الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واسْتَبَقا البابَ وقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وألْفَيا سَيِّدَها لَدى البابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا إلّا أنْ يُسْجَنَ أوْ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿قالَ هي راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهو مِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿وإنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وهو مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿فَلَمّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قالَ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ ﴿يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطِئِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْها أنَّها ”هَمَّتْ“ أتْبَعَهُ بِكَيْفِيَّةِ طَلَبِها وهَرَبِهِ فَقالَ: ﴿واسْتَبَقا البابَ﴾ والمُرادُ أنَّهُ (p-٩٨)هَرَبَ مِنها وحاوَلَ الخُرُوجَ مِنَ البابِ وعَدَتِ المَرْأةُ خَلْفَهُ لِتَجْذِبَهُ إلى نَفْسِها، والِاسْتِباقُ طَلَبُ السَّبْقِ إلى الشَّيْءِ، ومَعْناهُ: تَبادَرَ إلى البابِ يَجْتَهِدُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أنْ يَسْبِقَ صاحِبَهُ، فَإنْ سَبَقَ يُوسُفُ فَتَحَ البابَ وخَرَجَ، وإنْ سَبَقَتِ المَرْأةُ أمْسَكَتِ البابَ لِئَلّا يَخْرُجَ، وقَوْلُهُ: ﴿واسْتَبَقا البابَ﴾ أيِ اسْتَبَقا إلى البابِ كَقَوْلِهِ: ﴿واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا﴾ [الأعراف: ١٥٥] أيْ مِن قَوْمِهِ. واعْلَمْ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ سَبَقَها إلى البابِ وأرادَ الخُرُوجَ والمَرْأةُ تَعْدُو خَلْفَهُ فَلَمْ تَصِلْ إلّا إلى دُبُرِ القَمِيصِ فَقَدَّتْهُ، أيْ قَطَعَتْهُ طُولًا، وفي ذَلِكَ الوَقْتِ حَضَرَ زَوْجُها وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ ﴿وألْفَيا سَيِّدَها لَدى البابِ﴾ أيْ صادَفا بَعْلَها؛ تَقُولُ المَرْأةُ لِبَعْلِها سَيِّدِي، وإنَّما لَمْ يَقُلْ سَيِّدَهُما لِأنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ مَمْلُوكًا لِذَلِكَ الرَّجُلِ في الحَقِيقَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خافَتِ المَرْأةُ مِنَ التُّهْمَةِ فَبادَرَتْ إلى أنْ رَمَتْ يُوسُفَ بِالفِعْلِ القَبِيحِ، وقالَتْ: ﴿ما جَزاءُ مَن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا إلّا أنْ يُسْجَنَ أوْ عَذابٌ ألِيمٌ﴾، والمَعْنى ظاهِرٌ. وفِي الآيَةِ لَطائِفُ: إحْداها: أنَّ ”ما“ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ نافِيَةً، أيْ لَيْسَ جَزاؤُهُ إلّا السِّجْنُ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً يَعْنِي أيُّ شَيْءٍ جَزاؤُهُ إلّا أنْ يُسْجَنَ كَما تَقُولُ: مَن في الدّارِ إلّا زَيْدٌ. وثانِيها: أنَّ حُبَّها الشَّدِيدَ لِيُوسُفَ حَمَلَها عَلى رِعايَةِ دَقِيقَتَيْنِ في هَذا المَوْضِعِ وذَلِكَ لِأنَّها بَدَأتْ بِذِكْرِ السِّجْنِ، وأخَّرَتْ ذِكْرَ العَذابِ، لِأنَّ المُحِبَّ لا يَسْعى في إيلامِ المَحْبُوبِ، وأيْضًا أنَّها لَمْ تَذْكُرْ أنَّ يُوسُفَ يَجِبُ أنْ يُعامَلَ بِأحَدِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، بَلْ ذَكَرَتْ ذَلِكَ ذِكْرًا كُلِّيًّا صَوْنًا لِلْمَحْبُوبِ عَنِ الذِّكْرِ بِالسُّوءِ والألَمِ، وأيْضًا قالَتْ: ﴿إلّا أنْ يُسْجَنَ﴾ والمُرادُ أنْ يُسْجَنَ يَوْمًا أوْ أقَلَّ عَلى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ، فَأمّا الحَبْسُ الدّائِمُ فَإنَّهُ لا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِهَذِهِ العِبارَةِ، بَلْ يُقالُ: يَجِبُ أنْ يُجْعَلَ مِنَ المَسْجُونِينَ، ألا تَرى أنَّ فِرْعَوْنَ هَكَذا قالَ حِينَ تَهَدَّدَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: ٢٩] . وثالِثُها: أنَّها لَمّا شاهَدَتْ مِن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ اسْتَعْصَمَ مِنها مَعَ أنَّهُ كانَ في عُنْفُوانِ العُمُرِ وكَمالِ القُوَّةِ ونِهايَةِ الشَّهْوَةِ، عَظُمَ اعْتِقادُها في طَهارَتِهِ ونَزاهَتِهِ فاسْتَحْيَتْ أنْ تَقُولَ إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَصَدَنِي بِالسُّوءِ، وما وجَدَتْ مِن نَفْسِها أنْ تَرْمِيَهُ بِهَذا الكَذِبِ عَلى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ بَلِ اكْتَفَتْ بِهَذا التَّعْرِيضِ. فانْظُرْ إلى تِلْكَ المَرْأةِ ما وجَدَتْ مِن نَفْسِها أنْ تَرْمِيَهُ بِهَذا الكَذِبِ وأنَّ هَؤُلاءِ الحَشْوِيَّةَ يَرْمُونَهُ بَعْدَ قَرِيبٍ مِن أرْبَعَةِ آلافِ سَنَةٍ بِهَذا الذَّنْبِ القَبِيحِ. ورابِعُها: أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أرادَ أنْ يَضْرِبَها ويَدْفَعَها عَنْ نَفْسِهِ، وكانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها جارِيًا مَجْرى السُّوءِ فَقَوْلُها: ﴿ما جَزاءُ مَن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا﴾، جارٍ مَجْرى التَّعْرِيضِ، فَلَعَلَّها بِقَلْبِها كانَتْ تُرِيدُ إقْدامَهُ عَلى دَفْعِها ومَنعِها، وفي ظاهِرِ الأمْرِ كانَتْ تُوهِمُ أنَّهُ قَصَدَنِي بِما لا يَنْبَغِي. واعْلَمْ أنَّ المَرْأةَ لَمّا ذَكَرَتْ هَذا الكَلامَ ولَطَّخَتْ عِرْضَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ احْتاجَ يُوسُفُ إلى إزالَةِ هَذِهِ التُّهْمَةِ فَقالَ: ﴿هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾، وأنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ما هَتَكَ سِتْرَها في أوَّلِ الأمْرِ إلّا أنَّهُ لَمّا خافَ عَلى النَّفْسِ وعَلى العِرْضِ أظْهَرَ الأمْرَ. واعْلَمْ أنَّ العَلاماتِ الكَثِيرَةَ كانَتْ دالَّةً عَلى أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ هو الصّادِقُ؛ فالأوَّلُ: أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ في ظاهِرِ الأمْرِ كانَ عَبْدًا لَهم والعَبْدُ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَتَسَلَّطَ عَلى مَوْلاهُ إلى هَذا الحَدِّ. والثّانِي: أنَّهم شاهَدُوا أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَعْدُو عَدْوًا شَدِيدًا لِيَخْرُجَ، والرَّجُلُ الطّالِبُ لِلْمَرْأةِ لا يَخْرُجُ مِنَ الدّارِ عَلى هَذا الوَجْهِ. والثّالِثُ: أنَّهم رَأوْا أنَّ المَرْأةَ زَيَّنَتْ نَفْسَها عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ، وأمّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَما كانَ (p-٩٩)عَلَيْهِ أثَرٌ مِن آثارِ تَزْيِينِ النَّفْسِ فَكانَ إلْحاقُ هَذِهِ الفِتْنَةِ بِالمَرْأةِ أوْلى. الرّابِعُ: أنَّهم كانُوا قَدْ شاهَدُوا أحْوالَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ في المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَما رَأوْا عَلَيْهِ حالَةً تُناسِبُ إقْدامَهُ عَلى مِثْلِ هَذا الفِعْلِ المُنْكَرِ، وذَلِكَ أيْضًا مِمّا يُقَوِّي الظَّنَّ. الخامِسُ: أنَّ المَرْأةَ ما نَسَبَتْهُ إلى طَلَبِ الفاحِشَةِ عَلى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ بَلْ ذَكَرَتْ كَلامًا مُجْمَلًا مُبْهَمًا، وأمّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ صَرَّحَ بِالأمْرِ ولَوْ أنَّهُ كانَ مُتَّهَمًا لَما قَدَرَ عَلى التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فَإنَّ الخائِنَ خائِفٌ. السّادِسُ: قِيلَ: إنَّ زَوْجَ المَرْأةِ كانَ عاجِزًا وآثارُ طَلَبِ الشَّهْوَةِ في حَقِّ المَرْأةِ كانَتْ مُتَكامِلَةً فَإلْحاقُ هَذِهِ الفِتْنَةِ بِها أوْلى، فَلَمّا حَصَلَتْ هَذِهِ الأماراتُ الكَثِيرَةُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ مَبْدَأ هَذِهِ الفِتْنَةِ كانَ مِنَ المَرْأةِ اسْتَحْيا الزَّوْجُ وتَوَقَّفَ وسَكَتَ لِعِلْمِهِ بِأنَّ يُوسُفَ صادِقٌ والمَرْأةَ كاذِبَةٌ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أظْهَرَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ دَلِيلًا آخَرَ يُقَوِّي تِلْكَ الدَّلائِلَ المَذْكُورَةَ، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ بَرِيءٌ عَنِ الذَّنْبِ وأنَّ المَرْأةَ هي المُذْنِبَةُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها﴾ وفي هَذا الشّاهِدِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ كانَ لَها ابْنُ عَمٍّ وكانَ رَجُلًا حَكِيمًا. واتَّفَقَ في ذَلِكَ الوَقْتِ أنَّهُ كانَ مَعَ المَلِكِ يُرِيدُ أنْ يَدْخُلَ عَلَيْها فَقالَ: قَدْ سَمِعْنا الجَلَبَةَ مِن وراءِ البابِ وشَقَّ القَمِيصِ إلّا أنّا لا نَدْرِي أيَّكُما قُدّامَ صاحِبِهِ، فَإنْ كانَ شَقُّ القَمِيصِ مِن قُدّامِهِ فَأنْتِ صادِقَةٌ والرَّجُلُ كاذِبٌ، وإنْ كانَ مِن خَلْفِهِ فالرَّجُلُ صادِقٌ وأنْتِ كاذِبَةٌ، فَلَمّا نَظَرُوا إلى القَمِيصِ ورَأوُا الشَّقَّ مِن خَلْفِهِ قالَ ابْنُ عَمِّها: ﴿إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ أيْ مِن عَمَلِكُنَّ. ثُمَّ قالَ لِيُوسُفَ: أعْرِضْ عَنْ هَذا واكْتُمْهُ، وقالَ لَها: اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، وهَذا قَوْلُ طائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ. والثّانِي: وهو أيْضًا مَنقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والضَّحّاكِ: أنَّ ذَلِكَ الشّاهِدَ كانَ صَبِيًّا أنْطَقَهُ اللَّهُ تَعالى في المَهْدِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تَكَلَّمَ في المَهْدِ أرْبَعَةٌ صِغارٌ: شاهِدُ يُوسُفَ، وابْنُ ماشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وعِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ الرّاهِبِ. قالَ الجُبّائِيُّ: والقَوْلُ الأوَّلُ أوْلى لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَوْ أنْطَقَ الطِّفْلَ بِهَذا الكَلامِ لَكانَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ إنَّها كاذِبَةٌ كافِيًا وبُرْهانًا قاطِعًا، لِأنَّهُ مِنَ البَراهِينِ القاطِعَةِ القاهِرَةِ، والِاسْتِدْلالُ بِتَمْزِيقِ القَمِيصِ مِن قُبُلٍ ومِن دُبُرٍ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ ضَعِيفٌ، والعُدُولُ عَنِ الحُجَّةِ القاطِعَةِ حالَ حُضُورِها وحُصُولِها إلى الدَّلالَةِ الظَّنِّيَّةِ لا يَجُوزُ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها﴾ وإنَّما قالَ مِن أهْلِها لِيَكُونَ أوْلى بِالقَبُولِ في حَقِّ المَرْأةِ لِأنَّ الظّاهِرَ مِن حالِ مَن يَكُونُ مِن أقْرِباءِ المَرْأةِ ومِن أهْلِها أنْ لا يَقْصِدَها بِالسُّوءِ والإضْرارِ، فالمَقْصُودُ بِذِكْرِ كَوْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ مِن أهْلِها تَقْوِيَةَ قَوْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وهَذِهِ التَّرْجِيحاتُ إنَّما يُصارُ إلَيْها عِنْدَ كَوْنِ الدَّلالَةِ ظَنِّيَّةً، ولَوْ كانَ هَذا القَوْلُ صادِرًا عَنِ الصَّبِيِّ الَّذِي في المَهْدِ لَكانَ قَوْلُهُ حُجَّةً قاطِعَةً، ولا يَتَفاوَتُ الحالُ بَيْنَ أنْ يَكُونَ مِن أهْلِها، وبَيْنَ أنْ لا يَكُونَ مِن أهْلِها وحِينَئِذٍ لا يَبْقى لِهَذا القَيْدِ أثَرٌ. والثّالِثُ: أنَّ لَفْظَ الشّاهِدِ لا يَقَعُ في العُرْفِ إلّا عَلى مَن تَقَدَّمَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالواقِعَةِ وإحاطَةٌ بِها. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ ذَلِكَ الشّاهِدَ هو القَمِيصُ، قالَ مُجاهِدٌ: الشّاهِدُ كَوْنُ قَمِيصِهِ مَشْقُوقًا مِن دُبُرٍ، وهَذا في غايَةِ الضَّعْفِ لِأنَّ القَمِيصَ لا يُوصَفُ بِهَذا ولا يُنْسَبُ إلى الأهْلِ. واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ عَلَيْهِ أيْضًا إشْكالٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّ العَلامَةَ المَذْكُورَةَ لا تَدُلُّ قَطْعًا عَلى بَراءَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ المَعْصِيَةِ؛ لِأنَّ مِنَ المُحْتَمَلِ أنَّ الرَّجُلَ قَصَدَ المَرْأةَ لِطَلَبِ الزِّنا فالمَرْأةُ غَضِبَتْ عَلَيْهِ فَهَرَبَ الرَّجُلُ فَعَدَتِ المَرْأةُ خَلْفَ الرَّجُلِ وجَذَبَتْهُ لِقَصْدِ أنْ تَضْرِبَهُ ضَرْبًا وجِيعًا، فَعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ القَمِيصُ مُتَخَرِّقًا مِن دُبُرٍ مَعَ أنَّ المَرْأةَ تَكُونُ بَرِيَّةً عَنِ الذَّنْبِ والرَّجُلَ يَكُونُ مُذْنِبًا. (p-١٠٠)وجَوابُهُ: أنّا بَيَّنّا أنَّ عَلاماتِ كَذِبِ المَرْأةِ كانَتْ كَثِيرَةً بالِغَةً مَبْلَغَ اليَقِينِ، فَضَمُّوا إلَيْها هَذِهِ العَلامَةَ الأُخْرى لا لِأجْلِ أنْ يُعَوِّلُوا في الحُكْمِ عَلَيْها، بَلْ لِأجْلِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ جارِيًا مَجْرى المُقَوِّياتِ والمُرَجِّحاتِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أخْبَرَ وقالَ: ﴿فَلَمّا رَأى قَمِيصَهُ﴾ وذَلِكَ يَحْتَمِلُ السَّيِّدَ الَّذِي هو زَوْجُها ويَحْتَمِلُ الشّاهِدَ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قالَ: ﴿إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ﴾ أيْ أنَّ قَوْلَكِ ما جَزاءُ مَن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا خَلَقَ الإنْسانَ ضَعِيفًا فَكَيْفَ وصَفَ كَيْدَ المَرْأةِ بِالعِظَمِ، وأيْضًا فَكَيْدُ الرِّجالِ قَدْ يَزِيدُ عَلى كَيْدِ النِّساءِ ؟ . والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ خِلْقَةَ الإنْسانِ بِالنِّسْبَةِ إلى خِلْقَةِ المَلائِكَةِ والسَّماواتِ والكَواكِبِ خِلْقَةٌ ضَعِيفَةٌ، وكَيْدُ النِّسْواتِ بِالنِّسْبَةِ إلى كَيْدِ البَشَرِ عَظِيمٌ ولا مُنافاةَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ، وأيْضًا فالنِّساءُ لَهُنَّ في هَذا البابِ مِنَ المَكْرِ والحِيَلِ ما لا يَكُونُ لِلرِّجالِ، ولِأنَّ كَيْدَهُنَّ في هَذا البابِ يُورِثُ مِنَ العارِ ما لا يُورِثُهُ كَيْدُ الرِّجالِ. واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا ظَهَرَ لِلْقَوْمِ بَراءَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ ذَلِكَ الفِعْلِ المُنْكَرِ حَكى تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ﴿يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا﴾ فَقِيلَ: إنَّ هَذا مِن قَوْلِ العَزِيزِ، وقِيلَ: إنَّهُ مِن قَوْلِ الشّاهِدِ، ومَعْناهُ: أعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الواقِعَةِ حَتّى لا يَنْتَشِرَ خَبَرُها ولا يَحْصُلَ العارُ العَظِيمُ بِسَبَبِها، وكَما أمَرَ يُوسُفَ بِكِتْمانِ هَذِهِ الواقِعَةِ أمَرَ المَرْأةَ بِالِاسْتِغْفارِ فَقالَ: ﴿واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ وظاهِرُ ذَلِكَ طَلَبُ المَغْفِرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الزَّوْجِ ويَكُونُ مَعْنى المَغْفِرَةِ العَفْوَ والصَّفْحَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالأقْرَبُ أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلِ هو الشّاهِدُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالِاسْتِغْفارِ مِنَ اللَّهِ، لِأنَّ أُولَئِكَ الأقْوامَ كانُوا يُثْبِتُونَ الصّانِعَ، إلّا أنَّهم مَعَ ذَلِكَ كانُوا يَعْبُدُونَ الأوْثانَ بِدَلِيلِ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ﴿أأرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ [يوسف: ٣٩] وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ القائِلُ هو الزَّوْجَ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطِئِينَ﴾ نِسْبَةٌ لَها إلى أنَّها كانَتْ كَثِيرَةَ الخَطَأِ فِيما تَقَدَّمَ، وهَذا أحَدُ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الزَّوْجَ عَرَفَ في أوَّلِ الأمْرِ أنَّ الذَّنْبَ لِلْمَرْأةِ لا لِيُوسُفَ، لِأنَّهُ كانَ يَعْرِفُ عَنْها إقْدامَها عَلى ما لا يَنْبَغِي. وقالَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ: إنَّ ذَلِكَ لِزَوْجٍ كانَ قَلِيلَ الغَيْرَةِ فاكْتَفى مِنها بِالِاسْتِغْفارِ. قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: وإنَّما قالَ مِنَ الخاطِئِينَ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ، تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ عَلى الإناثِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: المُرادُ إنَّكَ مِن نَسْلِ الخاطِئِينَ، فَمِن ذَلِكَ النَّسْلِ سَرى هَذا العِرْقُ الخَبِيثُ فِيكِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب