الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَ يُوسُفُ لِأبِيهِ ياأبَتِ إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ . وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: تَقْدِيرُ الآيَةِ: اذْكُرْ ﴿إذْ قالَ يُوسُفُ﴾ قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الصَّحِيحُ أنَّهُ اسْمٌ عِبْرانِيٌّ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ عَرَبِيًّا لانْصَرَفَ لِخُلُوِّهِ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ سِوى التَّعْرِيفِ، وقَرَأ بَعْضُهم ”يُوسِفَ“ بِكَسْرِ السِّينِ ”ويُوسَفَ“ بِفَتْحِها. وأيْضًا رُوِيَ في يُونُسَ هَذِهِ اللُّغاتُ الثَّلاثُ، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ”«إذا قِيلَ: مَنِ الكَرِيمُ ؟ فَقُولُوا: الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ» “ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ ”يا أبَتَ“ بِفَتْحِ التّاءِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، والباقُونَ بِكَسْرِ التّاءِ. أمّا الفَتْحُ فَوَجْهُهُ أنَّهُ كانَ في الأصْلِ ”يا أبَتاهُ“ عَلى سَبِيلِ النُّدْبَةِ، فَحُذِفَتِ الألِفُ والهاءُ. وأمّا الكَسْرُ فَأصْلُهُ يا أبِي، فَحُذِفَتِ الياءُ واكْتُفِيَ بِالكَسْرَةِ عَنْها ثُمَّ أُدْخِلَ هاءُ الوَقْفِ فَقالَ: ﴿ياأبَتِ﴾ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ حَتّى صارَ كَأنَّهُ مِن نَفْسِ الكَلِمَةِ فَأدْخَلُوا عَلَيْهِ الإضافَةَ، وهَذا قَوْلُ ثَعْلَبٍ وابْنِ الأنْبارِيِّ. واعْلَمْ أنَّ النَّحْوِيِّينَ طَوَّلُوا في هَذِهِ المَسْألَةِ، ومَن أرادَ كَلامَهم فَلْيُطالِعْ كُتُبَهم. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأى في المَنامِ أنَّ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشَّمْسَ والقَمَرَ سَجَدَتْ لَهُ، وكانَ لَهُ أحَدَ عَشَرَ نَفَرًا مِنَ الإخْوَةِ، فَفَسَّرَ الكَواكِبَ بِالإخْوَةِ، والشَّمْسَ والقَمَرَ بِالأبِ والأُمِّ، والسُّجُودَ بِتَواضُعِهِمْ لَهُ ودُخُولِهِمْ تَحْتَ أمْرِهِ، وإنَّما حَمَلْنا قَوْلَهُ: ﴿إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ عَلى الرُّؤْيا لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الكَواكِبَ لا تَسْجُدُ في الحَقِيقَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذا الكَلامِ عَلى الرُّؤْيا. والثّانِي: قَوْلُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إخْوَتِكَ﴾ [يوسف: ٥] وفي الآيَةِ سُؤالاتٌ: (p-٧٠)السُّؤالُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿ساجِدِينَ﴾ لا يَلِيقُ إلّا بِالعُقَلاءِ، والكَواكِبُ جَماداتٌ، فَكَيْفَ جازَتِ اللَّفْظَةُ المَخْصُوصَةُ بِالعُقَلاءِ في حَقِّ الجَماداتِ ؟ . قُلْنا: إنَّ جَماعَةً مِنَ الفَلاسِفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّ الكَواكِبَ أحْياءٌ ناطِقَةٌ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ، وكَذَلِكَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] والجَمْعُ بِالواوِ والنُّونِ مُخْتَصٌّ بِالعُقَلاءِ. وقالَ الواحِدِيُّ: إنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَها بِالسُّجُودِ صارَتْ كَأنَّها تَعْقِلُ، فَأخْبَرَ عَنْها كَما يُخْبِرُ عَمَّنْ يَعْقِلُ كَما قالَ في صِفَةِ الأصْنامِ: ﴿وتَراهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وهم لا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨] وكَما في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ [ النَّمْلِ: ١٨] . السُّؤالُ الثّانِي: قالَ: ﴿إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشَّمْسَ والقَمَرَ﴾ ثُمَّ أعادَ لَفْظَ الرُّؤْيا مَرَّةً ثانِيَةً، وقالَ: ﴿رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ فَما الفائِدَةُ في هَذا التَّكْرِيرِ ؟ الجَوابُ: قالَ القَفّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذَكَرَ الرُّؤْيَةَ الأُولى لِتَدُلَّ عَلى أنَّهُ شاهَدَ الكَواكِبَ والشَّمْسَ والقَمَرَ، والثّانِيَةَ لِتَدُلَّ عَلى مُشاهَدَةِ كَوْنِها ساجِدَةً لَهُ، وقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشَّمْسَ والقَمَرَ﴾ فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ رَأيْتَ ؟ فَقالَ: رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ، وقالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أحَدُهُما مِنَ الرُّؤْيَةِ والآخَرُ مِنَ الرُّؤْيا، وهَذا القائِلُ لَمْ يُبَيِّنْ أنَّ أيَّهُما يُحْمَلُ عَلى الرُّؤْيَةِ وأيَّهُما الرُّؤْيا فَذَكَرَ قَوْلًا مُجْمَلًا غَيْرَ مُبَيَّنٍ. السُّؤالُ الثّالِثُ: لِمَ أخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ ؟ قُلْنا: أخَّرَهُما لِفَضْلِهِما عَلى الكَواكِبِ، لِأنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلى مَزِيدِ الشَّرَفِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [ البَقَرَةِ: ٩٨] . السُّؤالُ الرّابِعُ: المُرادُ بِالسُّجُودِ نَفْسُ السُّجُودِ أوِ التَّواضُعُ كَما في قَوْلِهِ: تَرى الأكَمَ فِيهِ سُجَّدًا لِلْحَوافِرِ قُلْنا: كِلاهُما مُحْتَمَلٌ، والأصْلُ في الكَلامِ حَمْلُهُ عَلى حَقِيقَتِهِ. ولا مانِعَ أنْ يَرى في المَنامِ أنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ والكَواكِبَ سَجَدَتْ لَهُ. السُّؤالُ الخامِسُ: مَتى رَأى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ هَذِهِ الرُّؤْيا ؟ قُلْنا: لا شَكَّ أنَّهُ رَآها حالَ الصِّغَرِ، فَأمّا ذَلِكَ الزَّمانُ بِعَيْنِهِ فَلا يُعْلَمُ إلّا بِالإخْبارِ. قالَ وهْبٌ: رَأى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أنَّ إحْدى عَشْرَةَ عَصًا طِوالًا كانَتْ مَرْكُوزَةً في الأرْضِ كَهَيْئَةِ الدّائِرَةِ، وإذا عَصًا صَغِيرَةٌ وثَبَتَ عَلَيْها حَتّى ابْتَلَعَتْها، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِأبِيهِ فَقالَ: إيّاكَ أنْ تَذْكُرَ هَذا لِإخْوَتِكَ، ثُمَّ رَأى وهو ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً الشَّمْسَ والقَمَرَ والكَواكِبَ تَسْجُدُ لَهُ فَقَصَّها عَلى أبِيهِ فَقالَ: لا تَذْكُرْها لَهم فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا. وقِيلَ: كانَ بَيْنَ رُؤْيا يُوسُفَ ومَصِيرِ إخْوَتِهِ إلَيْهِ أرْبَعُونَ سَنَةً وقِيلَ: ثَمانُونَ سَنَةً. واعْلَمْ أنَّ الحُكَماءَ يَقُولُونَ إنَّ الرُّؤْيا الرَّدِيئَةَ يَظْهَرُ تَعْبِيرُها عَنْ قَرِيبٍ، والرُّؤْيا الجَيِّدَةُ إنَّما يَظْهَرُ تَعْبِيرُها بَعْدَ حِينٍ. قالُوا: والسَّبَبُ في ذَلِكَ أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَقْتَضِي أنْ لا يَحْصُلَ الإعْلامُ بِوُصُولِ الشَّرِّ إلّا عِنْدَ قُرْبِ وُصُولِهِ حَتّى يَكُونَ الحُزْنُ والغَمُّ أقَلَّ، وأمّا الإعْلامُ بِالخَيْرِ فَإنَّهُ يَحْصُلُ مُتَقَدِّمًا عَلى ظُهُورِهِ بِزَمانٍ طَوِيلٍ حَتّى (p-٧١)تَكُونَ البَهْجَةُ الحاصِلَةُ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ حُصُولِ ذَلِكَ الخَيْرِ أكْثَرَ وأتَمَّ. السُّؤالُ السّادِسُ: قالَ بَعْضُهم: المُرادُ مِنَ الشَّمْسِ والقَمَرِ أبُوهُ وخالَتُهُ فَما السَّبَبُ فِيهِ ؟ قُلْنا: إنَّما قالُوا ذَلِكَ مِن حَيْثُ ورَدَ في الخَبَرِ أنَّ والِدَتَهُ تُوُفِّيَتْ وما دَخَلَتْ عَلَيْهِ حالَ ما كانَ بِمِصْرَ قالُوا: ولَوْ كانَ المُرادُ مِنَ الشَّمْسِ والقَمَرِ أباهُ وأُمَّهُ لَما ماتَتْ لِأنَّ رُؤْيا الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ وحْيًا، وهَذِهِ الحُجَّةُ غَيْرُ قَوِيَّةٍ لِأنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ مِنَ الأنْبِياءِ. السُّؤالُ السّابِعُ: وما تِلْكَ الكَواكِبُ ؟ قُلْنا: رَوى صاحِبُ الكَشّافِ «أنَّ يَهُودِيًّا جاءَ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ أخْبِرْنِي عَنِ النُّجُومِ الَّتِي رَآهُنَّ يُوسُفُ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وأخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلْيَهُودِيِّ: ”إنْ أخْبَرْتُكَ هَلْ تُسْلِمُ ؟“ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ”جَرْبانُ والطّارِقُ والذَّيّالُ وقابِسٌ وعَمُودانُ والفُلَيْقُ والمُصْبِحُ والضَّرُوحُ والفَرْغُ ووَثّابٌ وذُو الكَتِفَيْنِ رَآها يُوسُفُ والشَّمْسُ والقَمَرُ نَزَلَتْ مِنَ السَّماءِ وسَجَدَتْ لَهُ“ فَقالَ اليَهُودِيُّ: أيْ واللَّهِ إنَّها لَأسْماؤُها» . واعْلَمْ أنَّ كَثِيرًا مِن هَذِهِ الأسْماءِ غَيْرُ مَذْكُورٍ في الكُتُبِ المُصَنَّفَةِ في صُورَةِ الكَواكِبِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب