الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ يابَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِن بابٍ واحِدٍ وادْخُلُوا مِن أبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وما أُغْنِي عَنْكم مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إنِ الحُكْمُ إلّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ أبْناءَ يَعْقُوبَ لَمّا عَزَمُوا عَلى الخُرُوجِ إلى مِصْرَ، وكانُوا مَوْصُوفِينَ بِالكَمالِ والجَمالِ، وأبْناءَ رَجُلٍ واحِدٍ قالَ لَهم: ﴿لا تَدْخُلُوا مِن بابٍ واحِدٍ وادْخُلُوا مِن أبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: وهو قَوْلُ جُمْهُورِ (p-١٣٨)المُفَسِّرِينَ أنَّهُ خافَ مِنَ العَيْنِ عَلَيْهِمْ ولَنا هَهُنا مَقامانِ: المَقامُ الأوَّلُ: إثْباتُ أنَّ العَيْنَ حَقٌّ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: إطْباقُ المُتَقَدِّمِينَ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الآيَةِ ذَلِكَ. والثّانِي: ما رُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ- «كانَ يُعَوِّذُ الحَسَنَ والحُسَيْنَ فَيَقُولُ: ”أُعِيذُكُما بِكَلِماتِ اللَّهِ التّامَّةِ مِن كُلِّ شَيْطانٍ وهامَّةٍ، ومِن كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ“ ويَقُولُ: هَكَذا كانَ يُعَوِّذُ إبْراهِيمُ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ» . والثّالِثُ: ما رَوى عُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ قالَ: «دَخَلْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتُهُ شَدِيدَ الوَجَعِ، ثُمَّ عُدْتُ إلَيْهِ آخِرَ النَّهارِ فَرَأيْتُهُ مُعافًى، فَقالَ: ”إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أتانِي فَرَقانِي، فَقالَ: بِسْمِ اللَّهِ أرْقِيكَ مِن كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، ومِن كُلِّ عَيْنٍ وحاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ“ قالَ: فَأفَقْتُ» . والرّابِعُ: رُوِيَ «أنَّ بَنِي جَعْفَرِ بْنِ أبِي طالِبٍ كانُوا غِلْمانًا بِيضًا فَقالَتْ أسْماءُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ العَيْنَ إلَيْهِمْ سَرِيعَةٌ أفَأسْتَرْقِي لَهم مِنَ العَيْنِ ؟ فَقالَ لَها: نَعَمْ» . والخامِسُ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وعِنْدَها صَبِيٌّ يَشْتَكِي، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ أصابَتْهُ العَيْنُ، فَقالَ: أفَلا تَسْتَرْقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ» . والسّادِسُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«العَيْنُ حَقٌّ، ولَوْ كانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ القَدَرَ؛ لَسَبَقَتِ العَيْنُ القَدَرَ» “ . والسّابِعُ: قالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «كانَ يَأْمُرُ العائِنَ أنْ يَتَوَضَّأ، ثُمَّ يَغْسِلَ مِنهُ المَعِينُ الَّذِي أُصِيبَ بِالعَيْنِ» . المَقامُ الثّانِي: في الكَشْفِ عَنْ ماهِيَّتِهِ فَنَقُولُ: إنَّ أبا عَلِيٍّ الجُبّائِيَّ أنْكَرَ هَذا المَعْنى إنْكارًا بَلِيغًا، ولَمْ يَذْكُرْ في إنْكارِهِ شُبْهَةً فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ، وأمّا الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِهِ وأقَرُّوا بِوُجُودِهِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: قالَ الحافِظُ: إنَّهُ يَمْتَدُّ مِنَ العَيْنِ أجْزاءٌ فَتَتَّصِلُ بِالشَّخْصِ المُسْتَحْسَنِ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ، وتَسْرِي فِيهِ كَتَأْثِيرِ اللَّسْعِ والسُّمِّ والنّارِ، وإنْ كانَ مُخالِفًا في جِهَةِ التَّأْثِيرِ لِهَذِهِ الأشْياءِ. قالَ القاضِي: وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ الأمْرُ كَما قالَ؛ لَوَجَبَ أنْ يُؤَثِّرَ في الشَّخْصِ الَّذِي لا يُسْتَحْسَنُ كَتَأْثِيرِهِ في المُسْتَحْسَنِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاعْتِراضَ ضَعِيفٌ، وذَلِكَ لِأنَّهُ إذا اسْتَحْسَنَ شَيْئًا؛ فَقَدْ يُحِبُّ بَقاءَهُ كَما إذا اسْتَحْسَنَ ولَدَ نَفْسِهِ وبُسْتانَ نَفْسِهِ، وقَدْ يَكْرَهُ بَقاءَهُ أيْضًا كَما إذا أحَسَّ الحاسِدُ بِشَيْءٍ حَصَلَ لِعَدُوِّهِ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ؛ فَإنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الِاسْتِحْسانِ خَوْفٌ شَدِيدٌ مِن زَوالِهِ، والخَوْفُ الشَّدِيدُ يُوجِبُ انْحِصارَ الرُّوحِ في داخِلِ القَلْبِ، فَحِينَئِذٍ يَسْخُنُ القَلْبُ والرُّوحُ جِدًّا، ويَحْصُلُ في الرُّوحِ الباصِرَةِ كَيْفِيَّةٌ قَوِيَّةٌ مُسَخِّنَةٌ، وإنْ كانَ الثّانِي؛ فَإنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ الِاسْتِحْسانِ حَسَدٌ شَدِيدٌ وحُزْنٌ عَظِيمٌ بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِعَدُوِّهِ. والحُزْنُ أيْضًا يُوجِبُ انْحِصارَ الرُّوحِ في داخِلِ القَلْبِ، ويَحْصُلُ فِيهِ سُخُونَةٌ شَدِيدَةٌ، فَثَبَتَ أنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْسانِ القَوِيِّ تَسْخُنُ الرُّوحُ جِدًّا فَيَسْخُنُ شُعاعُ العَيْنِ، بِخِلافِ ما إذا لَمْ يُسْتَحْسَنْ فَإنَّهُ لا تَحْصُلُ هَذِهِ السُّخُونَةُ؛ فَظَهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، ولِهَذا السَّبَبِ أمَرَ الرَّسُولُ -ﷺ- العائِنَ بِالوُضُوءِ، ومَن أصابَتْهُ العَيْنُ بِالِاغْتِسالِ. الوَجْهُ الثّانِي: قالَ أبُو هاشِمٍ وأبُو القاسِمِ البَلْخِيُّ: إنَّهُ لا يُمْتَنَعُ أنْ تَكُونَ العَيْنُ حَقًّا، ويَكُونُ مَعْناهُ أنَّ صاحِبَ العَيْنِ إذا شاهَدَ الشَّيْءَ وأُعْجِبَ بِهِ اسْتِحْسانًا كانَ المَصْلَحَةُ لَهُ في تَكْلِيفِهِ أنْ يُغَيِّرَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّخْصَ وذَلِكَ الشَّيْءَ حَتّى لا يَبْقى قَلْبُ ذَلِكَ المُكَلَّفِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، فَهَذا المَعْنى غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، ثُمَّ لا يَبْعُدُ أيْضًا أنَّهُ لَوْ ذَكَرَ رَبَّهُ عِنْدَ تِلْكَ الحالَةِ، وعَدَلَ عَنِ الإعْجابِ وسَألَ رَبَّهُ تَقِيَّةَ ذَلِكَ، فَعِنْدَهُ تَتَعَيَّنُ المَصْلَحَةُ، ولَمّا كانَتْ هَذِهِ العادَةُ مُطَّرِدَةً لا جَرَمَ قِيلَ: العَيْنُ حَقٌّ. الوَجْهُ الثّالِثُ: وهو قَوْلُ الحُكَماءِ قالُوا: هَذا الكَلامُ مَبْنِيٌّ عَلى مُقَدِّمَةٍ وهي أنَّهُ لَيْسَ مِن شَرْطِ المُؤَثِّرِ أنْ (p-١٣٩)يَكُونَ تَأْثِيرُهُ بِحَسَبِ هَذِهِ الكَيْفِيّاتِ المَحْسُوسَةِ أعْنِي الحَرارَةَ والبُرُودَةَ والرُّطُوبَةَ واليُبُوسَةَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّأْثِيرُ نَفْسانِيًّا مَحْضًا، ولا يَكُونُ لِلْقُوى الجُسْمانِيَّةِ بِها تَعَلُّقٌ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ اللَّوْحَ الَّذِي يَكُونُ قَلِيلَ العَرْضِ إذا كانَ مَوْضُوعًا عَلى الأرْضِ قَدَرَ الإنْسانُ عَلى المَشْيِ عَلَيْهِ، ولَوْ كانَ مَوْضُوعًا فِيما بَيْنَ جِدارَيْنِ عالِيَيْنِ لَعَجَزَ الإنْسانُ عَلى المَشْيِ عَلَيْهِ، وما ذاكَ إلّا لِأنَّ خَوْفَهُ مِنَ السُّقُوطِ مِنهُ يُوجِبُ سُقُوطَهُ، فَعَلِمْنا أنَّ التَّأْثِيراتِ النَّفْسانِيَّةَ مَوْجُودَةٌ، وأيْضًا أنَّ الإنْسانَ إذا تَصَوَّرَ كَوْنَ فُلانٍ مُؤْذِيًا لَهُ حَصَلَ في قَلْبِهِ غَضَبٌ، ويَسْخُنُ مِزاجُهُ جِدًّا، فَمَبْدَأُ تِلْكَ السُّخُونَةِ لَيْسَ إلّا ذَلِكَ التَّصَوُّرَ النَّفْسانِيَّ، ولِأنَّ مَبْدَأ الحَرَكاتِ البَدَنِيَّةِ لَيْسَ إلّا التَّصَوُّراتِ النَّفْسانِيَّةَ، فَلَمّا ثَبَتَ أنَّ تَصَوُّرَ النَّفْسِ يُوجِبُ تَغَيُّرَ بَدَنِهِ الخاصِّ؛ لَمْ يَبْعُدْ أيْضًا أنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّفُوسِ بِحَيْثُ تَتَعَدّى تَأْثِيراتُها إلى سائِرِ الأبْدانِ؛ فَثَبَتَ أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ في العَقْلِ كَوْنُ النَّفْسِ مُؤَثِّرَةً في سائِرِ الأبْدانِ، وأيْضًا جَواهِرُ النُّفُوسِ المُخْتَلِفَةِ بِالماهِيَّةِ، فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّفُوسِ بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ في تَغْيِيرِ بَدَنِ حَيَوانٍ آخَرَ بِشَرْطِ أنْ يَراهُ ويَتَعَجَّبَ مِنهُ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا المَعْنى أمْرٌ مُحْتَمَلٌ، والتَّجارِبُ مِنَ الزَّمَنِ الأقْدَمِ ساعَدَتْ عَلَيْهِ، والنُّفُوسُ النَّبَوِيَّةُ نَطَقَتْ بِهِ، فَعِنْدَهُ لا يَبْقى في وُقُوعِهِ شَكٌّ. وإذا ثَبَتَ هَذا ثَبَتَ أنَّ الَّذِي أطْبَقَ عَلَيْهِ المُتَقَدِّمُونَ مِنَ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ بِإصابَةِ العَيْنِ كَلامٌ حَقٌّ لا يُمْكِنُ رَدُّهُ. القَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ: أنَّ أبْناءَ يَعْقُوبَ اشْتَهَرُوا بِمِصْرَ، وتَحَدَّثَ النّاسُ بِهِمْ وبِحُسْنِهِمْ وكَمالِهِمْ. فَقالَ: ﴿لا تَدْخُلُوا﴾ تِلْكَ المَدِينَةَ ﴿مِن بابٍ واحِدٍ﴾ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَدَدِ والهَيْئَةِ، فَلَمْ يَأْمَن عَلَيْهِمْ حَسَدَ النّاسِ، أوْ يُقالُ: لَمْ يَأْمَن عَلَيْهِمْ أنْ يَخافَهُمُ المَلِكُ الأعْظَمُ عَلى مُلْكِهِ فَيَحْبِسَهم. واعْلَمْ أنَّ هَذا الوَجْهَ مُحْتَمَلٌ لا إنْكارَ فِيهِ إلّا أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ قَدْ بَيَّنّا أنَّهُ لا امْتِناعَ فِيهِ بِحَسَبِ العَقْلِ، والمُفَسِّرُونَ أطْبَقُوا عَلَيْهِ فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ. ونُقِلَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: خافَ عَلَيْهِمُ العَيْنَ، فَقالَ: ﴿لا تَدْخُلُوا مِن بابٍ واحِدٍ﴾ ثُمَّ رَجَعَ إلى عِلْمِهِ وقالَ: ﴿وما أُغْنِي عَنْكم مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ وعَرَفَ أنَّ العَيْنَ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وكانَ قَتادَةُ يُفَسِّرُ الآيَةَ بِإصابَةِ العَيْنِ ويَقُولُ: لَيْسَ في قَوْلِهِ: ﴿وما أُغْنِي عَنْكم مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ إبْطالٌ لَهُ لِأنَّ العَيْنَ وإنْ صَحَّ؛ فاللَّهُ قادِرٌ عَلى دَفْعِ أثَرِهِ. القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ عالِمًا بِأنَّ مَلِكَ مِصْرَ هو ولَدُهُ يُوسُفُ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى ما أذِنَ لَهُ في إظْهارِ ذَلِكَ، فَلَمّا بَعَثَ أبْناءَهُ إلَيْهِ قالَ: ﴿لا تَدْخُلُوا مِن بابٍ واحِدٍ وادْخُلُوا مِن أبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ وكانَ غَرَضُهُ أنْ يَصِلَ بِنْيامِينُ إلى يُوسُفَ في وقْتِ الخَلْوَةِ، وهَذا قَوْلُ إبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ، فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿وما أُغْنِي عَنْكم مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ فاعْلَمْ أنَّ الإنْسانَ مَأْمُورٌ بِأنْ يُراعِيَ الأسْبابَ المُعْتَبَرَةَ في هَذا العالَمِ، ومَأْمُورٌ أيْضًا بِأنْ يَعْتَقِدَ ويَجْزِمَ بِأنَّهُ لا يَصِلُ إلَيْهِ إلّا ما قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى، وأنَّ الحَذَرَ لا يُنْجِي مِنَ القَدَرِ، فَإنَّ الإنْسانَ مَأْمُورٌ بِأنْ يَحْذَرَ عَنِ الأشْياءِ المُهْلِكَةِ، والأغْذِيَةِ الضّارَّةِ، ويَسْعى في تَحْصِيلِ المَنافِعِ، ودَفْعِ المَضارِّ بِقَدْرِ الإمْكانِ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ جازِمًا بِأنَّهُ لا يَصِلُ إلَيْهِ إلّا ما قَدَّرَهُ اللَّهُ، ولا يَحْصُلُ في الوُجُودِ إلّا ما أرادَهُ اللَّهُ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿لا تَدْخُلُوا مِن بابٍ واحِدٍ وادْخُلُوا مِن أبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ فَهو إشارَةٌ إلى رِعايَةِ الأسْبابِ المُعْتَبَرَةِ في هَذا العالَمِ وقَوْلُهُ: ﴿وما أُغْنِي عَنْكم مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ إشارَةٌ إلى عَدَمِ الِالتِفاتِ إلى الأسْبابِ، وإلى التَّوْحِيدِ المَحْضِ والبَراءَةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوى اللَّهِ تَعالى. وقَوْلُ القائِلِ: كَيْفَ السَّبِيلُ إلى الجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ ؟ فَهَذا (p-١٤٠)السُّؤالُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لا نِزاعَ في أنَّهُ لا بُدَّ مِن إقامَةِ الطّاعاتِ، والِاحْتِرازِ عَنِ المَعاصِي والسَّيِّئاتِ مَعَ أنّا نَعْتَقِدُ أنَّ السَّعِيدَ مَن سَعِدَ في بَطْنِ أُمِّهِ، وأنَّ الشَّقِيَّ مَن شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ، فَكَذا هَهُنا نَأْكُلُ ونَشْرَبُ ونَحْتَرِزُ عَنِ السُّمُومِ وعَنِ الدُّخُولِ في النّارِ مَعَ أنَّ المَوْتَ والحَياةَ لا يَحْصُلانِ إلّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعالى، فَكَذا هَهُنا، فَظَهَرَ أنَّ هَذا السُّؤالَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذا المَقامِ، بَلْ هو بَحْثٌ عَنْ سِرِّ مَسْألَةِ الجَبْرِ والقَدَرِ، بَلِ الحَقُّ أنَّ العَبْدَ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَسْعى بِأقْصى الجُهْدِ والقُدْرَةِ، وبَعْدَ ذَلِكَ السَّعْيِ البَلِيغِ، والجِدِّ الجَهِيدِ فَإنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ كُلَّ ما يَدْخُلُ في الوُجُودِ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى ومَشِيئَتِهِ وسابِقِ حُكْمِهِ وحِكْمَتِهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أكَّدَ هَذا المَعْنى، فَقالَ: ﴿إنِ الحُكْمُ إلّا لِلَّهِ﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَذا مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا في القَضاءِ والقَدَرِ، وذَلِكَ لِأنَّ الحُكْمَ عِبارَةٌ عَنِ الإلْزامِ والمَنعِ مِنَ النَّقِيضِ، وسُمِّيَتْ حَكَمَةُ الدّابَّةِ بِهَذا الِاسْمِ، لِأنَّها تَمْنَعُ الدّابَّةَ عَنِ الحَرَكاتِ الفاسِدَةِ، والحُكْمُ إنَّما سُمِّيَ حُكْمًا لِأنَّهُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ أحَدِ طَرَفَيِ المُمْكِنِ عَلى الآخَرِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الطَّرَفُ الآخَرُ مُمْتَنِعَ الحُصُولِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ الحُكْمَ بِهَذا التَّفْسِيرِ لَيْسَ إلّا لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ جَمِيعَ المُمْكِناتِ مُسْتَنِدَةٌ إلى قَضائِهِ وقَدَرِهِ ومَشِيئَتِهِ وحُكْمِهِ، إمّا بِغَيْرِ واسِطَةٍ وإمّا بِواسِطَةٍ، ثُمَّ قالَ: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ﴾ ومَعْناهُ أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّ الكُلَّ مِنَ اللَّهِ ثَبَتَ أنَّهُ لا تَوَكُّلَ إلّا عَلى اللَّهِ، وأنَّ الرَّغْبَةَ لَيْسَتْ إلّا في رُجْحانِ وُجُودِ المُمْكِناتِ عَلى عَدَمِها، وذَلِكَ الرُّجْحانُ المانِعُ عَنِ النَّقِيضِ هو الحُكْمُ، وثَبَتَ بِالبُرْهانِ أنَّهُ لا حُكْمَ إلّا لِلَّهِ؛ فَلَزِمَ القَطْعُ بِأنَّ حُصُولَ كُلِّ الخَيْراتِ، ودَفْعَ كُلِّ الآفاتِ مِنَ اللَّهِ، ويُوجِبُ أنَّهُ لا تَوَكُّلَ إلّا عَلى اللَّهِ، فَهَذا مَقامٌ شَرِيفٌ عالٍ، ونَحْنُ قَدْ أشَرْنا إلى ما هو البُرْهانُ الحَقُّ فِيهِ، والشَّيْخُ أبُو حامِدٍ الغَزالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أطْنَبَ في تَقْرِيرِ هَذا المَعْنى في كِتابِ التَّوَكُّلِ مِن كِتابِ ”إحْياءِ عُلُومِ الدِّينِ“ فَمَن أرادَ الِاسْتِقْصاءَ فِيهِ فَلْيُطالِعْ ذَلِكَ الكِتابَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب