الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ: (الصَّمَدُ) وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ فَعَلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ مِن صَمَدَ إلَيْهِ إذا قَصَدَهُ، وهو السَّيِّدُ المَصْمُودُ إلَيْهِ في الحَوائِجِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ألا بَكَّرَ النّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أسَدٍ بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وبِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ وقالَ أيْضًا: ؎عَلَوْتُهُ بِحُسامِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ∗∗∗ خُذْها حُذَيْفُ فَأنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّفْسِيرِ ما «رَوى ابْنُ عَبّاسٍ: أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالُوا: ما الصَّمَدُ ؟ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ هو السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ في الحَوائِجِ» وقالَ اللَّيْثُ: صَمَدْتُ صَمَدَ هَذا الأمْرِ أيْ قَصَدْتُ قَصْدَهُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الصَّمَدَ هو الَّذِي لا جَوْفَ لَهُ، ومِنهُ يُقالُ: لِسِدادِ القارُورَةِ الصِّمادُ، وشَيْءٌ مُصْمَدٌ أيْ صُلْبٌ لَيْسَ فِيهِ رَخاوَةٌ، وقالَ قَتادَةُ: وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ: الدّالُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنَ التّاءِ وهو المُصْمَتُ، وقالَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ مِن أهْلِ اللُّغَةِ: الصَّمَدُ هو الأمْلَسُ مِنَ الحَجَرِ الَّذِي لا يَقْبَلُ الغُبارَ ولا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ ولا يَخْرُجُ مِنهُ شَيْءٌ، واعْلَمْ أنَّهُ قَدِ اسْتَدَلَّ قَوْمٌ مِن جُهّالِ المُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ في أنَّهُ تَعالى جِسْمٌ، وهَذا باطِلٌ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ كَوْنَهُ أحَدًا يُنافِي [ كَوْنَهُ ] جِسْمًا فَمُقَدِّمَةُ هَذا الآيَةِ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الصَّمَدِ هَذا المَعْنى، ولِأنَّ الصَّمَدَ بِهَذا التَّفْسِيرِ صِفَةُ الأجْسامِ المُتَضاغِطَةِ وتَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإذَنْ يَجِبُ أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى مَجازِهِ، وذَلِكَ لِأنَّ الجِسْمَ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ يَكُونُ عَدِيمَ الِانْفِعالِ والتَّأثُّرِ عَنِ الغَيْرِ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ واجِبًا لِذاتِهِ مُمْتَنِعَ التَّغَيُّرِ في وُجُودِهِ وبَقائِهِ وجَمِيعِ صِفاتِهِ، فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِالبَحْثِ اللُّغَوِيِّ في هَذِهِ الآيَةِ. وأمّا المُفَسِّرُونَ فَقَدْ نُقِلَ عَنْهم وُجُوهٌ، بَعْضُها يَلِيقُ بِالوَجْهِ الأوَّلِ وهو كَوْنُهُ تَعالى سَيِّدًا مَرْجُوعًا إلَيْهِ في دَفْعِ الحاجاتِ، وهو إشارَةٌ إلى الصِّفاتِ الإضافِيَّةِ، وبَعْضُها بِالوَجْهِ الثّانِي وهو كَوْنُهُ تَعالى واجِبَ الوُجُودِ في ذاتِهِ وفي صِفاتِهِ مُمْتَنِعَ التَّغَيُّرِ فِيهِما وهو إشارَةٌ إلى الصِّفاتِ السَّلْبِيَّةِ، وتارَةً يُفَسِّرُونَ الصَّمَدَ بِما يَكُونُ جامِعًا لِلْوَجْهَيْنِ. أمّا النَّوْعُ الأوَّلُ: فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: الصَّمَدُ هو العالِمُ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ لِأنَّ كَوْنَهُ سَيِّدًا مَرْجُوعًا إلَيْهِ في قَضاءِ الحاجاتِ لا يَتِمُّ إلّا بِذَلِكَ. الثّانِي: الصَّمَدُ هو الحَلِيمُ لِأنَّ كَوْنَهُ سَيِّدًا يَقْتَضِي الحِلْمَ والكَرَمَ. الثّالِثُ: وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ والضَّحّاكِ: الصَّمَدُ هو السَّيِّدُ الَّذِي قَدِ انْتَهى سُؤْدُدُهُ. الرّابِعُ: قالَ الأصَمُّ: الصَّمَدُ هو الخالِقُ لِلْأشْياءِ، وذَلِكَ لِأنَّ كَوْنَهُ سَيِّدًا يَقْتَضِي ذَلِكَ. الخامِسُ: قالَ السُّدِّيُّ: الصَّمَدُ هو المَقْصُودُ في الرَّغائِبِ، المُسْتَغاثُ بِهِ عِنْدَ المَصائِبِ. السّادِسُ: قالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ البَجَلِيُّ: الصَّمَدُ هو الَّذِي يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ، لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، ولا رادَّ لِقَضائِهِ. السّابِعُ: أنَّهُ السَّيِّدُ المُعَظَّمُ. الثّامِنُ: أنَّهُ (p-١٦٧)الفَرْدُ الماجِدُ لا يُقْضى في أمْرٍ دُونَهُ. وأمّا النَّوْعُ الثّانِي: وهو الإشارَةُ إلى الصِّفاتِ السَّلْبِيَّةِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: الصَّمَدُ هو الغَنِيُّ عَلى ما قالَ: ﴿هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ [الحديد: ٢٤] . الثّانِي: الصَّمَدُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أحَدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨] ولا يَخافُ مَن فَوْقَهُ، ولا يَرْجُو مَن دُونَهُ تُرْفَعُ الحَوائِجُ إلَيْهِ. الثّالِثُ: قالَ قَتادَةُ: لا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ: ﴿وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] . الرّابِعُ: قالَ قَتادَةُ: الباقِي بَعْدَ فَناءِ خَلْقِهِ: ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦] . الخامِسُ: قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: الَّذِي لَمْ يَزَلْ ولا يَزالُ، ولا يَجُوزُ عَلَيْهِ الزَّوالُ كانَ ولا مَكانَ، ولا أيْنَ ولا أوانَ، ولا عَرْشَ ولا كُرْسِيَّ، ولا جِنِّيَّ ولا إنْسِيَّ وهو الآنَ كَما كانَ. السّادِسُ: قالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: الَّذِي لا يَمُوتُ ولا يُورَثُ ولَهُ مِيراثُ السَّماواتِ والأرْضِ. السّابِعُ: قالَ يَمانٌ وأبُو مالِكٍ: الَّذِي لا يَنامُ ولا يَسْهُو. الثّامِنُ: قالَ ابْنُ كَيْسانَ: هو الَّذِي لا يُوصَفُ بِصِفَةِ أحَدٍ. التّاسِعُ: قالَ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ: هو الَّذِي لا عَيْبَ فِيهِ. العاشِرُ: قالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: هو الَّذِي لا تَعْتَرِيهِ الآفاتُ. الحادِيَ عَشَرَ: قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّهُ الكامِلُ في جَمِيعِ صِفاتِهِ، وفي جَمِيعِ أفْعالِهِ. الثّانِيَ عَشَرَ: قالَ جَعْفَرٌ الصّادِقُ: إنَّهُ الَّذِي يَغْلِبُ ولا يُغْلَبُ. الثّالِثَ عَشَرَ: قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: إنَّهُ المُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ أحَدٍ. الرّابِعَ عَشَرَ: قالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: إنَّهُ الَّذِي أيِسَ الخَلائِقُ مِنَ الِاطِّلاعِ عَلى كَيْفِيَّتِهِ. الخامِسَ عَشَرَ: هو الَّذِي لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ. السّادِسَ عَشَرَ: قالَ أبُو العالِيَةِ ومُحَمَّدٌ القُرَظِيُّ: هو الَّذِي لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ إلّا سَيُورَثُ، ولا شَيْءٌ يُولَدُ إلّا وسَيَمُوتُ. السّابِعَ عَشَرَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّهُ الكَبِيرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أحَدٌ. الثّامِنَ عَشَرَ: أنَّهُ المُنَزَّهُ عَنْ قَبُولِ النُّقْصاناتِ والزِّياداتِ، وعَنْ أنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلتَّغَيُّراتِ والتَّبَدُّلاتِ، وعَنْ إحاطَةِ الأزْمِنَةِ والأمْكِنَةِ والآناتِ والجِهاتِ. وأمّا الوَجْهُ الثّالِثُ: وهو أنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الصَّمَدِ عَلى الكُلِّ وهو مُحْتَمَلٌ؛ لِأنَّهُ بِحَسَبِ دَلالَتِهِ عَلى الوُجُوبِ الذّاتِيِّ يَدُلُّ عَلى جَمِيعِ السُّلُوبِ، وبِحَسَبِ دَلالَتِهِ عَلى كَوْنِهِ مَبْدَأً لِلْكُلِّ يَدُلُّ عَلى جَمِيعِ النُّعُوتِ الإلَهِيَّةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ يَقْتَضِي أنْ لا يَكُونَ في الوُجُودِ صَمَدٌ سِوى اللَّهِ، وإذا كانَ الصَّمَدُ مُفَسَّرًا بِالمَصْمُودِ إلَيْهِ في الحَوائِجِ، أوْ بِما لا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ في ذاتِهِ لَزِمَ أنْ لا يَكُونَ في الوُجُودِ مَوْجُودٌ هَكَذا سِوى اللَّهِ تَعالى. فَهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا إلَهَ سِوى الواحِدِ، فَقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ أحَدٌ﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ واحِدًا، بِمَعْنى أنَّهُ لَيْسَ في ذاتِهِ تَرْكِيبٌ ولا تَأْلِيفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ واحِدًا، بِمَعْنى نَفْيِ الشُّرَكاءِ والأنْدادِ والأضْدادِ. وبَقِيَ في الآيَةِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ جاءَ أحَدٌ مُنَكَّرًا، وجاءَ الصَّمَدُ مُعَرَّفًا ؟ الجَوابُ: الغالِبُ عَلى أكْثَرِ أوْهامِ الخَلْقِ أنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مَحْسُوسٌ، وثَبَتَ أنَّ كُلَّ مَحْسُوسٍ فَهو مُنْقَسِمٌ، فَإذًا ما لا يَكُونُ مُنْقَسِمًا لا يَكُونُ خاطِرًا بِبالِ أكْثَرِ الخَلْقِ، وأمّا الصَّمَدُ فَهو الَّذِي يَكُونُ مَصْمُودًا إلَيْهِ في الحَوائِجِ، وهَذا كانَ مَعْلُومًا لِلْعَرَبِ بَلْ لِأكْثَرِ الخَلْقِ عَلى ما قالَ: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧] وإذا كانَتِ الأحَدِيَّةُ مَجْهُولَةً مُسْتَنْكَرَةً عِنْدَ أكْثَرِ الخَلْقِ، وكانَتِ الصَّمَدِيَّةُ مَعْلُومَةَ الثُّبُوتِ عِنْدَ جُمْهُورِ الخَلْقِ، لا جَرَمَ جاءَ لَفْظُ أحَدٍ عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ ولَفْظُ الصَّمَدِ عَلى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ. (p-١٦٨) السُّؤالُ الثّانِي: ما الفائِدَةُ في تَكْرِيرِ لَفْظَةِ اللَّهِ في قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ أحَدٌ﴾ ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ ؟ . الجَوابُ: لَوْ لَمْ تُكَرَّرْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَوَجَبَ في لَفْظِ (أحَدٌ وصَمَدٌ) أنْ يَرِدا إمّا نَكِرَتَيْنِ أوْ مَعْرِفَتَيْنِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ، فَلا جَرَمَ كُرِّرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ حَتّى يُذْكَرَ لَفْظُ أحَدٍ مُنَكَّرًا ولَفْظُ الصَّمَدِ مُعَرَّفًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب