْثُ: إذا جاءَكَ أمْرٌ فَحَزِنْتَ لَهُ ولَمْ تُطِقْهُ فَأنْتَ أسِيفٌ أيْ حَزِينٌ ومُتَأسِّفٌ أيْضًا. قالَ الزَّجّاجُ: الأصْلُ (يا أسَفِي) إلّا أنَّ ياءَ الإضافَةِ يَجُوزُ إبْدالُها بِالألِفِ لِخِفَّةِ الألِفِ والفَتْحَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا قالَ: يا أسَفى عَلى يُوسُفَ غَلَبَهُ البُكاءُ، وعِنْدَ غَلَبَةِ البُكاءِ يَكْثُرُ الماءُ في العَيْنِ فَتَصِيرُ العَيْنُ كَأنَّها ابْيَضَّتْ مِن بَياضِ ذَلِكَ الماءِ، وقَوْلُهُ: ﴿وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ﴾ كِنايَةٌ عَنْ غَلَبَةِ البُكاءِ، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ أنَّ تَأْثِيرَ الحُزْنِ في غَلَبَةِ البُكاءِ لا في حُصُولِ العَمى، فَلَوْ حَمَلْنا الِابْيِضاضَ عَلى غَلَبَةِ البُكاءِ كانَ هَذا التَّعْلِيلُ حَسَنًا، ولَوْ حَمَلْناهُ عَلى العَمى لَمْ يَحْسُنْ هَذا التَّعْلِيلُ، فَكانَ ما ذَكَرْناهُ أوْلى، وهَذا التَّفْسِيرُ مَعَ الدَّلِيلِ رَواهُ الواحِدِيُّ في“البَسِيطِ" عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ هو العَمى، قالَ مُقاتِلٌ: لَمْ يُبْصِرْ بِهِما سِتَّ سِنِينَ حَتّى كَشَفَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِقَمِيصِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَألْقُوهُ عَلى وجْهِ أبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾ (يُوسُفَ: ٩٣) . قِيلَ: إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ دَخَلَ عَلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَما كانَ في السِّجْنِ، فَقالَ: إنَّ بَصَرَ أبِيكَ ذَهَبَ مِنَ الحُزْنِ عَلَيْكَ؛ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلى رَأْسِهِ وقالَ: لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي ولَمْ أكُ حُزْنًا عَلى أبِي، والقائِلُونَ بِهَذا التَّأْوِيلِ قالُوا: الحُزْنُ الدّائِمُ يُوجِبُ البُكاءَ الدّائِمَ وهو يُوجِبُ العَمى، فالحُزْنُ كانَ سَبَبًا لِلْعَمى بِهَذِهِ الواسِطَةِ، وإنَّما كانَ البُكاءُ الدّائِمُ يُوجِبُ العَمى، لِأنَّهُ يُورِثُ كُدُورَةً في سَوْداءِ العَيْنِ، ومِنهم مَن قالَ: ما عَمِيَ لَكِنَّهُ صارَ بِحَيْثُ يُدْرِكُ إدْراكًا ضَعِيفًا. قِيلَ: ما جَفَّتْ عَيْنا يَعْقُوبَ مِن وقْتِ فِراقِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى حِينِ لِقائِهِ، وتِلْكَ المُدَّةُ ثَمانُونَ عامًا، وما كانَ عَلى وجْهِ الأرْضِ عَبْدٌ أكْرَمَ عَلى اللَّهِ تَعالى مِن يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ الحُزْنِ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ قُرِئَ (مِنَ الحُزْنِ) بِضَمِّ الحاءِ وسُكُونِ الزّايِ، وقَرَأ الحَسَنُ بِفَتْحِ الحاءِ والزّايِ. قالَ الواحِدِيُّ: واخْتَلَفُوا في الحُزْنِ والحَزَنِ فَقالَ قَوْمٌ: الحُزْنُ: البُكاءُ، والحَزَنُ: ضِدُّ الفَرَحِ، وقالَ قَوْمٌ: هُما لُغَتانِ يُقالُ: أصابَهُ حُزْنٌ شَدِيدٌ، وحَزَنٌ شَدِيدٌ، وهو مَذْهَبُ أكْثَرِ أهْلِ اللُّغَةِ، ورَوى يُونُسُ، عَنْ أبِي عَمْرٍو، قالَ: إذا كانَ في مَوْضِعِ النَّصْبِ فَتَحُوا الحاءَ والزّايَ كَقَوْلِهِ: ﴿تَوَلَّوْا وأعْيُنُهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا﴾ (التَّوْبَةِ: ٩٢) وإذا كانَ في مَوْضِعِ الخَفْضِ أوِ الرَّفْعِ ضَمُّوا الحاءَ كَقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الحُزْنِ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ قالَ: هو في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الكاظِمِ، وهو المُمْسِكُ عَلى حُزْنِهِ فَلا يُظْهِرُهُ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى المَكْظُومِ، ومَعْناهُ: المَمْلُوءُ مِنَ الحُزْنِ مَعَ سَدِّ طَرِيقِ نَفَسِهِ، المَصْدُورُ مِن كَظْمِ السِّقاءِ إذا اشْتَدَّ عَلى مَلْئِهِ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ بِمَعْنى مَمْلُوءٍ مِنَ الغَيْظِ عَلى أوْلادِهِ. واعْلَمْ أنَّ أشْرَفَ أعْضاءِ الإنْسانِ هَذِهِ الثَّلاثَةُ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّها كانَتْ غَرِيقَةً في الغَمِّ، فاللِّسانُ كانَ (p-١٥٧)مَشْغُولًا بِقَوْلِهِ: ﴿ياأسَفى﴾ والعَيْنُ بِالبُكاءِ والبَياضِ، والقَلْبُ بِالغَمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يُشْبِهُ الوِعاءَ المَمْلُوءَ الَّذِي شُدَّ ولا يُمْكِنُ خُرُوجُ الماءِ مِنهُ، وهَذِهِ مُبالَغَةٌ في وصْفِ ذَلِكَ الغَمِّ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا تاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضًا أوْ تَكُونَ مِنَ الهالِكِينَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ يُقالُ: ما زِلْتُ أفْعَلُهُ، وما فَتِئْتُ أفْعَلُهُ، وما بَرِحْتُ أفْعَلُهُ، ولا يُتَكَلَّمُ بِهِنَّ إلّا مَعَ الجَحْدِ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ: ما فَتِيتُ وما فَتِئْتُ لُغَتانِ فَتْيًا وفُتُؤًا إذا نَسِيتَهُ وانْقَطَعْتَ عَنْهُ، قالَ النَّحْوِيُّونَ: وحَرْفُ النَّفْيِ هَهُنا مُضْمَرٌ عَلى مَعْنى قالُوا: ما تَفْتَؤُ ولا تَفْتَؤُ، وجازَ حَذْفُهُ لِأنَّهُ لَوْ أُرِيدَ الإثْباتُ؛ لَكانَ بِاللّامِ والنُّونِ نَحْوُ: واللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ، فَلَمّا كانَ بِغَيْرِ اللّامِ والنُّونِ؛ عُرِفَ أنَّ كَلِمَةَ لا مُضْمَرَةٌ، وأنْشَدُوا قَوْلَ امْرِئِ القَيْسِ: ؎فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أبْرَحُ قاعِدًا والمَعْنى: لا أبْرَحُ قاعِدًا، ومِثْلُهُ كَثِيرٌ. وأمّا المُفَسِّرُونَ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ: لا تَزالُ تَذْكُرُهُ، وعَنْ مُجاهِدٍ: لا تَفْتُرُ مِن حُبِّهِ، كَأنَّهُ جَعَلَ الفُتُورَ والفُتُوءَ أخَوَيْنِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: حَكى الواحِدِيُّ عَنْ أهْلِ المَعانِي أنَّ أصْلَ الحَرَضِ فَسادُ الجِسْمَ والعَقْلِ لِلْحُزْنِ والحُبِّ، وقَوْلُهُ: حَرَّضْتُ فُلانًا عَلى فُلانٍ تَأْوِيلُهُ: أفْسَدْتُهُ، وأحْمَيْتُهُ عَلَيْهِ، وقالَ تَعالى: ﴿حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلى القِتالِ﴾ (الأنْفالِ: ٦٥) . إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: وصْفُ الرَّجُلِ بِأنَّهُ حَرِضٌ إمّا أنْ يَكُونَ لِإرادَةِ أنَّهُ ذُو حَرَضٍ فَحُذِفَ المُضافُ، أوْ لِإرادَةِ أنَّهُ لَمّا تَناهى في الفَسادِ والضَّعْفِ فَكَأنَّهُ صارَ عَيْنَ الحَرَضِ ونَفْسَ الفَسادِ. وأمّا الحَرِضُ بِكَسْرِ الرّاءِ فَهو الصِّفَةُ، وجاءَتِ القِراءَةُ بِهِما مَعًا. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عِباراتٌ: أحَدُها: الحَرَضُ والحارِضُ هو الفاسِدُ في جِسْمِهِ وعَقْلِهِ. وثانِيهِما: سَألَ نافِعُ بْنُ الأزْرَقِ ابْنَ عَبّاسٍ عَنِ الحَرَضِ، فَقالَ: الفاسِدُ الدَّنِفُ. وثالِثُها: أنَّهُ الَّذِي يَكُونُ لا كالأحْياءِ ولا كالأمْواتِ، وذَكَرَ أبُو رَوْقٍ أنَّ أنَسَ بْنَ مالِكٍ قَرَأ: (حَتّى تَكُونَ حُرْضًا) بِضَمِّ الحاءِ وتَسْكِينِ الرّاءِ، قالَ: يَعْنِي مِثْلَ عُودِ الأُشْنانِ، وقَوْلُهُ: ﴿أوْ تَكُونَ مِنَ الهالِكِينَ﴾ أيْ مِنَ الأمْواتِ، ومَعْنى الآيَةِ أنَّهم قالُوا لِأبِيهِمْ: إنَّكَ لا تَزالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ بِالحُزْنِ والبُكاءِ عَلَيْهِ حَتّى تَصِيرَ بِذَلِكَ إلى مَرَضٍ لا تَنْتَفِعُ بِنَفْسِكَ مَعَهُ، أوْ تَمُوتَ مِنَ الغَمِّ، كَأنَّهم قالُوا: أنْتَ الآنَ في بَلاءٍ شَدِيدٍ، ونَخافُ أنْ يَحْصُلَ ما هو أزْيَدُ مِنهُ وأقْوى، وأرادُوا بِهَذا القَوْلِ مَنعَهُ عَنْ كَثْرَةِ البُكاءِ والأسَفِ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ حَلَفُوا عَلى ذَلِكَ مَعَ أنَّهم لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ قَطْعًا ؟ قُلْنا: إنَّهم بَنَوْا هَذا الأمْرَ عَلى الظّاهِرِ. فَإنْ قِيلَ: القائِلُونَ بِهَذا الكَلامِ وهو قَوْلُهُ: ﴿تاللَّهِ تَفْتَأُ﴾ مَن هم ؟ قُلْنا: الأظْهَرُ أنَّ هَؤُلاءِ لَيْسُوا هُمُ الإخْوَةَ الَّذِينَ قَدْ تَوَلّى عَنْهم، بَلِ الجَماعَةَ الَّذِينَ كانُوا في الدّارِ مِن أوْلادِ أوْلادِهِ وخَدَمِهِ. (p-١٥٨) ثُمَّ حَكى تَعالى عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ: ﴿قالَ إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ يَعْنِي أنَّ هَذا الَّذِي أذْكُرُهُ لا أذْكُرُهُ مَعَكم، وإنَّما أذْكُرُهُ في حَضْرَةِ اللَّهِ تَعالى، والإنْسانُ إذا بَثَّ شَكْواهُ إلى اللَّهِ تَعالى كانَ في زُمْرَةِ المُحَقِّقِينَ كَما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أعُوذُ بِرِضاكَ مِن سَخَطِكَ، وأعُوذُ بِعَفْوِكَ مِن غَضَبِكَ، وأعُوذُ بِكَ مِنكَ» واللَّهُ هو المُوَفِّقُ، والبَثُّ هو التَّفْرِيقُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ﴾ (البَقَرَةِ: ١٦٤) . فالحُزْنُ إذا سَتَرَهُ الإنْسانُ كانَ هَمًّا، وإذا ذَكَرَهُ لِغَيْرِهِ كانَ بَثًّا، وقالُوا: البَثُّ أشَدُّ الحُزْنِ، والحُزْنُ أشَدُّ الهَمِّ، وذَلِكَ لِأنَّهُ مَتى أمْكَنَهُ أنْ يَمْسِكَ لِسانَهُ عَنْ ذِكْرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الحُزْنُ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ، وأمّا إذا عَظُمَ وعَجَزَ الإنْسانُ عَنْ ضَبْطِهِ وانْطَلَقَ اللِّسانُ بِذِكْرِهِ شاءَ أمْ أبى، كانَ ذَلِكَ بَثًّا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ صارَ عاجِزًا عَنْهُ، وهو قَدِ اسْتَوْلى عَلى الإنْسانِ، فَقَوْلُهُ: ﴿بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ أيْ لا أذْكُرُ الحُزْنَ العَظِيمَ ولا الحُزْنَ القَلِيلَ إلّا مَعَ اللَّهِ، وقَرَأ الحَسَنُ: (وحَزَنِي) بِفَتْحَتَيْنِ وحُزُنِي بِضَمَّتَيْنِ، قِيلَ: دَخَلَ عَلى يَعْقُوبَ رَجُلٌ وقالَ: يا يَعْقُوبُ ضَعُفَ جِسْمُكَ ونَحُفَ بَدَنُكَ، وما بَلَغْتَ سِنًّا عالِيًا ! فَقالَ: الَّذِي بِي لِكَثْرَةِ غُمُومِي، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: يا يَعْقُوبُ أتَشْكُونِي إلى خَلْقِي ؟ فَقالَ: يا رَبِّ خَطِيئَةٌ أخْطَأْتُها فاغْفِرْها لِي، فَغَفَرَها لَهُ، وكانَ بَعْدَ ذَلِكَ إذا سُئِلَ قالَ: ﴿إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ ورُوِيَ أنَّهُ أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: إنَّما وجَدْتُ عَلَيْكم لِأنَّكم ذَبَحْتُمْ شاةً فَقامَ بِبابِكم مِسْكِينٌ فَلَمْ تُطْعِمُوهُ، وإنَّ أحَبَّ خَلْقِي إلَيَّ الأنْبِياءُ والمَساكِينُ، فاصْنَعْ طَعامًا وادْعُ إلَيْهِ المَساكِينَ، وقِيلَ: اشْتَرى جارِيَةً مَعَ ولَدِها فَباعَ ولَدَها فَبَكَتْ حَتّى عَمِيَتْ. ثُمَّ قالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وأعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ أيْ أعْلَمُ مِن رَحْمَتِهِ وإحْسانِهِ ما لا تَعْلَمُونَ، وهو أنَّهُ تَعالى يَأْتِي بِالفَرَجِ مِن حَيْثُ لا أحْتَسِبُ، فَهو إشارَةٌ إلى أنَّهُ كانَ يَتَوَقَّعُ وُصُولَ يُوسُفَ إلَيْهِ. وذَكَرُوا لِسَبَبِ هَذا التَّوَقُّعِ أُمُورًا: أحَدُها: أنَّ مَلَكَ المَوْتِ أتاهُ فَقالَ لَهُ: يا مَلَكَ المَوْتِ هَلْ قَبَضْتَ رُوحَ ابْنِي يُوسُفَ ؟ قالَ: لا يا نَبِيَّ اللَّهِ، ثُمَّ أشارَ إلى جانِبِ مِصْرَ وقالَ: اطْلُبْهُ هَهُنا. وثانِيها: أنَّهُ عَلِمَ أنَّ رُؤْيا يُوسُفَ صادِقَةٌ؛ لِأنَّ أماراتِ الرُّشْدِ والكَمالِ كانَتْ ظاهِرَةً في حَقِّ يُوسُفَ، ورُؤْيا مِثْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لا تُخْطِئُ. وثالِثُها: لَعَلَّهُ تَعالى أوْحى إلَيْهِ أنَّهُ سَيُوَصِّلُهُ إلَيْهِ، ولَكِنَّهُ تَعالى ما عَيَّنَ الوَقْتَ، فَلِهَذا بَقِيَ في القَلَقِ. ورابِعُها: قالَ السُّدِّيُّ: لَمّا أخْبَرَهُ بَنُوهُ بِسِيرَةِ المَلِكِ وكَمالِ حالِهِ في أقْوالِهِ وأفْعالِهِ؛ طَمِعَ أنْ يَكُونَ هو يُوسُفَ، وقالَ: يَبْعُدُ أنْ يَظْهَرَ في الكُفّارِ مِثْلُهُ. وخامِسُها: عَلِمَ قَطْعًا أنَّ بِنْيامِينَ لا يَسْرِقُ، وسَمِعَ أنَّ المَلِكَ ما آذاهُ وما ضَرَبَهُ، فَغَلَبَ عَلى ظَنِّهِ أنَّ ذَلِكَ المَلِكَ هو يُوسُفُ، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في المَقامِ الأوَّلِ. والمَقامُ الثّانِي: أنَّهُ رَجَعَ إلى أوْلادِهِ، وتَكَلَّمَ مَعَهم عَلى سَبِيلِ اللُّطْفِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿يابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وأخِيهِ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا طَمِعَ في وِجْدانِ يُوسُفَ بِناءً عَلى الأماراتِ المَذْكُورَةِ قالَ لِبَنِيهِ: تَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ، والتَّحَسُّسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِالحاسَّةِ وهو شَبِيهٌ بِالسَّمْعِ والبَصَرِ، قالَ أبُو بَكْرٍ الأنْبارِيُّ: يُقالُ: تَحَسَّسْتُ عَنْ فُلانٍ، ولا يُقالُ: مِن فُلانٍ، وقِيلَ: هَهُنا ﴿مِن يُوسُفَ﴾؛ لِأنَّهُ أقامَ (مِن) مَقامَ (عَنْ)، قالَ: ويَجُوزُ أنْ يُقالَ: (مِن) لِلتَّبْعِيضِ، والمَعْنى تَحَسَّسُوا خَبَرًا مِن أخْبارِ يُوسُفَ، واسْتَعْلِمُوا بَعْضَ أخْبارِ يُوسُفَ، فَذُكِرَتْ كَلِمَةُ (مِن) لِما فِيها مِنَ الدَّلالَةِ عَلى التَّبْعِيضِ، وقُرِئَ (تَجَسَّسُوا) بِالجِيمِ كَما قُرِئَ بِهِما في الحُجُراتِ. (p-١٥٩) * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ولا تَيْأسُوا مِن رَوْحِ اللَّهِ﴾ قالَ الأصْمَعِيُّ: الرَّوْحُ ما يَجِدُهُ الإنْسانُ مِن نَسِيمِ الهَواءِ فَيَسْكُنُ إلَيْهِ، وتَرْكِيبُ الرّاءِ والواوِ والحاءِ يُفِيدُ الحَرَكَةَ والِاهْتِزازَ، فَكُلَّما يَهْتَزُّ إنْسانٌ لَهُ ويَلْتَذُّ بِوُجُودِهِ فَهو رَوْحٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا تَيْئَسُوا مِن رَوْحِ اللَّهِ يُرِيدُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، وعَنْ قَتادَةَ: مِن فَضْلِ اللَّهِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِن فَرَجِ اللَّهِ، وهَذِهِ الألْفاظُ مُتَقارِبَةٌ، وقَرَأ الحَسَنُ وقَتادَةُ: (مِن رُوحِ اللَّهِ) بِالضَّمِّ أيْ: مِن رَحْمَتِهِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّهُ لا يَيْئَسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الكافِرُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: إنَّ المُؤْمِنَ مِنَ اللَّهِ عَلى خَيْرٍ يَرْجُوهُ في البَلاءِ ويَحْمَدُهُ في الرَّخاءِ. واعْلَمْ أنَّ اليَأْسَ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى لا يَحْصُلُ إلّا إذا اعْتَقَدَ الإنْسانُ أنَّ الإلَهَ غَيْرُ قادِرٍ عَلى الكَمالِ، أوْ غَيْرُ عالِمٍ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، أوْ لَيْسَ بِكَرِيمٍ؛ بَلْ هو بَخِيلٌ، وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الثَّلاثَةِ يُوجِبُ الكُفْرَ، فَإذا كانَ اليَأْسُ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ أحَدِ هَذِهِ الثَّلاثَةِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنها كُفْرٌ؛ ثَبَتَ أنَّ اليَأْسَ لا يَحْصُلُ إلّا لِمَن كانَ كافِرًا، واللَّهُ أعْلَمُ، وقَدْ بَقِيَ مِن مَباحِثِ هَذِهِ الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّ بُلُوغَ يَعْقُوبَ في حُبِّ يُوسُفَ إلى هَذا الحَدِّ العَظِيمِ لا يَلِيقُ إلّا بِمَن كانَ غافِلًا عَنِ اللَّهِ، فَإنَّ مَن عَرَفَ اللَّهَ أحَبَّهُ، ومَن أحَبَّ اللَّهَ لَمْ يَتَفَرَّغْ قَلْبُهُ لِحُبِّ شَيْءٍ سِوى اللَّهِ تَعالى، وأيْضًا القَلْبُ الواحِدُ لا يَتَّسِعُ لِلْحُبِّ المُسْتَغْرِقِ لِشَيْئَيْنِ، فَلَمّا كانَ قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا في حُبِّ ولَدِهِ امْتُنِعَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ مُسْتَغْرِقًا في حُبِّ اللَّهِ تَعالى. والسُّؤالُ الثّانِي: أنَّ عِنْدَ اسْتِيلاءِ الحُزْنِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ كانَ مِنَ الواجِبِ أنْ يَشْتَغِلَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، وبِالتَّفْوِيضِ إلَيْهِ والتَّسْلِيمِ لِقَضائِهِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ياأسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ فَذَلِكَ لا يَلِيقُ بِأهْلِ الدِّينِ والعِلْمِ فَضْلًا عَنْ أكابِرِ الأنْبِياءِ. والسُّؤالُ الثّالِثُ: لا شَكَّ أنَّ يَعْقُوبَ كانَ مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ، وكانَ أبُوهُ وجَدُّهُ وعَمُّهُ كُلُّهم مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ المَشْهُورِينَ في جَمِيعِ الدُّنْيا، ومَن كانَ كَذَلِكَ ثُمَّ وقَعَتْ لَهُ واقِعَةٌ هائِلَةٌ صَعْبَةٌ في أعَزِّ أوْلادِهِ عَلَيْهِ لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الواقِعَةُ خَفِيَّةً، بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَبْلُغَ في الشُّهْرَةِ إلى حَيْثُ يَعْرِفُها كُلُّ أحَدٍ لا سِيَّما وقَدِ انْقَضَتِ المُدَّةُ الطَّوِيلَةُ فِيها، وبَقِيَ يَعْقُوبُ عَلى حُزْنِهِ الشَّدِيدِ وأسَفِهِ العَظِيمِ، وكانَ يُوسُفُ في مِصْرَ، وكانَ يَعْقُوبُ في بَعْضِ بِلادِ الشّامِ قَرِيبًا مِن مِصْرَ، فَمَعَ قُرْبِ المَسافَةِ يَمْتَنِعُ بَقاءُ هَذِهِ الواقِعَةِ مَخْفِيَّةً. السُّؤالُ الرّابِعُ: لِمَ لَمْ يَبْعَثْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ أحَدًا إلى يَعْقُوبَ، ويُعْلِمْهُ أنَّهُ في الحَياةِ وفي السَّلامَةِ، ولا يُقالُ: إنَّهُ كانَ يَخافُ إخْوَتَهُ؛ لِأنَّهُ بَعْدَ أنْ صارَ مَلِكًا قاهِرًا كانَ يُمْكِنُهُ إرْسالُ الرَّسُولِ إلَيْهِ، وإخْوَتُهُ ما كانُوا يَقْدِرُونَ عَلى دَفْعِ الرَّسُولِ ؟ والسُّؤالُ الخامِسُ: كَيْفَ جازَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَضَعَ الصّاعَ في وِعاءِ أخِيهِ ثُمَّ يَسْتَخْرِجَهُ مِنهُ ويُلْصِقَ بِهِ تُهْمَةَ السَّرِقَةِ مَعَ أنَّهُ كانَ بَرِيئًا عَنْها. السُّؤالُ السّادِسُ: كَيْفَ رَغِبَ في إلْصاقِ هَذِهِ التُّهْمَةِ بِهِ وفي حَبْسِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ مَعَ أنَّهُ كانَ يَعْلَمُ أنَّهُ يَزْدادُ حَزْنُ أبِيهِ ويَقْوى. (p-١٦٠) والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ مِثْلَ هَذِهِ المِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ تُزِيلُ عَنِ القَلْبِ كُلَّ ما سِواهُ مِنَ الخَواطِرِ. ثُمَّ إنَّ صاحِبَ هَذِهِ المِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ يَكُونُ كَثِيرَ الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ تَعالى كَثِيرَ الِاشْتِغالِ بِالدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَمالِ الِاسْتِغْراقِ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنَّ الدَّواعِيَ الإنْسانِيَّةَ لا تَزُولُ في الحَياةِ العاجِلَةِ، فَتارَةً كانَ يَقُولُ: ﴿ياأسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ وتارَةً كانَ يَقُولُ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ (يُوسُفَ: ١٨) وأمّا بَقِيَّةُ الأسْئِلَةِ فالقاضِي أجابَ عَنْها بِجَوابٍ كُلِّيٍّ حَسَنٍ، فَقالَ: هَذِهِ الوَقائِعُ الَّتِي نُقِلَتْ إلَيْنا إمّا يُمْكِنُ تَخْرِيجُها عَلى الأحْوالِ المُعْتادَةِ أوْ لا يُمْكِنُ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ فَلا إشْكالَ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فَنَقُولُ: كانَ ذَلِكَ الزَّمانُ زَمانَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وخَرْقُ العادَةِ في هَذا الزَّمانِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أنْ يُقالَ: إنَّ بَلْدَةَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ أنَّها كانَتْ قَرِيبَةً مِن بَلْدَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَكِنْ لَمْ يَصِلْ خَبَرُ أحَدِهِما إلى الآخَرِ عَلى سَبِيلِ نَقْضِ العادَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب