الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشاءَ إنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِنَ المُهِمّاتِ الَّتِي يَجِبُ الِاعْتِناءُ بِالبَحْثِ عَنْها، وفي هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ هَلْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ أمْ لا ؟ وفي هَذِهِ المَسْألَةِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ هَمَّ بِالفاحِشَةِ. قالَ الواحِدِيُّ في كِتابِ البَسِيطِ: قالَ المُفَسِّرُونَ المَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمُ المَرْجُوعُ إلى رِوايَتِهِمْ: هَمَّ يُوسُفُ أيْضًا بِهَذِهِ المَرْأةِ هَمًّا صَحِيحًا وجَلَسَ مِنها مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ المَرْأةِ، فَلَمّا رَأى البُرْهانَ مِن رَبِّهِ زالَتْ كُلُّ شَهْوَةٍ عَنْهُ. قالَ جَعْفَرٌ الصّادِقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإسْنادِهِ: عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ: طَمِعَتْ فِيهِ وطَمِعَ فِيها فَكانَ طَمَعُهُ فِيها أنَّهُ هَمَّ أنْ يَحِلَّ التِّكَّةَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ما قالَ: حَلَّ الهِمْيانَ وجَلَسَ مِنها مَجْلِسَ الخائِنِ، وعَنْهُ أيْضًا أنَّها اسْتَلْقَتْ لَهُ وجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْها يَنْزِعُ ثِيابَهُ. ثُمَّ إنَّ الواحِدِيَّ طَوَّلَ في كَلِماتٍ عَدِيمَةِ الفائِدَةِ في هَذا البابِ، وما ذَكَرَ آيَةً يَحْتَجُّ بِها ولا حَدِيثًا صَحِيحًا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ في تَصْحِيحِ هَذِهِ المَقالَةِ، وما أمْعَنَ النَّظَرَ في تِلْكَ الكَلِماتِ العارِيَةِ عَنِ الفائِدَةِ؛ رُوِيَ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قالَ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ قالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ولا حِينَ هَمَمْتَ يا يُوسُفُ ؟ فَقالَ يُوسُفُ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿وما أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ [يوسف: ٥٣]، ثُمَّ قالَ: والَّذِينَ أثْبَتُوا هَذا العَمَلَ لِيُوسُفَ كانُوا أعْرَفَ بِحُقُوقِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وارْتِفاعِ مَنازِلِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى مِنَ الَّذِينَ نَفَوُا الهَمَّ عَنْهُ، فَهَذا خُلاصَةُ كَلامِهِ في هَذا البابِ.
(p-٩٣)والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ بَرِيئًا عَنِ العَمَلِ الباطِلِ، والهَمِّ المُحَرَّمِ، وهَذا قَوْلُ المُحَقِّقِينَ مِنَ المُفَسِّرِينَ والمُتَكَلِّمِينَ، وبِهِ نَقُولُ وعَنْهُ نَذُبُّ.
واعْلَمْ أنَّ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى وُجُوبِ عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كَثِيرَةٌ، ولَقَدِ اسْتَقْصَيْناها في سُورَةِ البَقَرَةِ في قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلا نُعِيدُها إلّا أنّا نَزِيدُ هَهُنا وُجُوهًا:
فالحُجَّةُ الأُولى: أنَّ الزِّنا مِن مُنْكَراتِ الكَبائِرِ، والخِيانَةَ في مَعْرِضِ الأمانَةِ أيْضًا مِن مُنْكَراتِ الذُّنُوبِ، وأيْضًا مُقابَلَةُ الإحْسانِ العَظِيمِ بِالإساءَةِ المُوجِبَةِ لِلْفَضِيحَةِ التّامَّةِ والعارِ الشَّدِيدِ أيْضًا مِن مُنْكَراتِ الذُّنُوبِ، وأيْضًا الصَّبِيُّ إذا تَرَبّى في حِجْرِ إنْسانٍ وبَقِيَ مَكْفِيَّ المُؤْنَةِ مَصُونَ العِرْضِ مِن أوَّلِ صِباهُ إلى زَمانِ شَبابِهِ وكَمالِ قُوَّتِهِ، فَإقْدامُ هَذا الصَّبِيِّ عَلى إيصالِ أقْبَحِ أنْواعِ الإساءَةِ إلى ذَلِكَ المُنْعِمِ المُعَظَّمِ مِن مُنْكَراتِ الأعْمالِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ هَذِهِ المَعْصِيَةَ الَّتِي نَسَبُوها إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَتْ مَوْصُوفَةً بِجَمِيعِ هَذِهِ الجِهاتِ الأرْبَعِ، ومِثْلُ هَذِهِ المَعْصِيَةِ لَوْ نُسِبَتْ إلى أفْسَقِ خَلْقِ اللَّهِ تَعالى وأبْعَدِهِمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ لاسْتُنْكِفَ مِنهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إسْنادُها إلى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ المُؤَيَّدُ بِالمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ الباهِرَةِ ! ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ في غَيْرِ هَذِهِ الواقِعَةِ: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشاءَ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ ماهِيَّةَ السُّوءِ والفَحْشاءِ مَصْرُوفَةٌ عَنْهُ، ولا شَكَّ أنَّ المَعْصِيَةَ الَّتِي نَسَبُوها إلَيْهِ أعْظَمُ أنْواعِ المَعاصِي وأفْحَشُ أقْسامِ الفَحْشاءِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَبِّ العالَمِينَ أنْ يَشْهَدَ في عَيْنِ هَذِهِ الواقِعَةِ بِكَوْنِهِ بَرِيئًا مِنَ السُّوءِ مَعَ أنَّهُ كانَ قَدْ أتى بِأعْظَمِ أنْواعِ السُّوءِ والفَحْشاءِ ؟ !
وأيْضًا فالآيَةُ تَدُلُّ عَلى قَوْلِنا مِن وجْهٍ آخَرَ، وذَلِكَ لِأنّا نَقُولُ هَبْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لا تَدُلُّ عَلى نَفْيِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ عَنْهُ، إلّا أنَّهُ لا شَكَّ أنَّها تُفِيدُ المَدْحَ العَظِيمَ والثَّناءَ البالِغَ، فَلا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى أنْ يَحْكِيَ عَنْ إنْسانٍ إقْدامَهُ عَلى مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ ثُمَّ إنَّهُ يَمْدَحُهُ ويُثْنِي عَلَيْهِ بِأعْظَمِ المَدائِحِ والأثْنِيَةِ عَقِيبَ أنْ حَكى عَنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبَ العَظِيمَ، فَإنَّ مِثالَهُ ما إذا حَكى السُّلْطانُ عَنْ بَعْضِ عَبِيدِهِ أقْبَحَ الذُّنُوبِ وأفْحَشَ الأعْمالِ ثُمَّ إنَّهُ يَذْكُرُهُ بِالمَدْحِ العَظِيمِ والثَّناءِ البالِغِ عَقِيبَهُ، فَإنَّ ذَلِكَ يُسْتَنْكَرُ جِدًّا فَكَذا هَهُنا، واللَّهُ أعْلَمُ.
الثّالِثُ: أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَتى صَدَرَتْ مِنهم زَلَّةٌ أوْ هَفْوَةٌ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وأتْبَعُوها بِإظْهارِ النَّدامَةِ والتَّوْبَةِوالتَّواضُعِ، ولَوْ كانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ أقْدَمَ هَهُنا عَلى هَذِهِ الكَبِيرَةِ المُنْكَرَةِ لَكانَ مِنَ المُحالِ أنْ لا يُتْبِعَها بِالتَّوْبَةِ والِاسْتِغْفارِ، ولَوْ أتى بِالتَّوْبَةِ لَحَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إتْيانَهُ بِها كَما في سائِرِ المَواضِعِ، وحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ عَلِمْنا أنَّهُ ما صَدَرَ عَنْهُ في هَذِهِ الواقِعَةِ ذَنْبٌ ولا مَعْصِيَةٌ. الرّابِعُ: أنَّ كُلَّ مَن كانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الواقِعَةِ فَقَدْ شَهِدَ بِبَراءَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ المَعْصِيَةِ.
واعْلَمْ أنَّ الَّذِينَ لَهم تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الواقِعَةِ: يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وتِلْكَ المَرْأةُ وزَوْجُها، والنِّسْوَةُ والشُّهُودُ، ورَبُّ العالَمِينَ شَهِدَ بِبَراءَتِهِ عَنِ الذَّنْبِ، وإبْلِيسُ أقَرَّ بِبَراءَتِهِ أيْضًا عَنِ المَعْصِيَةِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِ تَوَقَّفٌ في هَذا البابِ. أمّا بَيانُ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ادَّعى البَراءَةَ عَنِ الذَّنْبِ فَهو قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ وقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ﴾ [يوسف: ٣٣] وأمّا بَيانُ أنَّ المَرْأةَ اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَلِأنَّها قالَتْ لِلنِّسْوَةِ: ﴿ولَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ﴾ [يوسف: ٣٢] وأيْضًا قالَتْ: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٥١]
وأمّا بَيانُ أنَّ زَوْجَ المَرْأةِ أقَرَّ بِذَلِكَ، فَهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ ﴿يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا﴾ (p-٩٤)﴿واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ [يوسف: ٢٨] وأمّا الشُّهُودُ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهو مِنَ الكاذِبِينَ﴾ [يوسف: ٢٦] وأمّا شَهادَةُ اللَّهِ تَعالى بِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشاءَ إنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾ فَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ عَلى طَهارَتِهِ أرْبَعَ مَرّاتٍ:
أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ﴾ واللّامُ لِلتَّأْكِيدِ والمُبالَغَةِ.
والثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿والفَحْشاءَ﴾ أيْ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشاءَ.
والثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا﴾ مَعَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: ٦٣] .
والرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿المُخْلَصِينَ﴾ وفِيهِ قِراءَتانِ: تارَةً بِاسْمِ الفاعِلِ وأُخْرى بِاسْمِ المَفْعُولِ، فَوُرُودُهُ بِاسْمِ الفاعِلِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ آتِيًا بِالطّاعاتِ والقُرُباتِ مَعَ صِفَةِ الإخْلاصِ، ووُرُودُهُ بِاسْمِ المَفْعُولِ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ واصْطَفاهُ لِحَضْرَتِهِ، وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ فَإنَّهُ مِن أدَلِّ الألْفاظِ عَلى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَمّا أضافُوهُ إلَيْهِ. وأمّا بَيانُ أنَّ إبْلِيسَ أقَرَّ بِطَهارَتِهِ، فَلِأنَّهُ قالَ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ فَأقَرَّ بِأنَّهُ لا يُمْكِنُهُ إغْواءَ المُخْلَصِينَ، ويُوسُفُ مِنَ المُخْلَصِينَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾ فَكانَ هَذا إقْرارًا مِن إبْلِيسَ بِأنَّهُ ما أغْواهُ وما أضَلَّهُ عَنْ طَرِيقَةِ الهُدى.
وعِنْدَ هَذا نَقُولُ: هَؤُلاءِ الجُهّالُ الَّذِينَ نَسَبُوا إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ هَذِهِ الفَضِيحَةَ إنْ كانُوا مِن أتْباعِ دِينِ اللَّهِ تَعالى فَلْيَقْبَلُوا شَهادَةَ اللَّهِ تَعالى عَلى طَهارَتِهِ، وإنْ كانُوا مِن أتْباعِ إبْلِيسَ وجُنُودِهِ فَلْيَقْبَلُوا شَهادَةَ إبْلِيسَ عَلى طَهارَتِهِ، ولَعَلَّهم يَقُولُونَ كُنّا في أوَّلِ الأمْرِ تَلامِذَةَ إبْلِيسَ إلى أنْ تَخَرَّجْنا عَلَيْهِ فَزِدْنا عَلَيْهِ في السَّفاهَةِ كَما قالَ الخَوارِزْمِيُّ:
؎وكُنْتُ امْرَأً مِن جُنْدِ إبْلِيسَ فارْتَقى بِيَ الدَّهْرُ حَتّى صارَ إبْلِيسُ مِن جُنْدِي
؎فَلَوْ ماتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ ∗∗∗ طَرائِقَ فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُها بَعْدِي
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلائِلِ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَرِئَ عَمّا يَقُولُهُ هَؤُلاءِ الجُهّالُ.
وإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الكَلامُ عَلى ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ يَقَعُ في مَقامَيْنِ:
المَقامُ الأوَّلُ: أنْ نَقُولَ لا نُسَلِّمُ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ هَمَّ بِها. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وهَمَّ بِها لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ وجَوابُ ”لَوْلا“ هَهُنا مُقَدَّمٌ، وهو كَما يُقالُ: قَدْ كُنْتُ مِنَ الهالِكِينَ لَوْلا أنَّ فُلانًا خَلَّصَكَ.
وطَعَنَ الزَّجّاجُ في هَذا الجَوابِ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ تَقْدِيمَ جَوابِ ”لَوْلا“ شاذٌّ وغَيْرُ مَوْجُودٍ في الكَلامِ الفَصِيحِ.
الثّانِي: أنَّ ”لَوْلا“ يُجابُ جَوابُها بِاللّامِ، فَلَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما ذَكَرْتُمْ لَقالَ: ولَقَدْ هَمَّتْ ولَهَمَّ بِها لَوْلا.
وذَكَرَ غَيْرُ الزَّجّاجِ سُؤالًا ثالِثًا وهو أنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الهَمُّ لَما كانَ لِقَوْلِهِ: ﴿لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ فائِدَةٌ.
واعْلَمْ أنَّ ما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ بَعِيدٌ، لِأنّا نُسَلِّمُ أنَّ تَأْخِيرَ جَوابِ ”لَوْلا“ حَسَنٌ جائِزٌ، إلّا أنَّ جَوازَهُ لا يَمْنَعُ مِن جَوازِ تَقْدِيمِ هَذا الجَوابِ، وكَيْفَ ونُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أنَّهُ قالَ: إنَّهم يُقَدِّمُونَ الأهَمَّ فالأهَمَّ، والَّذِي هم بِشَأْنِهِ أعْنى؛ فَكانَ الأمْرُ في جَوازِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ مَرْبُوطًا بِشِدَّةِ الِاهْتِمامِ. وأمّا تَعْيِينُ بَعْضِ الألْفاظِ بِالمَنعِ فَذَلِكَ مِمّا لا يَلِيقُ بِالحِكْمَةِ، وأيْضًا ذِكْرُ جَوابِ ”لَوْلا“ بِاللّامِ جائِزٌ. أمّا هَذا لا يَدُلُّ عَلى أنَّ ذِكْرَهُ بِغَيْرِ اللّامِ لا يَجُوزُ. ثُمَّ إنّا نَذْكُرُ آيَةً أُخْرى تَدُلُّ عَلى فَسادِ قَوْلِ الزَّجّاجِ في هَذَيْنِ السُّؤالَيْنِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها﴾ [ القَصَصِ: ١٠] .
(p-٩٥)وأمّا السُّؤالُ الثّالِثُ: وهو أنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الهَمُّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: ﴿لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ فائِدَةٌ. فَنَقُولُ: بَلْ فِيهِ أعْظَمُ الفَوائِدِ، وهو بَيانُ أنَّ تَرْكَ الهَمِّ بِها ما كانَ لِعَدَمِ رَغْبَتِهِ في النِّساءِ وعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِنَّ، بَلْ لِأجْلِ أنَّ دَلائِلَ دِينِ اللَّهِ مَنَعَتْهُ عَنْ ذَلِكَ العَمَلِ، ثُمَّ نَقُولُ: إنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ جَوابَ ”لَوْلا“ ما ذَكَرْناهُ أنَّ ”لَوْلا“ تَسْتَدْعِي جَوابًا، وهَذا المَذْكُورُ يَصْلُحُ جَوابًا لَهُ، فَوَجَبَ الحُكْمُ بِكَوْنِهِ جَوابًا لَهُ؛ لا يُقالُ إنّا نُضْمِرُ لَهُ جَوابًا، وتَرْكُ الجَوابِ كَثِيرٌ في القُرْآنِ، لِأنّا نَقُولُ: لا نِزاعَ أنَّهُ كَثِيرٌ في القُرْآنِ، إلّا أنَّ الأصْلَ أنْ لا يَكُونَ مَحْذُوفًا. وأيْضًا فالجَوابُ إنَّما يَحْسُنُ تَرْكُهُ وحَذْفُهُ إذا حَصَلَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى تَعَيُّنِهِ، وهَهُنا بِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ الجَوابُ مَحْذُوفًا فَلَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى تَعَيُّنِ ذَلِكَ الجَوابِ، فَإنَّ هَهُنا أنْواعًا مِنَ الإضْماراتِ يَحْسُنُ إضْمارُ كُلِّ واحِدٍ مِنها، ولَيْسَ إضْمارُ بَعْضِها أوْلى مِن إضْمارِ الباقِي فَظَهَرَ الفَرْقُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَقامُ الثّانِي في الكَلامِ عَلى هَذِهِ الآيَةِ: أنْ نَقُولَ: سَلَّمْنا أنَّ الهَمَّ قَدْ حَصَلَ إلّا أنّا نَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿وهَمَّ بِها﴾ لا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى ظاهِرِهِ لِأنَّ تَعْلِيقَ الهَمِّ بِذاتِ المَرْأةِ مُحالٌ؛ لِأنَّ الهَمَّ مِن جِنْسِ القَصْدِ، والقَصْدُ لا يَتَعَلَّقُ بِالذَّواتِ الباقِيَةِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ مِن إضْمارِ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ يَجْعَلُ مُتَعَلِّقَ ذَلِكَ الهَمِّ وذَلِكَ الفِعْلِ غَيْرَ مَذْكُورٍ، فَهم زَعَمُوا أنَّ ذَلِكَ المُضْمَرَ هو إيقاعُ الفاحِشَةِ بِها ونَحْنُ نُضْمِرُ شَيْئًا آخَرَ يُغايِرُ ما ذَكَرُوهُ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: المُرادُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ هَمَّ بِدَفْعِها عَنْ نَفْسِهِ ومَنعِها عَنْ ذَلِكَ القَبِيحِ لِأنَّ الهَمَّ هو القَصْدُ، فَوَجَبَ أنْ يُحْمَلَ في حَقِّ كُلِّ أحَدٍ عَلى القَصْدِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، فاللّائِقُ بِالمَرْأةِ القَصْدُ إلى تَحْصِيلِ اللَّذَّةِ والتَّنَعُّمِ والتَّمَتُّعِ، واللّائِقُ بِالرَّسُولِ المَبْعُوثِ إلى الخَلْقِ القَصْدُ إلى زَجْرِ العاصِي عَنْ مَعْصِيَتِهِ وإلى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، يُقالُ: هَمَمْتُ بِفُلانٍ أيْ بِضَرْبِهِ ودَفْعِهِ.
فَإنْ قالُوا: فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَبْقى لِقَوْلِهِ: ﴿لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ فائِدَةٌ ؟
قُلْنا: بَلْ فِيهِ أعْظَمُ الفَوائِدِ وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى أعْلَمَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ لَوْ هَمَّ بِدَفْعِها لَقَتَلَتْهُ أوْ لَكانَتْ تَأْمُرُ الحاضِرِينَ بِقَتْلِهِ، فَأعْلَمَهُ اللَّهُ تَعالى أنَّ الِامْتِناعَ مِن ضَرْبِها أوْلى صَوْنًا لِلنَّفْسِ عَنِ الهَلاكِ.
والثّانِي: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَوِ اشْتَغَلَ بِدَفْعِها عَنْ نَفْسِهِ فَرُبَّما تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَكانَ يَتَمَزَّقُ ثَوْبُهُ مِن قُدّامٍ، وكانَ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى أنَّ الشّاهِدَ يَشْهَدُ بِأنَّ ثَوْبَهُ لَوْ تَمَزَّقَ مِن قُدّامٍ لَكانَ يُوسُفُ هو الخائِنَ، ولَوْ كانَ ثَوْبُهُ مُمَزَّقًا مِن خَلْفٍ لَكانَتِ المَرْأةُ هي الخائِنَةُ، فاللَّهُ تَعالى أعْلَمَهُ بِهَذا المَعْنى، فَلا جَرَمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِدَفْعِها عَنْ نَفْسِهِ بَلْ ولّى هارِبًا عَنْها، حَتّى صارَتْ شَهادَةُ الشّاهِدِ حُجَّةً لَهُ عَلى بَراءَتِهِ عَنِ المَعْصِيَةِ.
الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: أنْ يُفَسَّرَ الهَمُّ بِالشَّهْوَةِ، وهَذا مُسْتَعْمَلٌ في اللُّغَةِ الشّائِعَةِ، يَقُولُ القائِلُ فِيما لا يَشْتَهِيهِ: ما يَهُمُّنِي هَذا، وفِيما يَشْتَهِيهِ: هَذا أهَمُّ الأشْياءِ إلَيَّ، فَسَمّى اللَّهُ تَعالى شَهْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ هَمًّا، فَمَعْنى الآيَةِ: ولَقَدِ اشْتَهَتْهُ واشْتَهاها لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لَدَخَلَ ذَلِكَ العَمَلُ في الوُجُودِ.
الثّالِثُ: أنْ يُفَسَّرَ الهَمُّ بِحَدِيثِ النَّفْسِ، وذَلِكَ لِأنَّ المَرْأةَ الفائِقَةَ في الحُسْنِ والجَمالِ إذا تَزَيَّنَتْ وتَهَيَّأتْ لِلرَّجُلِ الشّابِّ القَوِيِّ فَلا بُدَّ وأنْ يَقَعَ هُناكَ بَيْنَ الحِكْمَةِ والشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وبَيْنَ النَّفْسِ والعَقْلِ مُجاذَباتٌ ومُنازَعاتٌ، فَتارَةً تَقْوى داعِيَةُ الطَّبِيعَةِ والشَّهْوَةِ وتارَةً تَقْوى داعِيَةُ العَقْلِ والحِكْمَةِ. فالهَمُّ عِبارَةٌ عَنْ جَواذِبِ الطَّبِيعَةِ، ورُؤْيَةُ البُرْهانِ عِبارَةٌ عَنْ جَواذِبِ العُبُودِيَّةِ، ومِثالُ ذَلِكَ أنَّ الرَّجُلَ الصّالِحَ الصّائِمَ في الصَّيْفِ الصّائِفِ، إذا رَأى الجُلّابَ المُبَرَّدَ المُثَلَّجَ فَإنَّ طَبِيعَتَهُ تَحْمِلُهُ عَلى شُرْبِهِ، إلّا أنَّ دِينَهُ وهُداهُ يَمْنَعُهُ مِنهُ، فَهَذا لا يَدُلُّ عَلى حُصُولِ (p-٩٦)الذَّنْبِ، بَلْ كُلَّما كانَتْ هَذِهِ الحالَةُ أشَدَّ كانَتِ القُوَّةُ في القِيامِ بِلَوازِمِ العُبُودِيَّةِ أكْمَلَ، فَقَدْ ظَهَرَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعالى صِحَّةُ هَذا القَوْلِ الَّذِي ذَهَبْنا إلَيْهِ ولَمْ يَبْقَ في يَدِ الواحِدِيِّ إلّا مُجَرَّدُ التَّصَلُّفِ وتَعْدِيدِ أسْماءِ المُفَسِّرِينَ، ولَوْ كانَ قَدْ ذَكَرَ في تَقْرِيرِ ذَلِكَ القَوْلِ شُبْهَةً لَأجَبْنا عَنْها، إلّا أنَّهُ ما زادَ عَلى الرِّوايَةِ عَنْ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ.
واعْلَمْ أنَّ بَعْضَ الحَشْوِيَّةِ رَوى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«ما كَذَبَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ إلّا ثَلاثَ كِذْباتٍ» “ فَقُلْتُ: الأوْلى أنْ لا نَقْبَلَ مِثْلَ هَذِهِ الأخْبارِ، فَقالَ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِنْكارِ: فَإنْ لَمْ نَقْبَلْهُ لَزِمَنا تَكْذِيبُ الرُّواةِ، فَقُلْتُ لَهُ: يا مِسْكِينُ إنْ قَبِلْناهُ لَزِمَنا الحُكْمُ بِتَكْذِيبِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وإنْ رَدَدْناهُ لَزِمَنا الحُكْمُ بِتَكْذِيبِ الرُّواةِ، ولا شَكَّ أنَّ صَوْنَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ الكَذِبِ أوْلى مِن صَوْنِ طائِفَةٍ مِنَ المَجاهِيلِ عَنِ الكَذِبِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا الأصْلَ فَنَقُولُ لِلْواحِدِيِّ: ومَنِ الَّذِي يَضْمَنُ لَنا أنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا هَذا القَوْلَ عَنْ هَؤُلاءِ المُفَسِّرِينَ كانُوا صادِقِينَ أمْ كاذِبِينَ ؟ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ البُرْهانِ ما هو ؟ أمّا المُحَقِّقُونَ المُثْبِتُونَ لِلْعِصْمَةِ فَقَدْ فَسَّرُوا رُؤْيَةَ البُرْهانِ بِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ تَعالى في تَحْرِيمِ الزِّنا والعِلْمِ بِما عَلى الزّانِي مِنَ العِقابِ.
والثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى طَهَّرَ نُفُوسَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَنِ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ. بَلْ نَقُولُ: إنَّهُ تَعالى طَهَّرَ نُفُوسَ المُتَّصِلِينَ بِهِ عَنْها كَما قالَ: ﴿إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكم تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٣] فالمُرادُ بِرُؤْيَةِ البُرْهانِ هو حُصُولُ تِلْكَ الأخْلاقِ وتَذْكِيرُ الأحْوالِ الرّادِعَةِ لَهم عَنِ الإقْدامِ عَلى المُنْكَراتِ.
والثّالِثُ: أنَّهُ رَأى مَكْتُوبًا في سَقْفِ البَيْتِ ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٣٢] .
والرّابِعُ: أنَّهُ النُّبُوَّةُ المانِعَةُ مِنَ ارْتِكابِ الفَواحِشِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بُعِثُوا لِمَنعِ الخَلْقِ عَنِ القَبائِحِ والفَضائِحِ. فَلَوْ أنَّهم مَنَعُوا النّاسَ عَنْها، ثُمَّ أقْدَمُوا عَلى أقْبَحِ أنْواعِها وأفْحَشِ أقْسامِها لَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢، ٣] وأيْضًا أنَّ اللَّهَ تَعالى عَيَّرَ اليَهُودَ بِقَوْلِهِ: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] وما يَكُونُ عَيْبًا في حَقِّ اليَهُودِ كَيْفَ يُنْسَبُ إلى الرَّسُولِ المُؤَيَّدِ بِالمُعْجِزاتِ ؟ .
وأمّا الَّذِينَ نَسَبُوا المَعْصِيَةَ إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَدْ ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ ذَلِكَ البُرْهانِ أُمُورًا:
الأوَّلُ: قالُوا: إنَّ المَرْأةَ قامَتْ إلى صَنَمٍ مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ والياقُوتِ في زاوِيَةِ البَيْتِ فَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ فَقالَ يُوسُفُ: لِمَ فَعَلْتِ ذَلِكَ ؟ قالَتْ: أسْتَحِي مِن إلَهِي هَذا أنْ يَرانِي عَلى مَعْصِيَةٍ، فَقالَ يُوسُفُ: أتَسْتَحِينَ مِن صَنَمٍ لا يَعْقِلُ ولا يَسْمَعُ ولا أسْتَحِي مِن إلَهِي القائِمِ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، فَواللَّهِ لا أفْعَلُ ذَلِكَ أبَدًا ! قالُوا: فَهَذا هو البُرْهانُ.
الثّانِي: نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ما أنَّهُ تَمَثَّلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَرَآهُ عاضًّا عَلى أصابِعِهِ ويَقُولُ لَهُ: أتَعْمَلُ عَمَلَ الفُجّارِ وأنْتَ مَكْتُوبٌ في زُمْرَةِ الأنْبِياءِ ؟ فاسْتَحى مِنهُ. قالَ: وهو قَوْلُ عِكْرِمَةَ ومُجاهِدٍ والحَسَنِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقَتادَةَ والضَّحّاكِ ومُقاتِلٍ وابْنِ سِيرِينَ. قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تَمَثَّلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَضَرَبَ في صَدْرِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِن أنامِلِهِ.
والثّالِثُ: قالُوا إنَّهُ سَمِعَ في الهَواءِ قائِلًا يَقُولُ: يا ابْنَ يَعْقُوبَ لا تَكُنْ كالطَّيْرِ يَكُونُ لَهُ رِيشٌ فَإذا زَنا ذَهَبَ رِيشُهُ.
والرّابِعُ: نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ما أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَنْزَجِرْ بِرُؤْيَةِ صُورَةِ يَعْقُوبَ حَتّى رَكَضَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّهْوَةِ إلّا خَرَجَ.
ولَمّا نَقَلَ الواحِدِيُّ هَذِهِ الرِّواياتِ تَصَلَّفَ وقالَ: هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ قَوْلُ أئِمَّةِ التَّفْسِيرِ الَّذِينَ أخَذُوا التَّأْوِيلَ عَمَّنْ شاهَدَ (p-٩٧)التَّنْزِيلَ. فَيُقالُ لَهُ: إنَّكَ لا تَأْتِينا البَتَّةَ إلّا بِهَذِهِ التَّصَلُّفاتِ الَّتِي لا فائِدَةَ فِيها، فَأيْنَ هَذا مِنَ الحُجَّةِ والدَّلِيلِ، وأيْضًا فَإنَّ تَرادُفَ الدَّلائِلِ عَلى الشَّيْءِ الواحِدِ جائِزٌ، وأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ مُمْتَنِعًا عَنِ الزِّنا بِحَسَبِ الدَّلائِلِ الأصْلِيَّةِ، فَلَمّا انْضافَ إلَيْها هَذِهِ الزَّواجِرُ قَوِيَ الِانْزِجارُ وكَمُلَ الِاحْتِرازُ. والعَجَبُ أنَّهم نَقَلُوا أنَّ «جَرْوًا دَخَلَ حُجْرَةَ النَّبِيِّ ﷺ وبَقِيَ هُناكَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، قالُوا: فامْتَنَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا»، وهَهُنا زَعَمُوا أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ حالَ اشْتِغالِهِ بِالفاحِشَةِ ذَهَبَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، والعَجَبُ أنَّهم زَعَمُوا أنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ ذَلِكَ العَمَلِ بِسَبَبِ حُضُورِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَوْ أنَّ أفْسَقَ الخَلْقِ وأكْفَرَهم كانَ مُشْتَغِلًا بِفاحِشَةٍ فَإذا دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ عَلى زِيِّ الصّالِحِينَ اسْتَحْيا مِنهُ وفَرَّ وتَرَكَ ذَلِكَ العَمَلَ، وهَهُنا أنَّهُ رَأى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَضَّ عَلى أنامِلِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى جَلالَةِ قَدْرِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أيْضًا عَنْ ذَلِكَ القَبِيحِ بِسَبَبِ حُضُورِهِ حَتّى احْتاجَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى أنْ يَرْكُضَهُ عَلى ظَهْرِهِ. فَنَسْألُ اللَّهَ أنْ يَصُونَنا عَنِ الغَيِّ في الدِّينِ والخِذْلانِ في طَلَبِ اليَقِينِ، فَهَذا هو الكَلامُ المُخَلَّصُ في هَذِهِ المَسْألَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في الفَرْقِ بَيْنَ السُّوءِ والفَحْشاءِ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ السُّوءَ جِنايَةُ اليَدِ والفَحْشاءُ هو الزِّنا.
الثّانِي: السُّوءُ مُقَدِّماتُ الفاحِشَةِ مِنَ القُبْلَةِ والنَّظَرِ بِالشَّهْوَةِ، والفَحْشاءُ هو الزِّنا.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾ أيِ الَّذِينَ أخْلَصُوا دِينَهم لِلَّهِ تَعالى، ومَن فَتَحَ اللّامَ أرادَ الَّذِينَ خَلَّصَهُمُ اللَّهُ مِنَ الأسْواءِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿إنّا أخْلَصْناهم بِخالِصَةٍ﴾ [ص: ٤٦] .
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو ”المُخْلِصِينَ“ بِكَسْرِ اللّامِ في جَمِيعِ القُرْآنِ والباقُونَ بِفَتْحِ اللّامِ.
{"ayah":"وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَاۤ أَن رَّءَا بُرۡهَـٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَ ٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلۡفَحۡشَاۤءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق