الباحث القرآني
قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ فِيهِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: الكَلامُ العَرَبِيُّ الفَصِيحُ أنْ يُؤَخَّرَ الظَّرْفُ الَّذِي هو لَغْوٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ولا يُقَدَّمَ، وقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلى ذَلِكَ في كِتابِهِ، فَما بالُهُ ورَدَ مُقَدَّمًا في أفْصَحِ الكَلامِ ؟ والجَوابُ: هَذا الكَلامُ إنَّما سِيقَ لِنَفْيِ المُكافَأةِ عَنْ ذاتِ اللَّهِ، واللَّفْظُ الدّالُّ عَلى هَذا المَعْنى هو هَذا الظَّرْفُ، وتَقْدِيمُ الأهَمِّ أوْلى، فَلِهَذا السَّبَبِ كانَ هَذا الظَّرْفُ مُسْتَحِقًّا لِلتَّقْدِيمِ.
السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ القِراءَةُ في هَذِهِ الآيَةِ ؟
الجَوابُ: قُرِئَ: (كُفُوًا) بِضَمِّ الكافِ والفاءِ وبِضَمِّ الكافِ وكَسْرِها مَعَ سُكُونِ الفاءِ، والأصْلُ هو الضَّمُّ ثُمَّ يُخَفَّفُ مِثْلُ طُنُبٍ وطُنْبٍ وعُنُقٍ وعُنْقٍ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُقالُ كُفُوٌ وكُفْءٌ وكِفاءٌ كُلُّهُ بِمَعْنى واحِدٍ وهو المِثْلُ، ولِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أقاوِيلُ:
أحَدُها: قالَ كَعْبٌ وعَطاءٌ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ ولا عَدِيلٌ، ومِنهُ المُكافَأةُ في الجَزاءِ لِأنَّهُ يُعْطِيهِ ما يُساوِي ما أعْطاهُ.
وثانِيها: قالَ مُجاهِدٌ: لَمْ يَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ كَأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قالَ: لَمْ يَكُنْ أحَدٌ كُفُؤًا لَهُ فَيُصاهِرَهُ، رَدًّا عَلى مَن حَكى اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَهُ: ﴿وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: ١٥٨] فَتَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ كالتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ .
وثالِثُها: وهو التَّحْقِيقُ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ هو المَصْمُودُ إلَيْهِ في قَضاءِ الحَوائِجِ ونَفْيِ الوَسائِطِ مِنَ البَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ عَلى ما بَيَّنّاهُ، فَحِينَئِذٍ خَتَمَ السُّورَةَ بِأنَّ شَيْئًا مِنَ المَوْجُوداتِ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مُساوِيًا لَهُ في شَيْءٍ مِن صِفاتِ الجَلالِ والعَظَمَةِ، أمّا الوُجُودُ فَلا مُساواةَ فِيهِ لِأنَّ وجُودَهُ مِن مُقْتَضَياتِ حَقِيقَتِهِ فَإنَّ حَقِيقَتَهُ غَيْرُ قابِلَةٍ لِلْعَدَمِ مِن حَيْثُ هي هي، وأمّا سائِرُ الحَقائِقِ، فَإنَّها قابِلَةٌ لِلْعَدَمِ، وأمّا العِلْمُ فَلا مُساواةَ فِيهِ؛ لِأنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ ولا بِاسْتِدْلالِيٍّ ولا مُسْتَفادٍ مِنَ الحِسِّ ولا مِنَ الرُّؤْيَةِ ولا يَكُونُ في مَعْرِضِ الغَلَطِ والزَّلَلِ وعُلُومُ المُحْدَثاتِ كَذَلِكَ، وأمّا القُدْرَةُ فَلا مُساواةَ فِيها وكَذا الرَّحْمَةُ والجُودُ والعَدْلُ والفَضْلُ وْالإحْسانُ، واعْلَمْ أنَّ (p-١٧٠)هَذِهِ السُّورَةَ أرْبَعُ آياتٍ، وفي تَرْتِيبِها أنْواعٌ مِنَ الفَوائِدِ:
الفائِدَةُ الأُولى: أنَّ أوَّلَ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ واحِدٌ، والصَّمَدُ عَلى أنَّهُ كَرِيمٌ رَحِيمٌ؛ لِأنَّهُ لا يُصْمَدُ إلَيْهِ حَتّى يَكُونَ مُحْسِنًا و﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ عَلى أنَّهُ غَنِيٌّ عَلى الإطْلاقِ ومُنَزَّهٌ عَنِ التَّغَيُّراتِ فَلا يَبْخَلُ بِشَيْءٍ أصْلًا، ولا يَكُونُ جُودُهُ لِأجْلِ جَرِّ نَفْعٍ أوْ دَفْعِ ضُرٍّ، بَلْ بِمَحْضِ الإحْسانِ، وقَوْلُهُ: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ إشارَةٌ إلى نَفْيِ ما لا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفاتِ.
الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: نَفى اللَّهُ تَعالى عَنْ ذاتِهِ أنْواعَ الكَثْرَةِ بِقَوْلِهِ: (أحَدٌ) ونَفى النَّقْصَ والمَغْلُوبِيَّةَ بِلَفْظِ الصَّمَدِ، ونَفى المَعْلُولِيَّةَ والعِلِّيَّةَ بِ ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾، ونَفى الأضْدادَ والأنْدادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ .
الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (أحَدٌ) يُبْطِلُ مَذْهَبَ الثَّنَوِيَّةِ القائِلِينَ بِالنُّورِ والظُّلْمَةِ، والنَّصارى في التَّثْلِيثِ، والصّابِئِينَ في الأفْلاكِ والنُّجُومِ، والآيَةُ الثّانِيَةُ تُبْطِلُ مَذْهَبَ مَن أثْبَتَ خالِقًا سِوى اللَّهِ؛ لِأنَّهُ لَوْ وُجِدَ خالِقٌ آخَرُ لَما كانَ الحَقُّ مَصْمُودًا إلَيْهِ في طَلَبِ جَمِيعِ الحاجاتِ، والثّالِثَةُ تُبْطِلُ مَذْهَبَ اليَهُودِ في عُزَيْرٍ، والنَّصارى في المَسِيحِ، والمُشْرِكِينَ في أنَّ المَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ، والآيَةُ الرّابِعَةُ تُبْطِلُ مَذْهَبَ المُشْرِكِينَ حَيْثُ جَعَلُوا الأصْنامَ أكْفاءً لَهُ وشُرَكاءً.
الفائِدَةُ الرّابِعَةُ: أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ في حَقِّ اللَّهِ مِثْلُ سُورَةِ الكَوْثَرِ في حَقِّ الرَّسُولِ، لَكِنَّ الطَّعْنَ في حَقِّ الرَّسُولِ كانَ بِسَبَبِ أنَّهم قالُوا: إنَّهُ أبْتَرُ لا ولَدَ لَهُ، وهَهُنا الطَّعْنُ بِسَبَبِ أنَّهم أثْبَتُوا لِلَّهِ ولَدًا، وذَلِكَ لِأنَّ عَدَمَ الوَلَدِ في حَقِّ الإنْسانِ عَيْبٌ، ووُجُودَ الوَلَدِ عَيْبٌ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ هَهُنا: (قُلْ) حَتّى تَكُونَ ذابّا عَنِّي، وفي سُورَةِ: ﴿إنّا أعْطَيْناكَ﴾ أنا أقُولُ ذَلِكَ الكَلامَ حَتّى أكُونَ أنا ذابّا عَنْكَ، واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
* * *
(p-١٧١)(مُقَدِّمَةٌ) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَبْلَ الخَوْضِ في التَّفْسِيرِ لا بُدَّ مِن تَقْدِيمِ فَصْلَيْنِ:
الفَصْلُ الأوَّلُ: سَمِعْتُ بَعْضَ العارِفِينَ فَسَّرَ هاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ عَلى وجْهٍ عَجِيبٍ، فَقالَ: إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا شَرَحَ أمْرَ الإلَهِيَّةِ في سُورَةِ الإخْلاصِ ذَكَرَ هَذِهِ السُّورَةَ عَقِيبَها في شَرْحِ مَراتِبِ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ فَقالَ أوَّلًا: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ ظُلُماتِ العَدَمِ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، والحَقُّ سُبْحانَهُ هو الَّذِي فَلَقَ تِلْكَ الظُّلُماتِ بِنُورِ التَّكْوِينِ والإيجادِ والإبْداعِ، فَلِهَذا قالَ: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿مِن شَرِّ ما خَلَقَ﴾ والوَجْهُ فِيهِ أنَّ عالَمَ المُمْكِناتِ عَلى قِسْمَيْنِ؛ عالَمُ الأمْرِ وعالَمُ الخَلْقِ عَلى ما قالَ: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤] .
وعالَمُ الأمْرِ كُلُّهُ خَيْراتٌ مَحْضَةٌ بَرِيئَةٌ عَنِ الشُّرُورِ والآفاتِ، أمّا عالَمُ الخَلْقِ وهو عالَمُ الأجْسامِ والجُسْمانِيّاتِ، فالشَّرُّ لا يَحْصُلُ إلّا فِيهِ، وإنَّما سُمِّيَ عالَمُ الأجْسامِ والجُسْمانِيّاتِ بِعالَمِ الخَلْقِ، لِأنَّ الخَلْقَ هو التَّقْدِيرُ، والمِقْدارُ مِن لَواحِقِ الجِسْمِ، فَلَمّا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، لا جَرَمَ قالَ: أعُوذُ بِالرَّبِّ الَّذِي فَلَقَ ظُلُماتِ بَحْرِ العَدَمِ بِنُورِ الإيجادِ والإبْداعِ مِنَ الشُّرُورِ الواقِعَةِ في عالَمِ الخَلْقِ وهو عالَمُ الأجْسامِ والجُسْمانِيّاتِ، ثُمَّ مِنَ الظّاهِرِ أنَّ الأجْسامَ، إمّا أثَرِيَّةٌ أوْ عُنْصُرِيَّةٌ والأجْسامُ الأثَرِيَّةٌ خَيْراتٌ؛ لِأنَّها بَرِيئَةٌ عَنِ الِاخْتِلالِ والفُطُورِ، عَلى ما قالَ: ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾ [الملك: ٣] وأمّا العُنْصُرِيّاتُ فَهي إمّا جَمادٌ أوْ نَباتٌ أوْ حَيَوانٌ، أمّا الجَماداتُ فَهي خالِيَةٌ عَنْ جَمِيعِ القُوى النَّفْسانِيَّةِ، فالظُّلْمَةُ فِيها خالِصَةٌ والأنْوارُ عَنْها بِالكُلِّيَّةِ زائِلَةٌ، وهي المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ومِن شَرِّ غاسِقٍ إذا وقَبَ﴾ وأمّا النَّباتُ فالقُوَّةُ العادِيَّةُ النَّباتِيَّةُ هي الَّتِي تَزِيدُ في الطُّولِ والعَرْضِ والعُمْقِ مَعًا، فَهَذِهِ النَّباتِيَّةُ كَأنَّها تَنْفُثُ في العُقَدِ الثَّلاثَةِ، وأمّا الحَيَوانُ فالقُوى الحَيَوانِيَّةُ هي الحَواسُّ الظّاهِرَةُ والحَواسُّ الباطِنِيَّةُ والشَّهْوَةُ والغَضَبُ وكُلُّها تَمْنَعُ الرُّوحَ الإنْسانِيَّةَ عَنِ الِانْصِبابِ إلى عالَمِ الغَيْبِ، والِاشْتِغالِ بِقُدْسِ جَلالِ اللَّهِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ومِن شَرِّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ﴾ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ السُّفْلِيّاتِ بَعْدَ هَذِهِ المَرْتَبَةِ سِوى النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ، وهي المُسْتَعِيذَةُ، فَلا تَكُونُ مُسْتَعاذًا مِنها، فَلا جَرَمَ قَطَعَ هَذِهِ السُّورَةَ وذَكَرَ بَعْدَها في سُورَةِ النّاسِ مَراتِبَ دَرَجاتِ النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ في التَّرَقِّي، وذَلِكَ لِأنَّها بِأصْلِ فِطْرَتِها مُسْتَعِدَّةٌ لِأنْ تَنْتَقِشَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى ومَحَبَّتِهِ إلّا أنَّها تَكُونُ أوَّلَ الأمْرِ خالِيَةً عَنْ هَذِهِ المَعارِفِ بِالكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ مِنَ المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ يَحْصُلُ فِيها عُلُومٌ أوَّلِيَّةٌ بَدِيهِيَّةٌ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِها إلى اسْتِعْلامِ المَجْهُولاتِ الفِكْرِيَّةِ، ثُمَّ في آخِرِ تِلْكَ المَجْهُولاتِ الفِكْرِيَّةِ مِنَ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾ [الناس: ١] إشارَةٌ إلى المَرْتَبَةِ الأُولى مِن مَراتِبِ النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ وهي حالُ كَوْنِها خالِيَةً مِن جَمِيعِ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ والكَسْبِيَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ النَّفْسَ في تِلْكَ المَرْتَبَةِ تَحْتاجُ إلى مُرَبٍّ يُرَبِّيها ويُزَيِّنُها بِتِلْكَ المَعارِفِ البَدِيهِيَّةِ، ثُمَّ في المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ وهي عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ يَحْصُلُ لَها مَلَكَةٌ مِنَ الِانْتِقالِ مِنها إلى اسْتِعْلامِ العُلُومِ الفِكْرِيَّةِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿مَلِكِ النّاسِ﴾ [الناس: ٢] ثُمَّ في المَرْتَبَةِ الثّالِثَةِ وهي عِنْدَ خُرُوجِ تِلْكَ العُلُومِ الفِكْرِيَّةِ مِنَ القَوْلِ إلى الفِعْلِ يَحْصُلُ الكَمالُ (p-١٧٢)التّامُّ لِلنَّفْسِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إلَهِ النّاسِ﴾ [الناس: ٣] فَكَأنَّ الحَقَّ يُسَمِّي نَفْسَهُ بِحَسَبِ كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِن مَراتِبِ النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ بِما يَلِيقُ بِتِلْكَ المَرْتَبَةِ، ثُمَّ قالَ: ﴿مِن شَرِّ الوَسْواسِ الخَنّاسِ﴾ [الناس: ٤] والمُرادُ مِنهُ القُوَّةُ الوَهْمِيَّةُ، والسَّبَبُ في إطْلاقِ اسْمِ الخَنّاسِ عَلى الوَهْمِ أنَّ العَقْلَ والوَهْمَ، قَدْ يَتَساعَدانِ عَلى تَسْلِيمِ بَعْضِ المُقَدِّماتِ، ثُمَّ إذا آلَ الأمْرُ إلى النَّتِيجَةِ فالعَقْلُ يُساعِدُ عَلى النَّتِيجَةِ والوَهْمُ يَخْنَسُ، ويَرْجِعُ ويَمْتَنِعُ عَنْ تَسْلِيمِ النَّتِيجَةِ، فَلِهَذا السَّبَبِ يُسَمّى الوَهْمُ: بِالخَنّاسِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ ضَرَرَ هَذا الخَنّاسِ عَظِيمٌ عَلى العَقْلِ، وأنَّهُ قَلَّما يَنْفَكُّ أحَدٌ عَنْهُ فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ في هَذِهِ السُّورَةِ مَراتِبَ الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ ونَبَّهَ عَلى عَدُوِّها ونَبَّهَ عَلى ما بِهِ يَقَعُ الِامْتِيازُ بَيْنَ العَقْلِ وبَيْنَ الوَهْمِ، وهُناكَ آخِرُ دَرَجاتِ مَراتِبِ النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ، فَلا جَرَمَ وقَعَ خَتْمُ الكِتابِ الكَرِيمِ والفُرْقانِ العَظِيمِ عَلَيْهِ.
الفَصْلُ الثّانِي: ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وُجُوهًا:
أحَدُها: «رُوِيَ أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أتاهُ وقالَ: إنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ يَكِيدُكَ، فَقالَ إذا أوَيْتَ إلى فِراشِكَ قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ السُّورَتَيْنِ» . .
وثانِيها: أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَهُما عَلَيْهِ لِيَكُونا رُقْيَةً مِنَ العَيْنِ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ أنَّ قُرَيْشًا قالُوا: تَعالَوْا نَتَجَوَّعُ فَنَعِينُ مُحَمَّدًا فَفَعَلُوا، ثُمَّ أتَوْهُ وقالُوا ما أشَدَّ عَضُدَكَ، وأقْوى ظَهْرَكَ وأنْضَرَ وجْهَكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى المُعَوِّذَتَيْنِ.
وثالِثُها: وهو قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، «أنَّ لَبِيدَ بْنَ أعْصَمَ اليَهُودِيَّ سَحَرَ النَّبِيَّ ﷺ في إحْدى عَشْرَةَ عُقْدَةً وفي وتَرٍ دَسَّهُ في بِئْرٍ يُقالُ لَها ذِرْوانُ فَمَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، واشْتَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ثَلاثَ لَيالٍ فَنَزَلَتِ المُعَوِّذَتانِ لِذَلِكَ، وأخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِمَوْضِعِ السِّحْرِ فَأرْسَلَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ وطَلْحَةَ وجاءا بِهِ، وقالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ حِلَّ عُقْدَةً، واقْرَأْ آيَةً فَفَعَلَ وكانَ كُلَّما قَرَأ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَكانَ يَجِدُ بَعْضَ الخِفَّةِ والرّاحَةِ» .
واعْلَمْ أنَّ المُعْتَزِلَةَ أنْكَرُوا ذَلِكَ بِأسْرِهِمْ، قالَ القاضِي: هَذِهِ الرِّوايَةُ باطِلَةٌ، وكَيْفَ يُمْكِنُ القَوْلُ بِصِحَّتِها، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ ؟ [المائدة: ٦٧] وقالَ: ﴿ولا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أتى﴾ [طه: ٦٩] ولِأنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إلى القَدْحِ في النُّبُوَّةِ؛ لِأنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكانَ مِنَ الواجِبِ أنْ يَصِلُوا إلى الضَّرَرِ لِجَمِيعِ الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ، ولَقَدَرُوا عَلى تَحْصِيلِ المُلْكِ العَظِيمِ لِأنْفُسِهِمْ، وكُلُّ ذَلِكَ باطِلٌ، ولِأنَّ الكُفّارَ كانُوا يُعَيِّرُونَهُ بِأنَّهُ مَسْحُورٌ، فَلَوْ وقَعَتْ هَذِهِ الواقِعَةُ لَكانَ الكُفّارُ صادِقِينَ في تِلْكَ الدَّعْوَةِ، ولَحَصَلَ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ العَيْبُ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ. قالَ الأصْحابُ: هَذِهِ القِصَّةُ قَدْ صَحَّتْ عِنْدَ جُمْهُورِ أهْلِ النَّقْلِ، والوُجُوهُ المَذْكُورَةُ قَدْ سَبَقَ الكَلامُ عَلَيْها في سُورَةِ البَقَرَةِ أمّا قَوْلُهُ: الكُفّارُ كانُوا يَعِيبُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنَّهُ مَسْحُورٌ، فَلَوْ وقَعَ ذَلِكَ لَكانَ الكُفّارُ صادِقِينَ في ذَلِكَ القَوْلِ.
فَجَوابُهُ: أنَّ الكُفّارَ كانُوا يُرِيدُونَ بِكَوْنِهِ مَسْحُورًا أنَّهُ مَجْنُونٌ أُزِيلَ عَقْلُهُ بِواسِطَةِ السِّحْرِ، فَلِذَلِكَ تَرَكَ دِينَهم، فَأمّا أنْ يَكُونَ مَسْحُورًا بِألَمٍ يَجِدُهُ في بَدَنِهِ فَذَلِكَ مِمّا لا يُنْكِرُهُ أحَدٌ، وبِالجُمْلَةِ فاللَّهُ تَعالى ما كانَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِ لا شَيْطانًا ولا إنْسِيًّا ولا جِنِّيًّا يُؤْذِيهِ في دِينِهِ وشَرْعِهِ ونَبُوَّتِهِ، فَأمّا في الإضْرارِ بِبَدَنِهِ فَلا يَبْعُدُ، وتَمامُ الكَلامِ في هَذِهِ المَسْألَةِ قَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ ولْنَرْجِعْ إلى التَّفْسِيرِ.
{"ayah":"وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق