الباحث القرآني

(p-١٥٢)(سُورَةُ المَسَدِ) . خَمْسُ آياتٍ، مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] ثُمَّ بَيَّنَ في سُورَةِ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] أنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أطاعَ رَبَّهُ وصَرَّحَ بِنَفْيِ عِبادَةِ الشُّرَكاءِ والأضْدادِ وأنَّ الكافِرَ عَصى رَبَّهُ واشْتَغَلَ بِعِبادَةِ الأضْدادِ والأنْدادِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إلَهَنا ما ثَوابُ المُطِيعِ، وما عِقابُ العاصِي ؟ فَقالَ: ثَوابُ المُطِيعِ حُصُولُ النَّصْرِ والفَتْحِ والِاسْتِيلاءِ في الدُّنْيا والثَّوابُ الجَزِيلِ في العُقْبى، كَما دَلَّ عَلَيْهِ سُورَةُ: ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ وأمّا عِقابُ العاصِي فَهو الخَسارُ في الدُّنْيا والعِقابُ العَظِيمُ في العُقْبى، كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةُ: (تَبَّتْ) ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ سُورَةِ الأنْعامِ: ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَكم خَلائِفَ الأرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ﴾ [الأنعام: ١٦٥] فَكَأنَّهُ قِيلَ: إلَهَنا أنْتَ الجَوادُ المُنَزَّهُ عَنِ البُخْلِ والقادِرُ المُنَزَّهُ عَنِ العَجْزِ، فَما السَّبَبُ في هَذا التَّفاوُتِ ؟ فَقالَ: ﴿لِيَبْلُوَكم في ما آتاكُمْ﴾ [الأنعام: ١٦٥] فَكَأنَّهُ قِيلَ: إلَهَنا فَإذا كانَ العَبْدُ مُذْنِبًا عاصِيًا فَكَيْفَ حالُهُ ؟ فَقالَ في الجَوابِ: ﴿إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقابِ﴾ [الأنعام: ١٦٥] وإنْ كانَ مُطِيعًا مُنْقادًا كانَ جَزاؤُهُ أنَّ الرَّبَّ تَعالى يَكُونُ غَفُورًا لِسَيِّئاتِهِ في الدُّنْيا رَحِيمًا كَرِيمًا في الآخِرَةِ. وذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وُجُوهًا: أحَدُها: «قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ يَكْتُمُ أمْرَهُ في أوَّلِ المَبْعَثِ ويُصَلِّي في شِعابِ مَكَّةَ ثَلاثَ سِنِينَ إلى أنْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٤] فَصَعِدَ الصَّفا ونادى يا آلَ غالِبٍ فَخَرَجَتْ إلَيْهِ غالِبٌ مِنَ المَسْجِدِ فَقالَ أبُو لَهَبٍ: هَذِهِ غالِبٌ قَدْ أتَتْكَ فَما عِنْدَكَ ؟ ثُمَّ نادى يا آلَ لُؤَيٍّ فَرَجَعَ مَن لَمْ يَكُنْ مِن لُؤَيٍّ فَقالَ أبُو لَهَبٍ: هَذِهِ لُؤَيٌّ قَدْ أتَتْكَ فَما عِنْدَكَ ؟ ثُمَّ قالَ يا آلَ مُرَّةَ فَرَجَعَ مَن لَمْ يَكُنْ مِن مُرَّةَ، فَقالَ أبُو لَهَبٍ: هَذِهِ مُرَّةُ قَدْ أتَتْكَ فَما عِنْدَكَ ؟ ثُمَّ قالَ يا آلَ كِلابٍ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: يا آلَ قُصَيٍّ، فَقالَ أبُو لَهَبٍ: هَذِهِ قُصَيٌّ قَدْ أتَتْكَ فَما عِنْدَكَ ؟ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَنِي أنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الأقْرَبِينَ وأنْتُمُ الأقْرَبُونَ، اعْلَمُوا أنِّي لا أمْلِكُ لَكم مِنَ الدُّنْيا حَظًّا ولا مِنَ الآخِرَةِ نَصِيبًا إلّا أنْ تَقُولُوا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَأشْهَدُ بِها لَكم عِنْدَ رَبِّكم، فَقالَ أبُو لَهَبٍ عِنْدَ ذَلِكَ: تَبًّا لَكَ ألِهَذا دَعَوْتَنا ؟ فَنَزَلَتِ السُّورَةُ» . وثانِيها: «رُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَعِدَ الصَّفا ذاتَ يَوْمٍ وقالَ: يا صَباحاهُ فاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقالُوا: ما لَكَ ؟ قالَ: أرَأيْتُمْ إنْ أخْبَرْتُكم أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكم أوْ مُمَسِّيكم أما كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي ؟ قالُوا: بَلى قالَ: فَإنِّي نَذِيرٌ لَكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ (p-١٥٣)شَدِيدٍ، فَقالَ عِنْدَ ذَلِكَ أبُو لَهَبٍ ما قالَ فَنَزَلَتِ السُّورَةُ» . وثالِثُها: «أنَّهُ جَمَعَ أعْمامَهُ وقَدَّمَ إلَيْهِمْ طَعامًا في صَحْفَةٍ فاسْتَحْقَرُوهُ وقالُوا: إنَّ أحَدَنا يَأْكُلُ كُلَّ الشّاةِ، فَقالَ: كُلُوا فَأكَلُوا حَتّى شَبِعُوا ولَمْ يَنْقُصْ مِنَ الطَّعامِ إلّا اليَسِيرُ، ثُمَّ قالُوا: فَما عِنْدَكَ ؟ فَدَعاهم إلى الإسْلامِ فَقالَ أبُو لَهَبٍ ما قالَ»، ورُوِيَ أنَّهُ «قالَ أبُو لَهَبٍ: فَما لِي إنْ أسْلَمْتُ ؟ فَقالَ: ما لِلْمُسْلِمِينَ، فَقالَ: أفَلا أُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ ؟ فَقالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: بِماذا تُفَضَّلُ ؟ فَقالَ: تَبًّا لِهَذا الدِّينِ يَسْتَوِي فِيهِ أنا وغَيْرِي» . ورابِعُها: كانَ إذا وفَدَ عَلى النَّبِيِّ وفْدٌ سَألُوا عَمَّهُ عَنْهُ وقالُوا: أنْتَ أعْلَمُ بِهِ فَيَقُولُ لَهم: إنَّهُ ساحِرٌ فَيَرْجِعُونَ عَنْهُ ولا يَلْقَوْنَهُ، فَأتاهُ وفْدٌ فَقالَ لَهم مِثْلَ ذَلِكَ فَقالُوا: لا نَنْصَرِفُ حَتّى نَراهُ، فَقالَ: إنّا لَمْ نَزَلْ نُعالِجُهُ مِنَ الجُنُونِ فَتَبًّا لَهُ وتَعْسًا، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ فَحَزِنَ، ونَزَلَتِ السُّورَةُ. * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: (تَبَّتْ) فِيهِ أقاوِيلُ: أحَدُها: التَّبابُ الهَلاكُ، ومِنهُ قَوْلُهم شابَّةٌ أمْ تابَّةٌ أيْ هالِكَةٌ مِنَ الهَرَمِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلّا في تَبابٍ﴾ [غافر: ٣٧] أيْ في هَلاكٍ، والَّذِي يُقَرِّرُ ذَلِكَ أنَّ الأعْرابِيَّ لَمّا واقَعَ أهْلَهُ في نَهارِ رَمَضانَ قالَ: هَلَكْتُ وأهْلَكْتُ، ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما أنْكَرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ كانَ صادِقًا في ذَلِكَ، ولا شَكَّ أنَّ العَمَلَ إمّا أنْ يَكُونَ داخِلًا في الإيمانِ، أوْ إنْ كانَ داخِلًا لَكِنَّهُ أضْعَفُ أجْزائِهِ، فَإذا كانَ بِتَرْكِ العَمَلِ حَصَلَ الهَلاكُ، فَفي حَقِّ أبِي لَهَبٍ حَصَلَ تَرْكُ الِاعْتِقادِ والقَوْلِ والعَمَلِ، وحَصَلَ وُجُودُ الِاعْتِقادِ الباطِلِ، والقَوْلِ الباطِلِ، والعَمَلِ الباطِلِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أنْ لا يَحْصُلَ مَعْنى الهَلاكِ، فَلِهَذا قالَ: (تَبَّتْ) . وثانِيها: تَبَّتْ خَسِرَتْ، والتَّبابُ هو الخُسْرانُ المُفْضِي إلى الهَلاكِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما زادُوهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ أيْ: تَخْسِيرٍ، بِدَلِيلِ أنَّهُ قالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: غَيْرَ تَخْسِيرٍ. وثالِثُها: تَبَّتْ خابَتْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لِأنَّهُ كانَ يَدْفَعُ القَوْمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إنَّهُ ساحِرٌ، فَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ قَبْلَ لِقائِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ شَيْخَ القَبِيلَةِ وكانَ لَهُ كالأبِ فَكانَ لا يُتَّهَمُ، فَلَمّا نَزَلَتِ السُّورَةُ وسَمِعَ بِها غَضِبَ وأظْهَرَ العَداوَةَ الشَّدِيدَةَ فَصارَ مُتَّهَمًا فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ في الرَّسُولِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَأنَّهُ خابَ سَعْيُهُ وبَطَلَ غَرَضُهُ، ولَعَلَّهُ إنَّما ذَكَرَ اليَدَ؛ لِأنَّهُ كانَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلى كَتِفِ الوافِدِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: انْصَرِفْ راشِدًا فَإنَّهُ مَجْنُونٌ، فَإنَّ المُعْتادَ أنَّ مَن يَصْرِفُ إنْسانًا عَنْ مَوْضِعٍ وضَعَ يَدَهُ عَلى كَتِفِهِ ودَفَعَهُ عَنْ ذَلِكَ المَوْضِعِ. ورابِعُها: عَنْ عَطاءٍ: تَبَّتْ أيْ: غَلَبَتْ لِأنَّهُ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّ يَدَهُ هي العُلْيا وأنَّهُ يُخْرِجُهُ مِن مَكَّةَ ويُذِلُّهُ ويَغْلِبُ عَلَيْهِ. وخامِسُها: عَنِ ابْنِ وثّابٍ؛ صَفِرَتْ يَداهُ عَلى كُلِّ خَيْرٍ، وإنْ قِيلَ: ما فائِدَةُ ذِكْرِ اليَدِ ؟ قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: ما يُرْوى أنَّهُ أخَذَ حَجَرًا لِيَرْمِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ، رُوِيَ عَنْ طارِقٍ المُحارِبِيِّ أنَّهُ قالَ: «رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في السُّوقِ يَقُولُ: يا أيُّها النّاسُ قُولُوا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ تُفْلِحُوا، ورَجُلٌ خَلْفَهُ يَرْمِيهِ بِالحِجارَةِ وقَدْ أدْمى عَقِبَيْهِ، [ وهو يَقُولُ ] لا تُطِيعُوهُ فَإنَّهُ كَذّابٌ، فَقُلْتُ: مَن هَذا ؟ فَقالُوا: مُحَمَّدٌ وعَمُّهُ أبُو لَهَبٍ» . وثانِيها: المُرادُ مِنَ اليَدَيْنِ الجُمْلَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ﴾ [الحج: ١٠] ومِنهُ قَوْلُهم: يَداكَ أوْكَتا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا﴾ [يس: ٧١] وهَذا التَّأْوِيلُ مُتَأكَّدٌ بِقَوْلِهِ: (وتَبَّ) . وثالِثُها: تَبَّتْ يَداهُ أيْ دِينُهُ ودُنْياهُ أُولاهُ وعُقْباهُ، أوْ لِأنَّ بِإحْدى اليَدَيْنِ تُجَرُّ المَنفَعَةُ، وبِالأُخْرى تُدْفَعُ المَضَرَّةُ، أوْ لِأنَّ اليُمْنى سِلاحٌ والأُخْرى جُنَّةٌ. ورابِعُها: رُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا دَعاهُ نَهارًا فَأتى، فَلَمّا جَنَّ اللَّيْلُ ذَهَبَ إلى دارِهِ مَسْتَنًّا بِسُنَّةِ نُوحٍ لِيَدْعُوَهُ لَيْلًا كَما دَعاهُ نَهارًا، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قالَ لَهُ: جِئْتَنِي مُعْتَذِرًا فَجَلَسَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ (p-١٥٤)السَّلامُ أمامَهُ كالمُحْتاجِ، وجَعَلَ يَدْعُوهُ إلى الإسْلامِ وقالَ: إنْ كانَ يَمْنَعُكَ العارُ، فَأجِبْنِي في هَذا الوَقْتِ واسْكُتْ، فَقالَ: لا أُومِنُ بِكَ حَتّى يُؤْمِنَ بِكَ هَذا الجَدْيُ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلْجَدْيِ: مَن أنا ؟ فَقالَ: رَسُولُ اللَّهِ وأطْلَقَ لِسانَهُ يُثْنِي عَلَيْهِ، فاسْتَوْلى الحَسَدُ عَلى أبِي لَهَبٍ، فَأخَذَ يَدَيِ الجَدْيِ ومَزَّقَهُ وقالَ: تَبًّا لَكَ أثَّرَ فِيكَ السِّحْرُ، فَقالَ الجَدْيُ: بَلْ تَبًّا لَكَ، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ عَلى وفْقِ ذَلِكَ: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ لِتَمْزِيقِهِ يَدَيِ الجَدْيِ» . وخامِسُها: قالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: يُرْوى أنَّ أبا لَهَبٍ كانَ يَقُولُ: يَعِدُنِي مُحَمَّدٌ أشْياءَ لا أرى أنَّها كائِنَةٌ يَزْعُمُ أنَّها بَعْدَ المَوْتِ، فَلَمْ يَضَعْ في يَدِي مِن ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ يَنْفُخُ في يَدَيْهِ ويَقُولُ: تَبًّا لَكُما ما أرى فِيكُما شَيْئًا، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ. (وتَبَّ) أمّا قَوْلُهُ تَعالى: (وتَبَّ) فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهُ أخْرَجَ الأوَّلَ مَخْرَجَ الدُّعاءِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧] والثّانِيَ مَخْرَجَ الخَبَرِ أيْ كانَ ذَلِكَ وحَصَلَ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ (وقَدْ تَبَّ) . وثانِيها: كُلُّ واحِدٍ مِنهُما إخْبارٌ ولَكِنْ أرادَ بِالأوَّلِ هَلاكَ عَمَلِهِ، وبِالثّانِي هَلاكَ نَفْسِهِ، ووَجْهُهُ أنَّ المَرْءَ إنَّما يَسْعى لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وعَمَلِهِ، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ مَحْرُومٌ مِنَ الأمْرَيْنِ. وثالِثُها: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ يَعْنِي مالَهُ ومِنهُ يُقالُ: ذاتُ اليَدِ (وتَبَّ) هو بِنَفْسِهِ كَما يُقالُ: ﴿خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ﴾ [الشورى: ٤٥] وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ. ورابِعُها: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ يَعْنِي نَفْسَهُ: (وتَبَّ) يَعْنِي ولَدَهُ عُتْبَةَ عَلى ما رُوِيَ «أنَّ عُتْبَةَ بْنَ أبِي لَهَبٍ خَرَجَ إلى الشَّأْمِ مَعَ أُناسٍ مِن قُرَيْشٍ فَلَمّا هَمُّوا أنْ يَرْجِعُوا قالَ لَهم عُتْبَةُ: بَلِّغُوا مُحَمَّدًا عَنِّي أنِّي قَدْ كَفَرْتُ بِالنَّجْمِ إذا هَوى»، ورُوِيَ «أنَّهُ قالَ ذَلِكَ في وجْهِ رَسُولِ اللَّهِ وتَفَلَ في وجْهِهِ، وكانَ مُبالِغًا في عَداوَتِهِ، فَقالَ: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِن كِلابِكَ فَوَقَعَ الرُّعْبُ في قَلْبِ عُتْبَةَ وكانَ يَحْتَرِزُ فَسارَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيالِي فَلَمّا كانَ قَرِيبًا مِنَ الصُّبْحِ، فَقالَ لَهُ أصْحابُهُ: هَلَكَتِ الرِّكابُ فَما زالُوا بِهِ حَتّى نَزَلَ وهو مَرْعُوبٌ وأناخَ الإبِلَ حَوْلَهُ كالسُّرادِقِ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ الأسَدَ وألْقى السَّكِينَةَ عَلى الإبِلِ فَجَعَلَ الأسَدُ يَتَخَلَّلُ حَتّى افْتَرَسَهُ ومَزَّقَهُ»، فَإنْ قِيلَ: نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ كانَ قَبْلَ هَذِهِ الوَقْعَةِ، وقَوْلُهُ: (وتَبَّ) إخْبارٌ عَنِ الماضِي، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ ؟ قُلْنا: لِأنَّهُ كانَ في مَعْلُومِهِ تَعالى أنَّهُ يَحْصُلُ ذَلِكَ. وخامِسُها: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ رَبِّهِ (وتَبَّ) حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ رَسُولِهِ. وفِي الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لِماذا كَنّاهُ مَعَ أنَّهُ كالكَذِبِ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ اسْمُهُ لَهَبٌ، وأيْضًا فالتَّكْنِيَةُ مِن بابِ التَّعْظِيمِ ؟ والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ التَّكْنِيَةَ قَدْ تَكُونُ اسْمًا، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ: (تَبَّتْ يَدا أبُو لَهَبٍ) كَما يُقالُ: عَلِيُّ بْنُ أبُو طالِبٍ، ومُعاوِيَةُ بْنُ أبُو سُفْيانَ، فَإنَّ هَؤُلاءِ أسْماؤُهم كُناهم. وأمّا مَعْنى التَّعْظِيمِ فَأُجِيبَ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ لَمّا كانَ اسْمًا خَرَجَ عَنْ إفادَةِ التَّعْظِيمِ. والثّانِي: أنَّهُ كانَ اسْمُهُ عَبْدَ العُزّى فَعَدَلَ عَنْهُ إلى كُنْيَتِهِ. والثّالِثُ: أنَّهُ لَمّا كانَ مِن أهْلِ النّارِ ومَآلُهُ إلى نارٍ ذاتِ لَهَبٍ وافَقَتْ حالُهُ كُنْيَتَهُ، فَكانَ جَدِيرًا بِأنْ يُذْكَرَ بِها، ويُقالَ أبُو لَهَبٍ: كَما يُقالُ: أبُو الشَّرِّ لِلشِّرِّيرِ، وأبُو الخَيْرِ لِلْخَيِّرِ. الرّابِعُ: كُنِّيَ بِذَلِكَ لِتَلَهُّبِ وجْنَتَيْهِ وإشْراقِهِما، فَيَجُوزُ أنْ يُذْكَرَ بِذَلِكَ تَهَكُّمًا بِهِ واحْتِقارًا لَهُ. السُّؤالُ الثّانِي: أنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ والخُلُقِ العَظِيمِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أنْ (p-١٥٥)يُشافِهَ عَمَّهُ بِهَذا التَّغْلِيظِ الشَّدِيدِ، وكانَ نُوحٌ مَعَ أنَّهُ في نِهايَةِ التَّغْلِيظِ عَلى الكُفّارِ قالَ في ابْنِهِ الكافِرِ: ﴿إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ﴾ وكانَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُخاطِبُ أباهُ بِالشَّفَقَةِ في قَوْلِهِ: يا أبَتِ، يا أبَتِ، وأبُوهُ كانَ يُخاطِبُهُ بِالتَّغْلِيظِ الشَّدِيدِ، ولَمّا قالَ لَهُ: ﴿لَأرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم: ٤٦] قالَ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ سَأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: ٤٧] وأمّا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَمّا بَعَثَهُ إلى فِرْعَوْنَ قالَ لَهُ ولِهارُونَ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ [طه: ٤٤] مَعَ أنَّ جُرْمَ فِرْعَوْنَ كانَ أغْلَظَ مِن جُرْمِ أبِي لَهَبٍ، كَيْفَ ومِن شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ الأبَ لا يُقْتَلُ بِابْنِهِ قِصاصًا ولا يُقِيمُ الرَّجْمَ عَلَيْهِ، وإنْ خاصَمَهُ أبُوهُ وهو كافِرٌ في الحَرْبِ فَلا يَقْتُلُهُ بَلْ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ حَتّى يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ ؟ والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ كانَ يَصْرِفُ النّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِقَوْلِهِ: إنَّهُ مَجْنُونٌ والنّاسُ ما كانُوا يَتَّهِمُونَهُ؛ لِأنَّهُ كانَ كالأبِ لَهُ، فَصارَ ذَلِكَ كالمانِعِ مِن أداءِ الرِّسالَةِ إلى الخَلْقِ فَشافَهَهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ حَتّى عَظُمَ غَضَبُهُ وأظْهَرَ العَداوَةَ الشَّدِيدَةَ، فَصارَ بِسَبَبِ تِلْكَ العَداوَةِ مُتَّهَمًا في القَدْحِ في مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وثانِيها: أنَّ الحِكْمَةَ في ذَلِكَ، أنَّ مُحَمَّدًا لَوْ كانَ يُداهِنُ أحَدًا في الدِّينِ ويُسامِحُهُ فِيهِ، لَكانَتْ تِلْكَ المُداهَنَةُ والمُسامَحَةُ مَعَ عَمِّهِ الَّذِي هو قائِمٌ مَقامَ أبِيهِ، فَلَمّا لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ المُداهَنَةُ مَعَهُ انْقَطَعَتِ الأطْماعُ وعَلِمَ كُلُّ أحَدٍ أنَّهُ لا يُسامِحُ أحَدًا في شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ أصْلًا. وثالِثُها: أنَّ الوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْتُمْ كالمُتَعارِضِ، فَإنَّ كَوْنَهُ عَمّا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ لَهُ الشَّفَقَةُ العَظِيمَةُ عَلَيْهِ، فَلَمّا انْقَلَبَ الأمْرُ وحَصَلَتِ العَداوَةُ العَظِيمَةُ، لا جَرَمَ اسْتَحَقَّ التَّغْلِيظَ العَظِيمَ. السُّؤالُ الثّالِثُ: ما السَّبَبُ في أنَّهُ لَمْ يَقُلْ: (قُلْ تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ) وقالَ في سُورَةِ الكافِرُونَ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] ؟ الجَوابُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: لِأنَّ قَرابَةَ العُمُومَةِ تَقْتَضِي رِعايَةَ الحُرْمَةِ فَلِهَذا السَّبَبِ لَمْ يَقُلْ لَهُ: قُلْ ذَلِكَ لِئَلّا يَكُونَ مُشافِهًا لِعَمِّهِ بِالشَّتْمِ بِخِلافِ السُّورَةِ الأُخْرى فَإنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ ما كانُوا أعْمامًا لَهُ. الثّانِي: أنَّ الكُفّارَ في تِلْكَ السُّورَةِ طَعَنُوا في اللَّهِ فَقالَ اللَّهُ تَعالى: يا مُحَمَّدُ أجِبْ عَنْهم: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ وفي هَذِهِ السُّورَةِ طَعَنُوا في مُحَمَّدٍ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى اسْكُتْ أنْتَ فَإنِّي أشْتُمُهم: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ الثّالِثُ: لَمّا شَتَمُوكَ، فاسْكُتْ حَتّى تَنْدَرِجَ تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: ٦٣] وإذا سَكَتَّ أنْتَ أكُونُ أنا المُجِيبَ عَنْكَ، يُرْوى «أنَّ أبا بَكْرٍ كانَ يُؤْذِيهِ واحِدٌ فَبَقِيَ ساكِتًا، فَجَعَلَ الرَّسُولُ يَدْفَعُ ذَلِكَ الشّاتِمَ ويَزْجُرُهُ، فَلَمّا شَرَعَ أبُو بَكْرٍ في الجَوابِ سَكَتَ الرَّسُولُ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: ما السَّبَبُ في ذَلِكَ ؟ قالَ: لِأنَّكَ حِينَ كُنْتَ ساكِتًا كانَ المَلَكُ يُجِيبُ عَنْكَ، فَلَمّا شَرَعْتَ في الجَوابِ انْصَرَفَ المَلَكُ وجاءَ الشَّيْطانُ» . واعْلَمْ أنَّ هَذا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى أنَّ مَن لا يُشافِهُ السَّفِيهَ كانَ اللَّهُ ذابًّا عَنْهُ وناصِرًا لَهُ ومُعِينًا. السُّؤالُ الرّابِعُ: ما الوَجْهُ في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ المَكِّيِّ حَيْثُ كانَ يَقْرَأُ: (أبِي لَهْبٍ) ساكِنَةَ الهاءِ ؟ الجَوابُ: قالَ أبُو عَلِيٍّ: يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ لَهَبٌ ولَهْبٌ لُغَتَيْنِ كالشَّمَعِ والشَّمْعِ والنَّهَرِ والنَّهْرِ، وأجْمَعُوا في قَوْلِهِ: ﴿سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ﴾ عَلى فَتْحِ الهاءِ، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿ولا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الفَتْحَ أوْجَهُ مِنَ الإسْكانِ، وقالَ غَيْرُهُ: إنَّما اتَّفَقُوا عَلى الفَتْحِ في الثّانِيَةِ مُراعاةً لِوِفاقِ الفَواصِلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب