الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أمِينٌ﴾ ﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفُوا في هَذا المَلِكِ فَمِنهم مَن قالَ: هو العَزِيزُ، ومِنهم مَن قالَ: بَلْ هو الرَّيّانُ الَّذِي هو المَلِكُ الأكْبَرُ، وهَذا هو الأظْهَرُ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَ يُوسُفَ: ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ﴾ يَدُلُّ عَلَيْهِ. الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ ما كانَ خالِصًا لَهُ، وقَدْ كانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ ذَلِكَ خالِصًا لِلْعَزِيزِ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ هَذا المَلِكَ هو المَلِكُ الأكْبَرُ. (p-١٢٧) المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ دَخَلَ عَلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو في الحَبْسِ وقالَ: (قُلِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي مِن عِنْدِكَ فَرَجًا ومَخْرَجًا، وارْزُقْنِي مِن حَيْثُ لا أحْتَسِبُ) فَقَبِلَ اللَّهُ دُعاءَهُ وأظْهَرَ هَذا السَّبَبَ في تَخْلِيصِهِ مِنَ السِّجْنِ. وتَقْرِيرُ الكَلامِ: أنَّ المَلِكَ عَظُمَ اعْتِقادُهُ في يُوسُفَ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ عَظُمَ اعْتِقادُهُ في عِلْمِهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا عَجَزَ القَوْمُ عَنِ الجَوابِ وقَدَرَ هو عَلى الجَوابِ المُوافِقِ الَّذِي يَشْهَدُ العَقْلُ بِصِحَّتِهِ مالَ الطَّبْعُ إلَيْهِ. وثانِيها: أنَّهُ عَظُمَ اعْتِقادُهُ في صَبْرِهِ وثَباتِهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ بَعْدَ أنْ بَقِيَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ لَمّا أذِنَ لَهُ في الخُرُوجِ ما أسْرَعَ إلى الخُرُوجِ، بَلْ صَبَرَ وتَوَقَّفَ وطَلَبَ أوَّلًا ما يَدُلُّ عَلى بَراءَةِ حالِهِ عَنْ جَمِيعِ التُّهَمِ. وثالِثُها: أنَّهُ عَظُمَ اعْتِقادُهُ في حُسْنِ أدَبِهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ اقْتَصَرَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ما بالُ النِّسْوَةِ اللّاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾ (يُوسُفَ: ٥٠) وإنْ كانَ غَرَضُهُ ذِكْرَ امْرَأةِ العَزِيزِ فَسَتَرَ ذِكْرَها، وتَعَرَّضَ لِأمْرِ سائِرِ النِّسْوَةِ مَعَ أنَّهُ وصَلَ إلَيْهِ مِن جِهَتِها أنْواعٌ عَظِيمَةٌ مِنَ البَلاءِ، وهَذا مِنَ الأدَبِ العَجِيبِ. ورابِعُها: بَراءَةُ حالِهِ عَنْ جَمِيعِ أنْواعِ التُّهَمِ، فَإنَّ الخَصْمَ أقَرَّ لَهُ بِالطَّهارَةِ والنَّزاهَةِ والبَراءَةِ عَنِ الجُرْمِ. وخامِسُها: أنَّ الشَّرابِيَّ وصَفَ لَهُ جِدَّهُ في الطّاعاتِ واجْتِهادَهُ في الإحْسانِ إلى الَّذِينَ كانُوا في السِّجْنِ. وسادِسُها: أنَّهُ بَقِيَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. وهَذِهِ الأُمُورُ كُلُّ واحِدٍ مِنها يُوجِبُ حُسْنَ الِاعْتِقادِ في الإنْسانِ، فَكَيْفَ مَجْمُوعُها ؟ فَلِهَذا السَّبَبِ حَسُنَ اعْتِقادُ المَلِكِ فِيهِ، وإذا أرادَ اللَّهُ شَيْئًا جَمَعَ أسْبابَهُ وقَوّاها. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: لَمّا ظَهَرَ لِلْمَلِكِ هَذِهِ الأحْوالُ مِن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَغِبَ أنْ يَتَّخِذَهُ لِنَفْسِهِ فَقالَ: ﴿ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ رُوِيَ أنَّ الرَّسُولَ قالَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: قُمْ إلى المَلِكِ مُتَنَظِّفًا مِن دَرَنِ السِّجْنِ بِالثِّيابِ النَّظِيفَةِ والهَيْئَةِ الحَسَنَةِ؛ فَكَتَبَ عَلى بابِ السِّجْنِ: هَذِهِ مَنازِلُ البَلْوى، وقُبُورُ الأحْياءِ، وشَماتَةُ الأعْداءِ، وتَجْرِبَةُ الأصْدِقاءِ، ولَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِخَيْرِكَ مِن خَيْرِهِ وأعُوذُ بِعِزَّتِكَ وقُدْرَتِكَ مِن شَرِّهِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ودَعا لَهُ بِالعِبْرانِيَّةِ. والِاسْتِخْلاصُ طَلَبُ خُلُوصِ الشَّيْءِ مِن شَوائِبِ الِاشْتِراكِ، وهَذا المَلِكُ طَلَبَ أنْ يَكُونَ يُوسُفُ لَهُ وحْدَهُ، وأنَّهُ لا يُشارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ؛ لِأنَّ عادَةَ المُلُوكِ أنْ يَنْفَرِدُوا بِالأشْياءِ النَّفِيسَةِ الرَّفِيعَةِ، فَلَمّا عَلِمَ المَلِكُ أنَّهُ وحِيدُ زَمانِهِ وفَرِيدُ أقْرانِهِ؛ أرادَ أنْ يَنْفَرِدَ بِهِ. رُوِيَ أنَّ المَلِكَ قالَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ما مِن شَيْءٍ إلّا وأُحِبُّ أنْ تُشْرِكَنِي فِيهِ إلّا في أهْلِي وفي أنْ لا تَأْكُلَ مَعِي، فَقالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أما تَرى أنْ آكُلَ مَعَكَ، وأنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ الذَّبِيحِ ابْنِ إبْراهِيمَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ ؟ ثُمَّ قالَ: ﴿فَلَمّا كَلَّمَهُ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ فَلَمّا كَلَّمَ المَلِكُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالُوا: لِأنَّ في مَجالِسِ المُلُوكِ لا يَحْسُنُ لِأحَدٍ أنْ يَبْتَدِئَ بِالكَلامِ، وإنَّما الَّذِي يَبْتَدِئُ بِهِ هو المَلِكُ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ: فَلَمّا كَلَّمَ يُوسُفُ المَلِكَ، قِيلَ: لَمّا صارَ يُوسُفُ إلى المَلِكِ وكانَ ذَلِكَ الوَقْتَ ابْنَ ثَلاثِينَ سَنَةً، فَلَمّا رَآهُ المَلِكُ حَدَثًا شابًّا قالَ لِلشَّرابِيِّ: هَذا هو الَّذِي عَلِمَ تَأْوِيلَ رُؤْيايَ مَعَ أنَّ السَّحَرَةَ والكَهَنَةَ ما عَلِمُوها ؟ قالَ: نَعَمْ. فَأقْبَلَ عَلى يُوسُفَ، وقالَ: إنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيا مِنكَ شِفاهًا، فَأجابَ بِذَلِكَ الجَوابِ شِفاهًا وشَهِدَ قَلْبُهُ بِصِحَّتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ لَهُ: ﴿إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أمِينٌ﴾ يُقالُ: فُلانٌ مَكِينٌ عِنْدَ فُلانٍ بَيِّنُ المَكانَةِ أيِ المَنزِلَةِ، وهي حالَةٌ يَتَمَكَّنُ بِها صاحِبُها مِمّا يُرِيدُ. وقَوْلُهُ: ﴿أمِينٌ﴾ أيْ قَدْ عَرَفْنا أمانَتَكَ وبَراءَتَكَ مِمّا نُسِبْتَ إلَيْهِ. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مَكِينٌ أمِينٌ﴾ كَلِمَةٌ جامِعَةٌ لِكُلِّ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ مِنَ الفَضائِلِ والمَناقِبِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لا بُدَّ (p-١٢٨)فِي كَوْنِهِ مَكِينًا مِنَ القُدْرَةِ والعِلْمِ. أمّا القُدْرَةُ فَلِأنَّ بِها يَحْصُلُ المُكْنَةُ، وأمّا العِلْمُ فَلِأنَّ كَوْنَهُ مُتَمَكِّنًا مِن أفْعالِ الخَيْرِ لا يَحْصُلُ إلّا بِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِما يَنْبَغِي وبِما لا يَنْبَغِي لا يُمْكِنُهُ تَخْصِيصُ ما يَنْبَغِي بِالفِعْلِ، وتَخْصِيصُ ما لا يَنْبَغِي بِالتَّرْكِ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَهُ مَكِينًا لا يَحْصُلُ إلّا بِالقُدْرَةِ والعِلْمِ. أمّا كَوْنُهُ أمِينًا فَهو عِبارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ حَكِيمًا لا يَفْعَلُ الفِعْلَ لِداعِي الشَّهْوَةِ بَلْ إنَّما يَفْعَلُهُ لِداعِي الحِكْمَةِ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَهُ مَكِينًا أمِينًا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ قادِرًا، وعَلى كَوْنِهِ عالِمًا بِمَواقِعِ الخَيْرِ والشَّرِّ والصَّلاحِ والفَسادِ، وعَلى كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَفْعَلُ لِداعِي الحِكْمَةِ لا لِداعِيَةِ الشَّهْوَةِ، وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ لا يَصْدُرُ عَنْهُ فِعْلُ الشَّرِّ والسَّفَهِ؛ فَلِهَذا المَعْنى لَمّا حاوَلَتِ المُعْتَزِلَةُ إثْباتَ أنَّهُ تَعالى لا يَفْعَلُ القَبِيحَ قالُوا: إنَّهُ تَعالى لا يَفْعَلُ القَبِيحَ؛ لِأنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِقُبْحِ القَبِيحِ، عالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَفْعَلِ القَبِيحَ. قالُوا: وإنَّما يَكُونُ غَنِيًّا عَنِ القَبِيحِ إذا كانَ قادِرًا، وإذا كانَ مُنَزَّهًا عَنْ داعِيَةِ السَّفَهِ، فَثَبَتَ أنَّ وصْفَهُ بِكَوْنِهِ مَكِينًا أمِينًا نِهايَةُ ما يُمْكِنُ ذِكْرُهُ في هَذا البابِ ثُمَّ حَكى تَعالى أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ في هَذا المَقامِ: ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا عَبَّرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ رُؤْيا المَلِكِ بَيْنَ يَدَيْهِ قالَ لَهُ المَلِكُ: فَما تَرى أيُّها الصِّدِّيقُ ؟ قالَ: أرى أنْ تَزْرَعَ في هَذِهِ السِّنِينَ المُخْصِبَةِ زَرْعًا كَثِيرًا، وتَبْنِيَ الخَزائِنَ، وتَجْمَعَ فِيها الطَّعامَ، فَإذا جاءَتِ السُّنُونَ المُجْدِبَةُ؛ بِعْنا الغَلّاتِ فَيَحْصُلُ بِهَذا الطَّرِيقِ مالٌ عَظِيمٌ، فَقالَ المَلِكُ: ومَن لِي بِهَذا الشُّغْلِ ؟ فَقالَ يُوسُفُ: ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ﴾ أيْ عَلى خَزائِنِ أرْضِ مِصْرَ، وأدْخَلَ الألِفَ واللّامَ عَلى الأرْضِ، والمُرادُ مِنهُ المَعْهُودُ السّابِقُ. رَوى ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ -ﷺ- في هَذِهِ الآيَةِ، أنَّهُ قالَ: «رَحِمَ اللَّهُ أخِي يُوسُفَ، لَوْ لَمْ يَقُلِ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ لاسْتَعْمَلَهُ مِن ساعَتِهِ، لَكِنَّهُ لَمّا قالَ ذَلِكَ أخَّرَهُ عَنْهُ سَنَةً» . . وأقُولُ: هَذا مِنَ العَجائِبِ لِأنَّهُ لَمّا تَأبّى عَنِ الخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ سَهَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، ولَمّا تَسارَعَ في ذِكْرِ الِالتِماسِ أخَّرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ المَطْلُوبَ عَنْهُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَرْكَ التَّصَرُّفِ والتَّفْوِيضِ بِالكُلِّيَّةِ إلى اللَّهِ تَعالى أوْلى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لِمَ طَلَبَ يُوسُفُ الإمارَةَ، «والنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: ”لا تَسْألِ الإمارَةَ“» ؟ وأيْضًا فَكَيْفَ طَلَبَ الإمارَةَ مِن سُلْطانٍ كافِرٍ ؟ وأيْضًا لِمَ لَمْ يَصْبِرْ مُدَّةً ؟ ولِمَ أظْهَرَ الرَّغْبَةَ في طَلَبِ الإمارَةِ في الحالِ ؟ وأيْضًا لِمَ طَلَبَ أمْرَ الخَزائِنِ في أوَّلِ الأمْرِ، مَعَ أنَّ هَذا يُورِثُ نَوْعَ تُهْمَةٍ ؟ وأيْضًا كَيْفَ جَوَّزَ مِن نَفْسِهِ مَدْحَ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ ؟ مَعَ أنَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ﴾ (النَّجْمِ: ٣٢) وأيْضًا فَما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ وأيْضًا لِمَ تَرَكَ الِاسْتِثْناءَ في هَذا ؟ فَإنَّ الأحْسَنَ أنْ يَقُولَ: إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ إنْ شاءَ اللَّهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ (الكَهْفِ: ٢٣، ٢٤) فَهَذِهِ أسْئِلَةٌ سَبْعَةٌ لا بُدَّ مِن جَوابِها فَنَقُولُ: الأصْلُ في جَوابِ هَذِهِ المَسائِلِ أنَّ التَّصَرُّفَ في أُمُورِ الخَلْقِ كانَ واجِبًا عَلَيْهِ، فَجازَ لَهُ أنْ يَتَوَصَّلَ إلَيْهِ بِأيِّ طَرِيقٍ كانَ، إنَّما قُلْنا: إنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ كانَ واجِبًا عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ كانَ رَسُولًا حَقًّا مِنَ اللَّهِ تَعالى إلى الخَلْقِ، والرَّسُولُ يَجِبُ عَلَيْهِ رِعايَةُ مَصالِحِ الأُمَّةِ بِقَدْرِ الإمْكانِ. والثّانِي: وهو أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلِمَ بِالوَحْيِ أنَّهُ سَيَحْصُلُ القَحْطُ، والضِّيقُ الشَّدِيدُ الَّذِي رُبَّما أفْضى إلى هَلاكِ الخَلْقِ العَظِيمِ، فَلَعَلَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِأنْ يُدَبِّرَ في ذَلِكَ ويَأْتِيَ بِطَرِيقٍ لِأجْلِهِ يَقِلُّ ضَرَرُ ذَلِكَ القَحْطِ في حَقِّ الخَلْقِ. والثّالِثُ: أنَّ السَّعْيَ في إيصالِ النَّفْعِ إلى المُسْتَحِقِّينَ، ودَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهم أمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ في العُقُولِ. (p-١٢٩) وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مُكَلَّفًا بِرِعايَةِ مَصالِحِ الخَلْقِ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ، وما كانَ يُمْكِنُهُ رِعايَتُها إلّا بِهَذا الطَّرِيقِ، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلّا بِهِ، فَهو واجِبٌ، فَكانَ هَذا الطَّرِيقُ واجِبًا عَلَيْهِ ولَمّا كانَ واجِبًا سَقَطَتِ الأسْئِلَةُ بِالكُلِّيَّةِ، وأمّا تَرْكُ الِاسْتِثْناءِ فَقالَ الواحِدِيُّ: كانَ ذَلِكَ مِن خَطِيئَةٍ أوْجَبَتْ عُقُوبَةً وهي أنَّهُ تَعالى أخَّرَ عَنْهُ حُصُولَ ذَلِكَ المَقْصُودِ سَنَةً، وأقُولُ: لَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أنَّهُ لَوْ ذَكَرَ هَذا الِاسْتِثْناءَ لاعْتَقَدَ فِيهِ المَلِكُ أنَّهُ إنَّما ذَكَرَهُ لِعِلْمِهِ بِأنَّهُ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى ضَبْطِ هَذِهِ المَصْلَحَةِ كَما يَنْبَغِي، فَلِأجْلِ هَذا المَعْنى تَرَكَ الِاسْتِثْناءَ، وأمّا قَوْلُهُ لِمَ مَدَحَ نَفْسَهُ ؟ فَجَوابُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: لا نُسَلِّمُ أنَّهُ مَدَحَ نَفْسَهُ، لَكِنَّهُ بَيَّنَ كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ النّافِعَتَيْنِ في حُصُولِ هَذا المَطْلُوبِ، وبَيْنَ البابَيْنِ فَرْقٌ وكَأنَّهُ قَدْ غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ أنَّهُ يَحْتاجُ إلى ذِكْرِ هَذا الوَصْفِ لِأنَّ المَلِكَ وإنْ عَلِمَ كَمالَهُ في عُلُومِ الدِّينِ لَكِنَّهُ ما كانَ عالِمًا بِأنَّهُ يَفِي بِهَذا الأمْرِ، ثُمَّ نَقُولُ: هَبْ أنَّهُ مَدَحَ نَفْسَهُ إلّا أنَّ مَدْحِ النَّفْسِ إنَّما يَكُونُ مَذْمُومًا إذا قَصَدَ الرَّجُلُ بِهِ التَّطاوُلَ والتَّفاخُرَ والتَّوَصُّلَ إلى غَيْرِ ما يَحِلُّ، فَأمّا عَلى غَيْرِ هَذا الوَجْهِ فَلا نُسَلِّمُ أنَّهُ مُحَرَّمٌ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ﴾ (النَّجْمِ: ٣٢) المُرادُ مِنهُ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ حالَ ما يُعْلَمُ كَوْنُها غَيْرَ مُتَزَكِّيَةٍ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى﴾ أمّا إذا كانَ الإنْسانُ عالِمًا بِأنَّهُ صِدْقٌ وحَقٌّ فَهَذا غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنهُ واللَّهُ أعْلَمُ. قَوْلُهُ: ما الفائِدَةُ في وصْفِهِ نَفْسَهُ بِأنَّهُ حَفِيظٌ عَلِيمٌ ؟ قُلْنا: إنَّهُ جارٍ مَجْرى أنْ يَقُولَ: حَفِيظٌ بِجَمِيعِ الوُجُوهِ الَّتِي مِنها يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الدَّخْلِ والمالِ، عَلِيمٌ بِالجِهاتِ الَّتِي تَصْلُحُ لِأنْ يُصْرَفَ المالُ إلَيْها. ويُقالُ: حَفِيظٌ بِجَمِيعِ مَصالِحِ النّاسِ، عَلِيمٌ بِجِهاتِ حاجاتِهِمْ. أوْ يُقالُ: حَفِيظٌ لِوُجُوهِ أيادِيكَ وكَرَمِكَ، عَلِيمٌ بِوُجُوبِ مُقابَلَتِها بِالطّاعَةِ والخُضُوعِ وهَذا بابٌ واسِعٌ يُمْكِنُ تَكْثِيرُهُ لِمَن أرادَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب