الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أوِ اطْرَحُوهُ أرْضًا يَخْلُ لَكم وجْهُ أبِيكم وتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صالِحِينَ﴾ ﴿قالَ قائِلٌ مِنهم لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وألْقُوهُ في غَيابَةِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾
واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا قَوِيَ الحَسَدُ وبَلَغَ النِّهايَةَ قالُوا لا بُدَّ مِن تَبْعِيدِ يُوسُفَ عَنْ أبِيهِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا بِأحَدِ طَرِيقَيْنِ: القَتْلِ أوِ التَّغْرِيبِ إلى أرْضٍ يَحْصُلُ اليَأْسُ مِنِ اجْتِماعِهِ مَعَ أبِيهِ، ولا وجْهَ في الشَّرِّ يَبْلُغُهُ الحاسِدُ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرُوا العِلَّةَ فِيهِ وهي قَوْلُهم: ﴿يَخْلُ لَكم وجْهُ أبِيكُمْ﴾ والمَعْنى أنَّ يُوسُفَ شَغَلَهُ عَنّا وصَرَفَ وجْهَهُ إلَيْهِ فَإذا أُفْقِدَهُ أقْبَلَ عَلَيْنا بِالمَيْلِ والمَحَبَّةِ ﴿وتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صالِحِينَ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهم عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ الَّذِي عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الكَبائِرِ فَقالُوا: إذا فَعَلْنا ذَلِكَ تُبْنا إلى اللَّهِ ونَصِيرُ مِنَ القَوْمِ الصّالِحِينَ.
والثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ هَهُنا صَلاحَ الدِّينِ بَلِ المَعْنى يَصْلُحُ شَأْنُكم عِنْدَ أبِيكم ويَصِيرُ أبُوكم مُحِبًّا لَكم مُشْتَغِلًا بِشَأْنِكم.
الثّالِثُ: المُرادُ أنَّكم بِسَبَبِ هَذِهِ الوَحْشَةِ صِرْتُمْ مُشَوَّشِينَ لا تَتَفَرَّغُونَ لِإصْلاحِ مُهِمَّةٍ، فَإذا زالَتْ هَذِهِ الوَحْشَةُ تَفَرَّغْتُمْ لِإصْلاحِ مُهِمّاتِكم. واخْتَلَفُوا في أنَّ هَذا القائِلَ الَّذِي أمَرَ بِالقَتْلِ مَن كانَ، عَلى قَوْلَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ بَعْضَ إخْوَتِهِ قالَ هَذا.
والثّانِي: أنَّهم شاوَرُوا أجْنَبِيًّا فَأشارَ عَلَيْهِمْ بِقَتْلِهِ، ولَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أحَدٌ مِن إخْوَتِهِ.
فَأمّا مَن قالَ بِالأوَّلِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَقالَ وهْبٌ: إنَّهُ شَمْعُونُ، وقالَ مُقاتِلٌ: رُوبِيلُ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ هَذا بِهِمْ وهم أنْبِياءُ ؟
قُلْنا: مِنَ النّاسِ مَن أجابَ عَنْهُ بِأنَّهم كانُوا في هَذا الوَقْتِ مُراهِقِينَ وما كانُوا بالِغِينَ. وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ يَبْعُدُ مِن مِثْلِ نَبِيِّ اللَّهِ تَعالى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَبْعَثَ جَماعَةً مِنَ الصِّبْيانِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ مَعَهم إنْسانٌ عاقِلٌ يَمْنَعُهم مِنَ القَبائِحِ. وأيْضًا أنَّهم قالُوا: ﴿وتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صالِحِينَ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم قَبْلَ التَّوْبَةِ لا يَكُونُونَ صالِحِينَ، وذَلِكَ يُنافِي كَوْنَهم مِنَ الصِّبْيانِ. ومِنهم مَن أجابَ بِأنَّ هَذا مِن بابِ الصَّغائِرِ، وهَذا أيْضًا بَعِيدٌ لِأنَّ إيذاءَ الأبِ الَّذِي هو نَبِيٌّ مَعْصُومٌ، والكَذِبَ عَلَيْهِ، والسَّعْيَ في إهْلاكِ الأخِ الصَّغِيرِ، كُلُّ واحِدٍ مِن ذَلِكَ مِن أُمَّهاتِ الكَبائِرِ، بَلِ الجَوابُ الصَّحِيحُ أنْ يُقالَ: إنَّهم ما كانُوا أنْبِياءَ، وإنْ كانُوا أنْبِياءَ إلّا أنَّ هَذِهِ الواقِعَةَ إنَّما أقْدَمُوا عَلَيْها قَبْلَ النُّبُوَّةِ.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى أنَّ قائِلًا قالَ: ﴿لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ قِيلَ إنَّهُ كانَ رُوبِيلَ وكانَ ابْنَ خالَةِ يُوسُفَ وكانَ أحْسَنَهم رَأْيًا فِيهِ، فَمَنَعَهم عَنِ القَتْلِ، وقِيلَ يَهُودا، وكانَ أقْدَمَهم في الرَّأْيِ والفَضْلِ والسِّنِّ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وألْقُوهُ في غَيابَةِ الجُبِّ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ ”في غَياباتِ الجُبِّ“ عَلى الجَمْعِ في الحَرْفَيْنِ، هَذا والَّذِي بَعْدَهُ، والباقُونَ ”غَيابَةِ“ عَلى الواحِدِ في الحَرْفَيْنِ. أمّا وجْهُ الغَياباتِ فَهو أنَّ لِلْجُبِّ أقْطارًا ونَواحِيَ، فَيَكُونُ فِيها غَياباتٌ، ومَن وحَّدَ قالَ: المَقْصُودُ مَوْضِعٌ واحِدٌ مِنَ الجُبِّ يَغِيبُ فِيهِ يُوسُفُ، فالتَّوْحِيدُ أخَصُّ وأدَلُّ عَلى المَعْنى (p-٧٧)المَطْلُوبِ. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ ”في غَيْبَةِ الجُبِّ“ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: الغَيابَةُ كُلُّ ما غَيَّبَ شَيْئًا وسَتَرَهُ، فَغَيابَةُ الجُبِّ غَوْرُهُ، وما غابَ مِنهُ عَنْ عَيْنِ النّاظِرِ وأظْلَمَ مِن أسْفَلِهِ. والجُبُّ البِئْرُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَطْوِيَّةٍ، سُمِّيَتْ جُبًّا لِأنَّها قَطَعَتْ قَطْعًا ولَمْ يَحْصُلْ فِيها غَيْرُ القَطْعِ مِن طَيٍّ أوْ ما أشْبَهَ ذَلِكَ، وإنَّما ذُكِرَتِ الغَيابَةُ مَعَ الجُبِّ دَلالَةً عَلى أنَّ المُشِيرَ أشارَ بِطَرْحِهِ في مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ مِنَ الجُبِّ لا يَلْحَقُهُ نَظَرُ النّاظِرِينَ، فَأفادَ ذِكْرُ الغَيابَةِ هَذا المَعْنى؛ إذْ كانَ يُحْتَمَلُ أنْ يُلْقى في مَوْضِعٍ مِنَ الجُبِّ لا يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاظِرِينَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الألِفُ واللّامُ في الجُبِّ تَقْتَضِي المَعْهُودَ السّابِقَ، اخْتَلَفُوا في ذَلِكَ الجُبِّ فَقالَ قَتادَةُ: هو بِئْرٌ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، وقالَ وهْبٌ: هو بِأرْضِ الأُرْدُنِّ، وقالَ مُقاتِلٌ: هو عَلى ثَلاثَةِ فَراسِخَ مِن مَنزِلِ يَعْقُوبَ، وإنَّما عَيَّنُوا ذَلِكَ الجُبَّ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرُوها وهي قَوْلُهم: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ تِلْكَ البِئْرَ كانَتْ مَعْرُوفَةً وكانُوا يَرِدُونَ عَلَيْها كَثِيرًا، وكانَ يَعْلَمُ أنَّهُ إذا طُرِحَ فِيها يَكُونُ إلى السَّلامَةِ أقْرَبَ، لِأنَّ السَّيّارَةَ إذا جازُوا ورَدُوها، وإذا ورَدُوها شاهَدُوا ذَلِكَ الإنْسانَ فِيها، وإذا شاهَدُوهُ أخْرَجُوهُ وذَهَبُوا بِهِ فَكانَ إلْقاؤُهُ فِيها أبْعَدَ عَنِ الهَلاكِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الِالتِقاطُ تَناوُلُ الشَّيْءِ مِنَ الطَّرِيقِ، ومِنهُ: اللُّقَطَةُ واللَّقِيطُ، وقَرَأ الحَسَنُ ”تَلْتَقِطْهُ“ بِالتّاءِ عَلى المَعْنى، لِأنَّ بَعْضَ السَّيّارَةِ أيْضًا سَيّارَةٌ، والسَّيّارَةُ الجَماعَةُ الَّذِينَ يَسِيرُونَ في الطَّرِيقِ لِلسَّفَرِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ المارَّةَ.
وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ الأوْلى أنْ لا تَفْعَلُوا شَيْئًا مِن ذَلِكَ، وأمّا إنْ كانَ ولا بُدَّ فاقْتَصِرُوا عَلى هَذا القَدْرِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ يَعْنِي الأوْلى أنْ لا تَفْعَلُوا ذَلِكَ.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["ٱقۡتُلُوا۟ یُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضࣰا یَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِیكُمۡ وَتَكُونُوا۟ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمࣰا صَـٰلِحِینَ","قَالَ قَاۤىِٕلࣱ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُوا۟ یُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِی غَیَـٰبَتِ ٱلۡجُبِّ یَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّیَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَـٰعِلِینَ"],"ayah":"قَالَ قَاۤىِٕلࣱ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُوا۟ یُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِی غَیَـٰبَتِ ٱلۡجُبِّ یَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّیَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَـٰعِلِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق