الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا ياأيُّها العَزِيزُ إنَّ لَهُ أبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أحَدَنا مَكانَهُ إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ ﴿قالَ مَعاذَ اللَّهِ أنْ نَأْخُذَ إلّا مَن وجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إنّا إذًا لَظالِمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهم بَعْدَ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ أحَبُّوا مُوافَقَتَهُ والعُدُولَ إلى طَرِيقَةِ الشَّفاعَةِ، فَإنَّهم وإنْ كانُوا قَدِ اعْتَرَفُوا أنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعالى في السّارِقِ أنْ يُسْتَعْبَدَ، إلّا أنَّ العَفْوَ وأخْذَ الفِداءِ كانَ أيْضًا جائِزًا، فَقالُوا: يا أيُّها العَزِيزُ إنَّ لَهُ أبًا شَيْخًا كَبِيرًا أيْ في السِّنِّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في القَدْرِ والدِّينِ، وإنَّما ذَكَرُوا ذَلِكَ لِأنَّ كَوْنَهُ ابْنًا لِرَجُلٍ كَبِيرِ القَدْرِ يُوجِبُ العَفْوَ والصَّفْحَ. ثُمَّ قالُوا: ﴿فَخُذْ أحَدَنا مَكانَهُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعْبادِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ عَلى طَرِيقِ الرَّهْنِ حَتّى نُوصِلَ الفِداءَ إلَيْكَ. ثُمَّ قالُوا: ﴿إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ. وثانِيها: إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ إلَيْنا حَيْثُ أكْرَمْتَنا وأعْطَيْتَنا البَذْلَ الكَثِيرَ، وحَصَّلْتَ لَنا مَطْلُوبَنا عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، ورَدَدْتَ إلَيْنا ثَمَنَ الطَّعامِ. وثالِثُها: نُقِلَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا اشْتَدَّ القَحْطُ عَلى القَوْمِ ولَمْ يَجِدُوا شَيْئًا يَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعامَ، وكانُوا يَبِيعُونَ أنْفُسَهم مِنهُ فَصارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِصَيْرُورَةِ أكْثَرِ أهْلِ مِصْرَ عَبِيدًا لَهُ ثُمَّ إنَّهُ أعْتَقَ الكُلَّ، فَلَعَلَّهم قالُوا: ﴿إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ إلى عامَّةِ النّاسِ بِالإعْتاقِ فَكُنْ مُحْسِنًا أيْضًا إلى هَذا الإنْسانِ بِإعْتاقِهِ مِن هَذِهِ المِحْنَةِ، فَقالَ يُوسُفُ: ﴿مَعاذَ اللَّهِ﴾ أيْ أعُوذُ بِاللَّهِ مَعاذًا أنْ نَأْخُذَ إلّا مَن وجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ، أيْ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ آخُذَ بَرِيئًا بِمُذْنِبٍ، قالَ الزَّجّاجُ: مَوْضِعُ ”أنْ“ نَصْبٌ والمَعْنى: أعُوذُ بِاللَّهِ مِن أخْذِ أحَدٍ بِغَيْرِهِ، فَلَمّا سَقَطَتْ كَلِمَةُ ”مِن“ انْتَصَبَ الفِعْلُ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إنّا إذًا لَظالِمُونَ﴾ أيْ لَقَدْ تَعَدَّيْتُ وظَلَمْتُ إنْ آذَيْتُ إنْسانًا بِجُرْمٍ صَدَرَ عَنْ غَيْرِهِ. فَإنْ قِيلَ: هَذِهِ الواقِعَةُ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها تَزْوِيرٌ وكَذِبٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ (p-١٤٩)رِسالَتِهِ الإقْدامُ عَلى هَذا التَّزْوِيرِ والتَّرْوِيجِ وإيذاءِ النّاسِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ لا سِيَّما ويَعْلَمُ أنَّهُ إذا حَبَسَ أخاهُ عِنْدَ نَفْسِهِ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ فَإنَّهُ يَعْظُمُ حُزْنُ أبِيهِ ويَشْتَدُّ غَمُّهُ ؟ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ المَعْصُومِ المُبالَغَةُ في التَّزْوِيرِ إلى هَذا الحَدِّ ؟ والجَوابُ: لَعَلَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِذَلِكَ تَشْدِيدًا لِلْمِحْنَةِ عَلى يَعْقُوبَ، ونَهاهُ عَنِ العَفْوِ والصَّفْحِ وأخْذِ البَدَلِ كَما أمَرَ تَعالى صاحِبَ مُوسى بِقَتْلِ مَن لَوْ بَقِيَ لَطَغى وكَفَرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب