الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ المَلِكُ إنِّي أرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يابِساتٍ ياأيُّها المَلَأُ أفْتُونِي في رُؤْيايَ إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ﴾ ﴿قالُوا أضْغاثُ أحْلامٍ وما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعالِمِينَ﴾ .(p-١١٨) اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى إذا أرادَ شَيْئًا هَيَّأ لَهُ أسْبابًا، ولَمّا دَنا فَرَجُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأى مَلِكُ مِصْرَ في النَّوْمِ سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ خَرَجْنَ مِن نَهْرٍ يابِسٍ وسَبْعَ بَقَراتٍ عِجافٍ فابْتَلَعَتِ العِجافُ السِّمانَ، ورَأى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّها وسَبْعًا أُخَرَ يابِساتٍ، فالتَوَتِ اليابِساتُ عَلى الخُضْرِ حَتّى غَلَبْنَ عَلَيْها. فَجَمَعَ الكَهَنَةَ وذَكَرَها لَهم وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها المَلَأُ أفْتُونِي في رُؤْيايَ﴾ فَقالَ القَوْمُ: هَذِهِ الرُّؤْيا مُخْتَلِطَةٌ فَلا نَقْدِرُ عَلى تَأْوِيلِها وتَعْبِيرِها، فَهَذا ظاهِرُ الكَلامِ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ اللَّيْثُ: العَجَفُ ذَهابُ السِّمَنِ، والفِعْلُ عَجِفَ يَعْجَفُ والذَّكَرُ أعْجَفُ والأُنْثى عَجْفاءُ والجَمْعُ عِجافٌ في الذُّكْرانِ والإناثِ. ولَيْسَ في كَلامِ العَرَبِ أفْعَلُ وفَعْلاءُ جَمْعًا عَلى فِعالٍ غَيْرَ أعْجَفَ وعِجافٍ، وهي شاذَّةٌ حَمَلُوها عَلى لَفْظِ سِمانٍ فَقالُوا: سِمانٌ وعِجافٌ لِأنَّهُما نَقِيضانِ. ومِن دَأْبِهِمْ حَمْلُ النَّظِيرِ عَلى النَّظِيرِ، والنَّقِيضِ عَلى النَّقِيضِ. واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ﴾ عَلى قَوْلِ البَعْضِ زائِدَةٌ لِتَقَدُّمِ المَفْعُولِ عَلى الفِعْلِ، وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الرُّؤْيا خَبَرَ كانَ كَما تَقُولُ: كانَ فُلانٌ لِهَذا الأمْرِ إذا كانَ مُسْتَقِلًّا بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنهُ، وتَعْبُرُونَ خَبَرًا آخَرَ أوْ حالًا، ويُقالُ عَبَرْتُ الرُّؤْيا أعْبُرُها عِبارَةً وعَبَّرْتُها تَعْبِيرًا إذا فَسَّرْتَها، وحَكى الأزْهَرِيُّ أنَّ هَذا مَأْخُوذٌ مِنَ العُبْرِ، وهو جانِبُ النَّهَرِ. ومَعْنى عَبَرْتُ النَّهَرَ والطَّرِيقَ، قَطَعْتُهُ إلى الجانِبِ الآخَرِ، فَقِيلَ لِعابِرِ الرُّؤْيا عابِرٌ لِأنَّهُ يَتَأمَّلُ جانِبَيِ الرُّؤْيا فَيَتَفَكَّرُ في أطْرافِها ويَنْتَقِلُ مِن أحَدِ الطَّرَفَيْنِ إلى الآخَرِ. والأضْغاثُ جَمْعُ الضِّغْثِ وهو الحُزْمَةُ مِن أنْواعِ النَّبْتِ والحَشِيشِ بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ مِمّا قامَ عَلى ساقٍ واسْتَطالَ، قالَ تَعالى: ﴿وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ [ ص: ٤٤] . إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الرُّؤْيا إنْ كانَتْ مَخْلُوطَةً مِن أشْياءَ غَيْرِ مُتَناسِبَةٍ كانَتْ شَبِيهَةً بِالضِّغْثِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى جَعَلَ تِلْكَ الرُّؤْيا سَبَبًا لِخَلاصِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السِّجْنِ، وذَلِكَ لِأنَّ المَلِكَ لَمّا قَلِقَ واضْطَرَبَ بِسَبَبِهِ، لِأنَّهُ شاهَدَ أنَّ النّاقِصَ الضَّعِيفَ اسْتَوْلى عَلى الكامِلِ القَوِيِّ فَشَهِدَتْ فِطْرَتُهُ بِأنَّ هَذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ وأنَّهُ مُنْذِرٌ بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الشَّرِّ، إلّا أنَّهُ ما عَرَفَ كَيْفِيَّةَ الحالِ فِيهِ؛ والشَّيْءُ إذا صارَ مَعْلُومًا مِن وجْهٍ وبَقِيَ مَجْهُولًا مِن وجْهٍ آخَرَ عَظُمَ تَشَوُّفُ النّاسِ إلى تَكْمِيلِ تِلْكَ المَعْرِفَةِ، وقَوِيَتِ الرَّغْبَةُ في إتْمامِ النّاقِصِ لا سِيَّما إذا كانَ الإنْسانُ عَظِيمَ الشَّأْنِ واسِعَ المَمْلَكَةِ، وكانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ دالًّا عَلى الشَّرِّ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، فَبِهَذا الطَّرِيقِ قَوّى اللَّهُ داعِيَةَ ذَلِكَ المَلِكِ في تَحْصِيلِ العِلْمِ بِتَعْبِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أعْجَزَ المُعَبِّرِينَ اللَّذِينَ حَضَرُوا عِنْدَ ذَلِكَ المَلِكِ عَنْ جَوابِ هَذِهِ المَسْألَةِ وعَمّاهُ عَلَيْهِمْ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخَلاصِ يُوسُفَ مِن تِلْكَ المِحْنَةِ. واعْلَمْ أنَّ القَوْمَ ما نَفَوْا عَنْ أنْفُسِهِمْ كَوْنَهم عالِمِينَ بِعِلْمِ التَّعْبِيرِ، بَلْ قالُوا: إنَّ عِلْمَ التَّعْبِيرِ عَلى قِسْمَيْنِ، مِنهُ ما تَكُونُ الرُّؤْيا فِيهِ مُنْتَسِقَةً مُنْتَظِمَةً فَيَسْهُلُ الِانْتِقالُ مِنَ الأُمُورِ المُتَخَيَّلَةِ إلى الحَقائِقِ العَقْلِيَّةِ الرُّوحانِيَّةِ، ومِنهُ ما تَكُونُ فِيهِ مُخْتَلِطَةً مُضْطَرِبَةً ولا يَكُونُ فِيها تَرْتِيبٌ مَعْلُومٌ وهو المُسَمّى بِالأضْغاثِ، والقَوْمُ قالُوا إنَّ رُؤْيا المَلِكِ مِن قِسْمِ الأضْغاثِ ثُمَّ أخْبَرُوا أنَّهم غَيْرُ عالِمِينَ بِتَعْبِيرِ هَذا القِسْمِ وكَأنَّهم قالُوا هَذِهِ الرُّؤْيا مُخْتَلِطَةٌ مِن أشْياءَ كَثِيرَةٍ، وما كانَ كَذَلِكَ فَنَحْنُ لا نَهْتَدِي إلَيْها ولا يُحِيطُ عَقْلُنا بِها، وفِيها إيهامٌ أنَّ العالِمَ في هَذا العِلْمِ والمُتَبَحِّرَ فِيهِ قَدْ يَهْتَدِي إلَيْها، فَعِنْدَ هَذِهِ المَقالَةِ تَذَكَّرَ ذَلِكَ الشَّرابِيُّ واقِعَةَ يُوسُفَ فَإنَّهُ كانَ يَعْتَقِدُ فِيهِ كَوْنَهُ مُتَبَحِّرًا في هَذا العِلْمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب