الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أنَّهم قَدْ كُذِبُوا جاءَهم نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ قَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (كُذِبُوا) بِالتَّخْفِيفِ، وكَسْرِ الذّالِ، والباقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، ومَعْنى التَّخْفِيفِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الظَّنَّ واقِعٌ بِالقَوْمِ، أيْ حَتّى إذا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ مِن إيمانِ القَوْمِ فَظَنَّ القَوْمُ أنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوا فِيما وعَدُوا مِنَ النَّصْرِ والظَّفَرِ. فَإنْ قِيلَ: لَمْ يَجْرِ فِيما سَبَقَ ذِكْرُ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ عَوْدُ هَذا الضَّمِيرِ إلَيْهِمْ ؟ قُلْنا: ذِكْرُ الرُّسُلِ يَدُلُّ عَلى المُرْسَلِ إلَيْهِمْ، وإنْ شِئْتَ قُلْتَ إنَّ ذِكْرَهم جَرى في قَوْلِهِ: ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ (يُوسُفَ: ١٠٩) فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عائِدًا إلى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِن مُكَذِّبِي الرُّسُلِ، والظَّنُّ هَهُنا بِمَعْنى التَّوَهُّمِ والحُسْبانِ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّ الرُّسُلَ ظَنُّوا أنَّهم قَدْ كُذِبُوا فِيما وُعِدُوا وهَذا التَّأْوِيلُ مَنقُولٌ عَنِ ابْنِ (p-١٨١)أبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، قالُوا: وإنَّما كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لِأجْلِ ضَعْفِ البَشَرِيَّةِ إلّا أنَّهُ بَعِيدٌ؛ لِأنَّ المُؤْمِنَ لا يَجُوزُ أنْ يَظُنَّ بِاللَّهِ الكَذِبَ، بَلْ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ الإيمانِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِثْلُهُ عَلى الرُّسُلِ ؟ وأمّا قِراءَةُ التَّشْدِيدِ فَفِيها وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ الظَّنَّ بِمَعْنى اليَقِينِ، أيْ وأيْقَنُوا أنَّ الأُمَمَ كَذَّبُوهم تَكْذِيبًا لا يَصْدُرُ مِنهُمُ الإيمانُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ دَعَوْا عَلَيْهِمْ، فَهُنالِكَ أنْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ عَذابَ الِاسْتِئْصالِ. ووُرُودُ الظَّنِّ بِمَعْنى العِلْمِ كَثِيرٌ في القُرْآنِ، قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ (البَقَرَةِ: ٤٦) أيْ يَتَيَقَّنُونَ ذَلِكَ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ الظَّنُّ بِمَعْنى الحُسْبانِ، والتَّقْدِيرُ: حَتّى إذا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ مِن إيمانِ قَوْمِهِمْ، فَظَنَّ الرُّسُلُ أنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ كَذَّبُوهم وهَذا التَّأْوِيلُ مَنقُولٌ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وهو أحْسَنُ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ. رُوِيَ أنَّ ابْنَ أبِي مُلَيْكَةَ نَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: وظَنَّ الرُّسُلُ أنَّهم كُذِبُوا؛ لِأنَّهم كانُوا بَشَرًا، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ﴾ (البَقَرَةِ: ٢١٤) ؟ قالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فَأنْكَرَتْهُ، وقالَتْ: ما وعَدَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -ﷺ- شَيْئًا إلّا وقَدْ عَلِمَ أنَّهُ سَيُوَفِّيهِ، ولَكِنَّ البَلاءَ لَمْ يَزَلْ بِالأنْبِياءِ حَتّى خافُوا مِن أنْ يُكَذِّبَهُمُ الَّذِينَ كانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِمْ وهَذا الرَّدُّ والتَّأْوِيلُ في غايَةِ الحُسْنِ مِن عائِشَةَ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿جاءَهم نَصْرُنا﴾ أيْ لَمّا بَلَغَ الحالُ إلى الحَدِّ المَذْكُورِ ﴿جاءَهم نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ﴾ قَرَأ عاصِمٌ وابْنُ عامِرٍ: (فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ) بِنُونٍ واحِدَةٍ وتَشْدِيدِ الجِيمِ وفَتْحِ الياءِ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، واخْتارَهُ أبُو عُبَيْدَةَ؛ لِأنَّهُ في المُصْحَفِ بِنُونٍ واحِدَةٍ. ورُوِيَ عَنِ الكِسائِيِّ إدْغامُ إحْدى النُّونَيْنِ في الأُخْرى، وقَرَأ بِنُونٍ واحِدَةٍ وتَشْدِيدِ الجِيمِ وسُكُونِ الياءِ، قالَ بَعْضُهم: هَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّ النُّونَ مُتَحَرِّكَةٌ فَلا تُدْغَمُ في السّاكِنِ، ولا يَجُوزُ إدْغامُ النُّونِ في الجِيمِ، والباقُونَ بِنُونَيْنِ وتَخْفِيفِ الجِيمِ وسُكُونِ الياءِ عَلى مَعْنى: ونَحْنُ نَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ. واعْلَمْ أنَّ هَذا حِكايَةُ حالٍ، ألا تَرى أنَّ القِصَّةَ فِيما مَضى وإنَّما حَكى فِعْلَ الحالِ كَما أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن شِيعَتِهِ وهَذا مِن عَدُوِّهِ﴾ (القَصَصِ: ١٥) إشارَةٌ إلى الحاضِرِ والقِصَّةُ ماضِيَةٌ ؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب