الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وأجْمَعُوا أنْ يَجْعَلُوهُ في غَيابَةِ الجُبِّ وأوْحَيْنا إلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهم بِأمْرِهِمْ هَذا وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الإضْمارِ في هَذِهِ الآيَةِ في مَوْضِعَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ تَقْدِيرَ الآيَةِ قالُوا: ﴿لَئِنْ أكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ إنّا إذًا لَخاسِرُونَ﴾ فَأذِنَ لَهُ وأرْسَلَهُ مَعَهم، ثُمَّ يَتَّصِلُ بِهِ قَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ . والثّانِي: أنَّهُ لا بُدَّ لِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وأجْمَعُوا أنْ يَجْعَلُوهُ في غَيابَةِ الجُبِّ﴾ مِن جَوابٍ؛ إذْ جَوابُ لَمّا غَيْرُ مَذْكُورٍ وتَقْدِيرُهُ فَجَعَلُوهُ فِيها، وحَذْفُ الجَوابِ في القُرْآنِ كَثِيرٌ بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ المَذْكُورُ دَلِيلًا عَلَيْهِ وهَهُنا كَذَلِكَ. قالَ السُّدِّيُّ: إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا بَرَزَ مَعَ إخْوَتِهِ أظْهَرُوا لَهُ العَداوَةَ الشَّدِيدَةَ، وجَعَلَ هَذا الأخُ يَضْرِبُهُ فَيَسْتَغِيثُ بِالآخَرِ فَيَضْرِبُهُ ولا يَرى فِيهِمْ رَحِيمًا فَضَرَبُوهُ حَتّى كادُوا يَقْتُلُونَهُ وهو يَقُولُ: يا يَعْقُوبُ لَوْ تَعْلَمُ ما يُصْنَعُ بِابْنِكَ، فَقالَ يَهُودا: ألَيْسَ قَدْ أعْطَيْتُمُونِي مَوْثِقًا أنْ لا تَقْتُلُوهُ ؟ فانْطَلَقُوا بِهِ إلى الجُبِّ يُدْلُونَهُ فِيهِ وهو مُتَعَلِّقٌ بِشَفِيرِ البِئْرِ فَنَزَعُوا قَمِيصَهُ، وكانَ غَرَضُهم أنْ يُلَطِّخُوهُ بِالدَّمِ ويَعْرِضُوهُ عَلى يَعْقُوبَ، فَقالَ لَهم: رُدُّوا عَلَيَّ قَمِيصِي لِأتَوارى بِهِ، فَقالُوا: ادْعُ الشَّمْسَ والقَمَرَ والأحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا لِتُؤْنِسَكَ، ثُمَّ دَلُّوهُ في البِئْرِ حَتّى إذا بَلَغَ نِصْفَها ألْقَوْهُ لِيَمُوتَ، (p-٨٠)وكانَ في البِئْرِ ماءٌ فَسَقَطَ فِيهِ ثُمَّ آوى إلى صَخْرَةٍ فَقامَ بِها وهو يَبْكِي، فَنادَوْهُ فَظَنَّ أنَّ رَحْمَةً أدْرَكَتْهم فَأجابَهم فَأرادُوا أنْ يَرْضَخُوهُ بِصَخْرَةٍ فَقامَ يَهُودا فَمَنَعَهم وكانَ يَهُودا يَأْتِيهِ بِالطَّعامِ. ورُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أُلْقِيَ في الجُبِّ قالَ: يا شاهِدًا غَيْرَ غائِبٍ. ويا قَرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ. ويا غالِبًا غَيْرَ مَغْلُوبٍ. اجْعَلْ لِي مِن أمْرِي فَرَجًا ومَخْرَجًا، ورُوِيَ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أُلْقِيَ في النّارِ جُرِّدَ عَنْ ثِيابِهِ فَجاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَمِيصٍ مِن حَرِيرِ الجَنَّةِ وألْبَسَهُ إيّاهُ، فَدَفَعَهُ إبْراهِيمُ إلى إسْحاقَ، وإسْحاقُ إلى يَعْقُوبَ، فَجَعَلَهُ يَعْقُوبُ في تَمِيمَةٍ وعَلَّقَها في عُنُقِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَجاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأخْرَجَهُ وألْبَسَهُ إيّاهُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأوْحَيْنا إلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهم بِأمْرِهِمْ هَذا وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ: ﴿وأوْحَيْنا إلَيْهِ﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ مِنهُ الوَحْيُ والنُّبُوَّةُ والرِّسالَةُ، وهَذا قَوْلُ طائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ، ثُمَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ اخْتَلَفُوا في أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ هَلْ كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ بالِغًا أوْ كانَ صَبِيًّا، قالَ بَعْضُهم: إنَّهُ كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ بالِغًا وكانَ سِنُّهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وقالَ آخَرُونَ: إنَّهُ كانَ صَغِيرًا إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى أكْمَلَ عَقْلَهُ وجَعَلَهُ صالِحًا لِقَبُولِ الوَحْيِ والنُّبُوَّةِ كَما في حَقِّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. والقَوْلُ الثّانِي: إنَّ المُرادَ مِن هَذا الوَحْيِ الإلْهامُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأوْحَيْنا إلى أُمِّ مُوسى﴾ [القصص: ٧] وقَوْلِهِ: ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ﴾ [النحل: ٦٨] والأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّ الظّاهِرَ مِنَ الوَحْيِ ذَلِكَ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجْعَلُهُ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ ولَيْسَ هُناكَ أحَدٌ يُبَلِّغُهُ الرِّسالَةَ ؟ قُلْنا: لا يَمْتَنِعُ أنْ يُشَرِّفَهُ بِالوَحْيِ والتَّنْزِيلِ ويَأْمُرَهُ بِتَبْلِيغِ الرِّسالَةِ بَعْدَ أوْقاتٍ، ويَكُونُ فائِدَةُ تَقْدِيمِ الوَحْيِ تَأْنِيسَهُ وتَسْكِينَ نَفْسِهِ وإزالَةَ الغَمِّ والوَحْشَةِ عَنْ قَلْبِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: المُرادُ أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلى يُوسُفَ إنَّكَ لَتُخْبِرَنَّ إخْوَتَكَ بِصَنِيعِهِمْ بَعْدَ هَذا اليَوْمِ وهم لا يَشْعُرُونَ في ذَلِكَ الوَقْتِ أنَّكَ يُوسُفُ، والمَقْصُودُ تَقْوِيَةُ قَلْبِهِ بِأنَّهُ سَيَحْصُلُ لَهُ الخَلاصُ عَنْ هَذِهِ المِحْنَةِ، ويَصِيرُ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِمْ ويَصِيرُونَ تَحْتَ قَهْرِهِ وقُدْرَتِهِ. ورُوِيَ أنَّهم حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ لِطَلَبِ الحِنْطَةِ وعَرَفَهم وهم لَهُ مُنْكِرُونَ دَعا بِالصُّواعِ فَوَضَعَهُ عَلى يَدِهِ، ثُمَّ نَقَرَهُ فَطَنَّ، فَقالَ: إنَّهُ لَيُخْبِرُ هَذا الجامُ أنَّهُ كانَ لَكم أخٌ مِن أبِيكم يُقالُ لَهُ يُوسُفُ فَطَرَحْتُمُوهُ في البِئْرِ وقُلْتُمْ لِأبِيكم أكَلَهُ الذِّئْبُ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ إنّا أوْحَيْنا إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ في البِئْرِ بِأنَّكَ تُنْبِئُ إخْوَتَكَ بِهَذِهِ الأعْمالِ، وهم ما كانُوا يَشْعُرُونَ بِنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ، والفائِدَةُ في إخْفاءِ نُزُولِ ذَلِكَ الوَحْيِ عَنْهم أنَّهم لَوْ عَرَفُوهُ فَرُبَّما ازْدادَ حَسَدُهم فَكانُوا يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إذا حَمَلْنا قَوْلَهُ: ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ، كانَ هَذا أمْرًا مِنَ اللَّهِ تَعالى نَحْوَ يُوسُفَ في أنْ يَسْتُرَ نَفْسَهُ عَنْ أبِيهِ وأنْ لا يُخْبِرَهُ بِأحْوالِ نَفْسِهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ كَتَمَ أخْبارَ نَفْسِهِ عَنْ أبِيهِ طُولَ تِلْكَ المُدَّةِ، مَعَ عِلْمِهِ بِوَجْدِ أبِيهِ بِهِ خَوْفًا مِن مُخالَفَةِ أمْرِ اللَّهِ تَعالى، وصَبَرَ عَلى تَجَرُّعِ تِلْكَ المَرارَةِ، فَكانَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قَدْ قَضى عَلى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يُوَصِّلَ إلَيْهِ تِلْكَ الغُمُومَ الشَّدِيدَةَ والهُمُومَ العَظِيمَةَ لِيَكْثُرَ رُجُوعُهُ إلى اللَّهِ تَعالى، ويَنْقَطِعَ تَعَلُّقُ فِكْرِهِ عَنِ الدُّنْيا فَيَصِلُ إلى دَرَجَةٍ عالِيَةٍ في العُبُودِيَّةِ لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إلَيْها إلّا بِتَحَمُّلِ المِحَنِ الشَّدِيدَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب